الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا القسم هو الذي تؤيده حقائق التاريخ الحديث، فالأمة الإِسلامية آلمها جُرأة دولة باقتحام أسوارها متسلحة بأسلحة جديدة، عندها وجدت أن واجبها ليس الاستسلام، وإنما البحث عن سبب ضعفنا، وتحصيل أسباب قوتنا بأنفسنا دون انتظارها من عدونا، فلن يرضى أبدًا ذلك العدو بمنحنا أسباب قوتنا. وأسباب قوتنا منها ما هو داخلي وهو الأهم، ومنها ما هو بتحصيل الأسباب المادية، ومن ذلك اقتباسها وأخذها من تلك الأمم وإن كانت عدوّة لنا، مع أن هذه العلوم كانت من صلب حضارتنا وأبدع فيها المسلمون يومًا ما، فهم لا يأخذون شيئًا غريبًا عنهم؛ بل يعيدون النظر في جزء من حضارتهم فرطوا فيه وأهملوه نتيجة الضعف العام الذي أصاب الأمة، والضعف قد يصيب الأمم، إلا أن أمة الإِسلام وإن ضعفت فعندها مصدر قوتها ولديها إمكانية العودة إلى الصدارة من جديد.
مواقف جديدة لبعض شيوخ الأزهر من العلوم العصرية:
وفي هذا الإطار يمكننا إدخال بعض مواقف فضلاء ذلك العصر مثل المؤرخ المشهور "عبد الرحمن الجبرتي"، وكذا الشيخ "حسن العطار" أحد شيوخ الأزهر وغيرهما، ممن عاصر تلك الحملة واطلع على ما عند القوم من ترتيب جيد للعلوم المادية وما بني عليها من ثمار صناعية مختلفة، ومن ثم حرصهم على حث المسلمين في تحصيلها، أو حرصهم بأنفسهم على التعرف عليها، وسنقف مع هذين العلمين، لنرى حقيقة علاقتهما بالحملة الفرنسية لاسيّما البعثة العلمية.
أما موقفهما من الحملة فهو موقف كل مسلم، حيث يراها احتلالًا يجب إزالته، وأن أهلها يقصدون إضعاف الأمة ونشر مفاسدهم بين المسلمين مع نهب خيرات البلاد، وهذا خلاف مواقف الكثير من نصارى العرب والقبط ممن يراها فرصة لطرد المسلمين أو إضعاف سلطتهم. بقي النظر في طريقة تعرفهم على النشاط العلمي داخل الحملة ودورهما في حثّ المسلمين على تحصيل العلم النافع منها.
أ - عبد الرحمن الجبرتي:
حرص الشيخ "الجبرتي" -كأي مؤرخ- على وصف ما شاهده في المجمع العلمي وصفًا دقيقًا بحسب الظاهر منه، ولا شك أن هذا الوصف يغري كل من
اطلع على كتابه بمعرفة ما عند القوم، فمن ذلك وصفه لمكتبة المجمع، ففيها جملة كبيرة من كتبهم، وذكر اجتماعهم اليومي قبل الظهر بساعتين، فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر، ثم يصف موقفهم ممن يزورهم من المسلمين بأن من يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم، ويتلقونه بالبشاشة والضحك وإظهار السرور بمجيئه إليهم، وخصوصًا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعًا للنظر في المعارف؛ بذلوا له مودتهم ومحبتهم، وذكر أنه زارهم مرارًا وأطلعوه على ما عندهم من كتب وخرائط، ومن ذلك كتب إسلامية مترجمة بلغتهم مثل كتاب البردة للبوصيري، ثم ذكر الأقسام الموجودة فبدأ بـ "توت" الفلكي وأدواته العجيبة، ثم قسم خاص بالمصورين يصوّرون الحيوانات والنباتات وغيرها؛ وذلك تبعًا لترتيب العلوم الجديدة: الجيولوجيا والأحياء وغيرها.
ثم قسم أفردوه للمهندسين وصناع الدقائق، ثم قسم "الحكيم رويا" الكيميائي بآلاته ومساحيقه وقدوره العظيمة، ثم وصف بعض العمليات الكيميائية التي أجريت أمامه واندهش منها الحضور (1) ولاسيّما تجربة إصدار التيار الكهربائي.
لا شك أن هذه الزيارات من قبل بعض المشايخ قد تفيدهم في معرفة حقيقة الغزاة، بخلاف من زعم أنهم حصّلوا منها معارف، فهذه غير ممكنة إلا بتعلم، وسماح الفرنسيين بتلك الزيارات ربما كان هدفها استمالة الأعيان والمشاهير لاسيّما وهم يطلعون الزوار على أمور الغاية منها في الظاهر الفرجة على دهشة المتفرجين، وفي ذلك يقول الفرنسي "كريستوفر": "لقد توقع الفرنسيون بالغرور المعهود في الغربيين أن يستجيب الشيوخ لعجائب الصناعة بدهشة صبيانية كدهشة الشعوب المتوحشة. ولعله لم يخطر لهؤلاء الصناعيين أنهم هم السذج الأقل بصرًا بشؤون الدنيا من الشيوخ الذين لم يبد عليهم التأثر بما شهدوا. لقد تأثر الشيوخ ما في ذلك ريب، ولقد أعجبوا، إن كان بين الجبرتي وبينهم شبه ولو قليل، بهذا الانقطاع للعلم، أكثر من إعجابهم بعرض الألاعيب والحيل الرخيصة، ولكنهم أبوا الخضوع لسيطرة الغريب. وبعد قرن من الزمان تعلمت آسيا وأفريقيا كل هذه الحيل ونفضت عنها هذه السيطرة. فأي
(1) انظر: مشاهدات الجبرتي في تاريخه 2/ 164 - 166.