الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعجزات على انتشار الدين وقبوله، ومع ذلك فموقفنا يختلف عما يثبت منها للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن الباب إنما هو لتوضيح كيف أثرت كل تلك المكذوبات في صرف هؤلاء العلماء العقلاء عن قبول الحق.
المثال الثاني: اعتقادات النصارى حول الأرض:
لقد تكونت اعتقادات خاصة بالأرض في اللاهوت النصراني، وينسبونها إلى الوحي والنبوة مع أنها في حقيقتها ما هي إلا إضافات أحبارهم أو من فهمهم التي لا علاقة لها بما أوحاه الله سبحانه لأنبيائه. وقد تسببت هذه الاعتقادات بتكوين علاقة سلبية بين مفهوم الدين ومفهوم العلم، وإلصاق الخرافة بالدين بينما العقلانية مرتبطة بالعلم. فالكنيسة خلطت الحق بالباطل في هذا الباب وشوهت صورة الحقيقة بما أضافته من ضلال، والأدهى من ذلك ربط كل تلك الضلالات بأصلب المعتقدات عندهم، مما يجعل أي مخالفة لها تعد ذات خطورة كبيرة ويلقى صاحبها أقسى العقوبات.
نجد ضمن معلومات الكنيسة حول الأرض بأن الله سبحانه خلق الأرض وجعلها على رأس ثور مع ما في ذلك من مخالفتها لبدائه العقول، ونفي كروية الأرض، وكون أحد المعتقدات حولها أنها مركز الكون، والتعليل لذلك بأن تجسد المسيح كان على الأرض، فالمكان الذي سار عليه ابن الرب وتمّ فيه التجسد لابد أن يكون مركز الكون، وأن يكون ثابتًا لا يتحرك (1)، والناس لا يشعرون بحركتها رغم ما يقوله أصحاب النظرية الجديدة من "كوبرنيكوس" و"كبلر" وغيرهما (2).
= يطلق عليه في الكتابات المعاصرة (المركزية الغربية). انظر نقاش هذا المفهوم في: المركزية الغربية. .، د. عبد الله إبراهيم.
(1)
انظر: العلمانية. .، الحوالي ص 151 - 152.
(2)
اعتراضات الكنيسة والناس عمومًا آنذاك حول حركة الأرض كانت اشتباهًا حسيًا، فالجميع لا يشعر بهذه الحركة، ورغم سرعة ذلك الدوران للأرض فالأجسام تسقط إلى الأرض دون أن تتأخر نقطة سقوطها إلى نقطة خلفية بسبب الدوران، ولم تتخلف الطيور في الجو رغم سرعة دوران الأرض تحتها. وقد كانت هذه من بين الصعوبات التي قابلت "كبلر" فعسُرَ عليه إقناع الناس بها وهم لا يشعرون بتلك الظواهر. انظر: يوهانزكبلر وعلم الفلك الجديد، جيمس ص 24 - 25، 181.
واجهت الكنيسة أول نظرية علمية حديثة بمثل هذا الخليط المسمى زورًا بالتصور الديني، وهي مواجهة محسومة من البداية، وكانت لصالح النظرية العلمية، إلا أن ذلك تمّ بعد أن دفع العلماء والعقلاء ثمنًا باهظًا، وخسرت الكنيسة بعد أن خلّفت وراءها ازدراء العقلاء لموقفها وكانت مصيبة العلم أن عمم ذلك الموقف على كل دين.
لقد رسمت الكنيسة صورة لا تُمحى بسهولة، صورة مفادها أن الدين لا يقبل العلم ولا يتوافق معه؛ بل هو عدوّ له، بخلاف المؤثرات الأخرى في مسيرة العلم، فهي قد قبلت العلم ولكنها انحرفت به في ظل انضمامها للجسد العلماني وتحولها إلى عضو من أعضائه، تسعد بسعادته وتتألم لألمه وتتحرك وفق غاياته.
ومما عمق موقف الكنيسة تجاه العلم -وهي الممثلة للدين هناك- تلك الحلول التي قدمتها الكنيسة للخروج من المشكلة، وهي حلول مؤقتة، حبوب مسكنة ما تبرح أن يذهب مفعولها ويرجع الصراع إلى الواجهة، فهي في وقت قوتها اتخذت موقف التكفير للمخالفين وتكذيب نظرياتهم ورميهم في السجون أو إعدامهم دون أن تملك معيار الحقيقة، وعند ضعفها وانتشار التكذيب بين الناس لمقولاتها؛ فإنها تعمد إلى القول بمجازية لغة النصوص الدينية ورمزيتها، وعدم النظر إليها نظرًا حرفيًا، بل لابد من التأويل الذي يتم في كل عصر بما يناسبه أو القول عند بعض عقلائهم بمبدأ الظاهر، فالنصوص التي يفهم منها أن الشمس هي التي تدور حول الأرض تفسر بالظاهر، أي أن هذا هو ما يظهر للناظر العادي. وعندما شاعت -مثلًا- نظرية الانفجار العظيم في علم الفلك المعاصر اعتمدتها الكنيسة حتى لا تتهم بالتخلف عن ركب العلم، مع أن العلم قابل للتغير والنظريات قابلة للتطور، ولكن الكنيسة بسبب أخطائها المتتالية ركبت قطارًا لا تستطيع تغيير مساره.
والحديث يطول مع مشكلة الكنيسة في العلم الحديث، والخلاصة لما سبق بأنها مشكلة ذات جذور قديمة بدأت مع دخول النصرانية لأوروبا وقيامها بخلط مكوناتها المحرفة بمعارف أوروبا الوثنية، ثم ترسخت في عصور لاحقة. ونشأت الكنيسة كمؤسسة ترعى النصرانية وتهتم بالعلم، ومع التطورات الاجتماعية وبروز معارف جديدة أدخلت نفسها في نزل مع تلك المعارف وهي غير مؤهلة لذلك، بسبب الجهل والظلم، فمعارفها مليئة بالجهل ومعاملتها للناس مليئة بالظلم. وقد