الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجمعيات المختلفة ما بين النافع المخلص وما بين المدسوس داخل الأمة يعمل لمصالح أطراف خفية أو علنية وهو الأكثر، ويبقى الجميع -بمن فيهم المخلص- في ظل الانبهار بالتجربة الغربية أُسارى لتلك التجربة، ولاسيّما فيما له علاقة بالتعليم والقانون والتشريع والحياة الاجتماعية. وقد انخرط الكثير منهم في مناشط التعليم في أثناء القرن الرابع عشر/ العشرين بأكمله تحت مظلة ذلك التأثير والانبهار، وربما العمالة عند بعضهم، كما كُوّن نظام تعليمي يعاني من داخله ذلك الانشقاق بين علوم الأمة والعلوم العصرية، انشقاق على مستوى التصور وعلى مستوى التطبيق، وما كان هذا ينبغي في ميدان العلم؛ لأن العلم لا يعرف الانقسام، الأصل فيه الصواب والنفع، ولكن مع ميلاد تلك التيارات المشبوهة في البداية، ثم التيارات المتغربة تحول العلم إلى أداة في الصراع يستخدمه هؤلاء وهؤلاء، مما تسبب في الانحراف بالعلم ونظرياته ومناهجه ومسائله عن مساره الحقيقي.
[2] أتباع سان سيمون
(1):
لقد نجح "سان سيمون" في إيجاد أتباع يحملون أفكاره ويسعون في نشرها، ومما يهمنا في هذا المبحث أن سيمون وأتباعه ممن ربطوا دعوتهم بالعلم الحديث، في محاولة منهم لتمثيله على المستوى الفلسفي والاجتماعي وتوجيه العلم الجديد بما يخدم فكرتهم الاشتراكية، لقد وضع العلم في صلب مذهبه وجعل العلماء في مكانة عالية، فهو يقول في أحد رسائله:"إن الحل الوحيد لتحقيق سعادة الإنسان هو القضاء على النظام الاجتماعي القديم، وأن يتولى العلماء والفنانون -المنتخبون- إدارة شؤون العالم. ودعا مجلسهم باسم "مجلس نيوتن" نسبة إلى عالم الفيزياء البريطاني الذي قال عنه: "إن الله قد وضع نيوتن بجانبه وعهد إليه بمهمة تنظيم البشر" (2)، وسيتطور هذا الفكر مع أتباعه، ولاسيّما سكرتيره "كونت" الذي أصبح فيما بعد رائد الفلسفة الوضعية التي ترى أحقيتها في تمثيل العلم.
لقد انطلق أتباع "سيمون" إلى أنحاء متفرقة من البلاد الإِسلامية، إلى سوريا
(1) راجع الفصل الأول حول بعض آرائه.
(2)
النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري ص 163.
ولبنان وفلسطين والحجاز، والذي يظهر أنهم لم ينجحوا بقدر ما نجحوا في مصر التي أتاحت لهم فرص النجاح أكثر من غيرها؛ وذلك أن مشروعات "محمَّد علي" قد اجتذبت جماعات أوروبية مختلفة (1)، وكل جماعة تحاول تطبيق أفكارها على ما يرونه أرضًا بكرًا تصلح للتجريب، وكان منهم أتباع سيمون. ورغم وجود بعضهم مع الحملة الفرنسية إلا أن نشاطهم الفعلي ابتدأ في عهد محمَّد علي، فعن طريق القنصل الفرنسي في الإسكندرية وصلوا إلى محمَّد علي وكان القنصل مهندسًا مشهورًا ومتعاطفًا مع السيمونيين (2).
كان بينهم عشرة مهندسين وتسعة أطباء وثلاثة زراعيين وبعض الأدباء والرسامين والنحاتين والمحامين وغيرهم (3)، تحدوهم رغبة في نشر تعاليم أستاذهم، ووجدوا في دولة محمَّد علي فرصتهم، وكان من أفكار أستاذهم أهمية تكوين "الدولة الصناعية التي يقودها العلم الحديث"، والانتقال بمجتمع تلك الدولة من "النظام الإقطاعي اللاهوتي إلى النظام الصناعي العلمي"، وإذا كان الاعتقاد والإيمان قوة شاملة في الماضي، فيجب في المستقبل أن تحل المعرفة محل ذلك، وأن تتحد الصناعة والمعرفة لتحكما العالم (4).
اهتم هؤلاء بالتصنيع والتعليم والمشروعات العمرانية وذلك أن اشتراكية سيمون يتطلب الوصول إليها مثل هذه الإعدادات والتجهيزات (5)، فتحركوا في كل جهة أتاحها لهم "محمَّد علي" في المشروعات العمرانية والهندسية أو بالتعليم في معاهده المتخصصة، وفي ذلك يقول "قيس عزاوي":"توافد أتباع سان سيمون الفرنسيون المطرودن من إستانبول إلى مصر لكي ينظموا وزارة التعليم العام"(6)، ومع الاختلاف حول حجم الدور الذي لعبه أمثال هؤلاء إلا أن هناك من يرى أن الاشتراكيات التي ظهرت فيما بعد داخل العالم الإِسلامي لا يستبعد
(1) انظر: مقالة: "السان سيمونيون كرواد لعصر النهضة في مصر"، د. رفيق سكري، مجلة الفكر العربي، عدد 39 - 40/ ص 150 - 155 سنة 1985 م، بيروت.
(2)
انظر: المرجع السابق، وانظر: النهضة والسقوط. . ص 163.
(3)
انظر: المرجعين السابقين، المعطيات نفسها.
(4)
انظر: المجلة السابقة ص 151.
(5)
انظر: المرجع السابق ص 151 - 152.
(6)
الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس عزاوي ص 56.
ارتباطها بهم (1)، وهناك من يذكر أسماء مشهورة في الواقع المصري آنذاك على أنها كانت ذات صلة بالسيمونيين ومتأثرة بهم (2). ومع الإقرار أن مشاركاتهم خدمت الجانب الدنيوي في مصر مما يجوز أخذه عن غير المسلمين، إلا أن القوم لم يكونوا فقط أصحاب مساعدات مادية بقدر ما كانت تختفي خلف تلك الانجازات المادية أهداف فكرية يراد بحسب الممكن زراعتها في تربة مصر، وربما من أخطرها إعطاء العلم المادي والصناعة المكانة المميزة في حياة البشر حتى على حساب الدين، بل إن المشروع الفكري لهم يتضمن إقصاء الدين وإحلال العلم العصري مكانه، وقد كان تصورهم أن وجود العلم والصناعة سيقضي حتمًا على الإقطاع والدين والميتافيزيقا، فلا يشترط إعلان العداء للدين، بل يكفي نشر الصناعة والعلم وذلك العمل كفيل بإزاحة الدين عن المجتمع.
لقد كانت هذه الفكرة من سيئات التيارات الفكرية الحديثة في أوروبا، ولاسيما تلك التي ظهرت في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، حيث تؤكد أن سعادة البشرية هي في العلم والصناعة والتقدم المادي، وأن العناية بها سيكفل لتلك المجتمعات التخلص من الدين، وسيكون العلم بديلًا عن الدين ويلبي الحاجات الإنسانية التي كان يقدمها الدين، وقد نمت هذه الفكرة بعد انتصار الثورة الفرنسية وفرض العلمانية، ثم انتفاشة التيارات المادية والوضعية، ولكن هذه المقولة بدأت تفقد بريقها وأنصارها في القرن الرابع عشر/ العشرين نتيجة أحداث سياسية مخيفة وكشوفات علمية جديدة، وتطورات فكرية تؤكد أن البشرية لا تستطيع العيش دون دين وإن تقدمت ماديًا وعلميًا (3).
ومن مصائب العالم الإِسلامي أنه وقت طلبه التحديث والنهضة احتك بأوروبا وقت انتشار مثل هذه الأفكار وتحمس دعاتها لنشرها في كل مكان يستطيعون الوصول إليه، وكان أشهرها في تلك المرحلة، ولاسيما داخل العالم الإِسلامي أتباع "سان سيمون"، فكان لدخولهم على خط نهضتنا ومحاولتنا الإصلاح والتحديث أثرها على مشروعات العالم الإِسلامي؛ لأن من يقوم بتلك
(1) انظر: النهضة والسقوط. . . . ص 163.
(2)
انظر: المجلة السابقة (الفكر العربي) ص 152 - 153.
(3)
انظر: الفصل الأول ص 303.
المشروعات في تلك المرحلة قلّة، فمن تمكن من توجيه تلك القلة تمكن من بذر ما يشاء داخل مشروعاتنا، وكان يمكن قيام مشروع التحديث دون الارتطام بتلك الفكرة السيمونية وأمثالها، ولكن ذلك يتطلب من المسلمين قوة دينية وعلمية وفكرية وسياسية تجعلهم قادرين على توجيه دفة التحديث بما يناسب هويتنا، وهو ما كنا نفتقده في تلك المرحلة، مما سمح لناشطي التيارات الفكرية بوضعنا ضمن حقل تجاربهم، وضمن مجال دعوتهم.
مما سبق يظهر دور الماسونية والسيمونية في الانحراف بمسيرة العلوم العصرية، حيث كان لهم مشاركة مهمة أول دخولها للعالم الإِسلامي، ومن أخطر ما أسهموا به تعميق مشكلة علمنة العلوم العصرية، وتحويلها لأداة في مشروعاتهم الفكرية، وأخطر تلك المشروعات هدم الدين أو إقصاؤه وإهمال العناية به. فيتحول العلم معهم من علم نافع للأمة إلى علم خطير عليها، وزاد من السوء قلة من يدير وضع العلم العصري، وقد يسر لهم ذلك إمكانية التوجيه والتأثير.