الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منافذ العبور لذلك هي وضع فلسفات جديدة تقمص روح العلم الحديث أو المشاركة في رسم مناهج العلم، وكانت بداية ذلك مع مفكرَين مشهورَين هما "ديكارت" الفرنسي ممثل الاتجاه الفلسفي العقلاني الحديث و"بيكون" الإِنجليزي ممثل الاتجاه الفلسفي التجريبي الحديث، فافتتحا خطين فكريين جديدين في الفكر الغربي "العقلاني والتجريبي"، وقد كان للاتجاهين دورهما في خدمة العلم وتطويره مما لا ينكره أحد، وفي الوقت نفسه أسهما وفي مستويات أخرى في صياغة المناهج الجديدة المناسبة لحركة العلم والفكر الجديدة، ولكن كان للاتجاهين أيضًا الكثير من المساوئ على مسيرة العلم الحديث، وهذه المساوئ هي ما أحاول كشفه في هذا المبحث وبيان أثره على الانحراف بمسيرة العلم وعلى دوره في رسم علاقة سلبية بين العلم والدين مكتفيًا في ذلك بأهم الاتجاهين صلة بالعلم وهو الاتجاه التجريبي.
ولنتذكر هنا بعض صور الانحراف بالعلم قبل بيان دور هذا الاتجاه، فيكون الانحراف بالعلم عندما يزعم المنحرفون به أنه سندهم في إبطال الدين أو إنكار الغيب أو القول بالإلحاد أو ما يدور في هذا الباب، ويكون الانحراف به أيضًا عندما يحاول البعض تطبيق مناهجه على ما لا يناسبه التطبيق من أمور الدين الغيبية، ويكون الانحراف بالعلم إذا ادُعي له الشمول والكفاية للبشر وعدم حاجة المجتمعات لغيره، ويكون الانحراف به أيضًا عندما تتولى مجموعات ملحدة الحديث باسمه وتتولى استغلال ثماره في دعم مبادئها المخفية والمعلنة، وقد قام بعض رواد الاتجاه التجريبي بكثير من هذه الأمور.
الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي -وهم التسمية وحقيقة الاتجاه:
من بين الأوهام التي عرفها الفكر الغربي الحديث تلك الصلة على مستوى التسمية بين الاتجاه التجريبي والعلم التجريبي؛ إذ يُخيّل إلى البعض بما أنهما يشتركان في التجريب فهما من باب واحد، ويعني أنهما القوة والمتانة نفسها، وأن حقائقهما علمية بما فيه الكفاية، فإن الاتجاه التجريبي الحسي لم يشتهر بهذا الاسم إلا بعد النجاحات التي حققتها العلوم التجريبية، وإذا كانت نجاحات العلم قد وقعت في الدرجة الأولى بعد النجاح في استخدام المنهج التجريبي عصب العلوم الحديثة فإن الاتجاه الفلسفي التجريبي يدعي لنفسه أنه هو المؤهل
لرسم خطوات ذلك المنهج، وبيان أصوله وقواعده، ووضعه بصورة تصلح للتطبيق فيما بعد. وعندما يقوم الاتجاه التجريبي بهذه المهمة الفكرية لا يخلو من خلطها بأيدلوجيته الحسية، فاستأثر بالعلوم أو أخذ حصة الأسد منها، وأقام عليها فلسفة حسية مغالية أصبحت فيما بعد مرجعية لمن يتوهمون فيها العلمية.
ترى "التجريبية" بأن المعرفة الحقيقية الموجودة في العقل هي ما طبعته الحواس فيه (1)، ولذا تسمى بالتجريبية الحسية مقابل "العقلية" التي ترى بأن للذهن أثرًا في تشكيل المعرفة من خلال مواده القبلية التي تتفاعل مع معطيات الحس، فيجعلون لتلك المواد القبلية دورًا في صناعة المعرفة، أما الاتجاه الحسي فلا أثر قبلي فيه وإنما العقل صفحة بيضاء تشكله الحواس وتطبع عليه المعرفة.
وتبعًا لذلك يرى الاتجاه التجريبي بأن "العالم الطبيعي هو المجال الواقعي الوحيد، الذي يمكن معرفته عن طريق التجربة الحسية"؛ لأنّه الوحيد الذي يُحسّ ولا طريق لمعرفته إلا بمناهج العلم الطبيعي. والعلم الناتج عن ذلك هو العلم الحقيقي الذي يمكن التحقق منه بالتجربة الحسية. ويصبح العالم الطبيعي هو الحقيقة الوحيدة فقط فلا مكان لغيره، ولا يوجد عالم آخر غير العالم الطبيعي، والكون لا يعتمد على شيء خارج عنه (2).
وتبرز هنا أهم الإشكاليات المنهجية في هذا الاتجاه وذلك بحصره المعرفة الوحيدة المقبولة بتلك المعرفة الناتجة فقط عن طريق الحس واشتراط وجود مماثل لها في الواقع أو أن تكون انعكاسًا لما في الواقع، فهي تُخرج قضايا الغيب من حيّز المعرفة المقبولة، كما أن مصطلحي: الحق والوحيدة المخصصين عند الاتجاه التجريبي بالمحسوسات فقط يحملان في لحمتهما استبعاد كل معرفة حقة أخرى لا تأتي عن طريق الحس. وبسبب ذلك كان الاتجاه التجريبي الحسي والوضعي فيما بعد نافرًا كل النفور من الدين والغيب والوحي؛ لعدم خضوعها لميزانهم الحسي. ومن الطبيعي أن تكون المعرفة العلمية الحديثة مرتبطة بالمحسوسات؛ لأن عالمها هو عالم الحس، ولكن مشكلة المنهج التجريبي
(1) انظر: نظرية المعرفة، د. محمود زيدان ص 24.
(2)
انظر: نظرية المعرفة، د. عادل السكري ص 64 وما بين القوسين بنصه.