الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخروج عليها، ومن أتى بجديد فلا يقبل منه لما في ذلك من ابتداع ومخالفة للأوائل، فإذا أضيف على ذلك تقديسها وإنزالها منزلة الوحي علم عند ذلك صعوبة إعلان موقف أو رأي جديد، والانتقال من نمط تفكير إلى آخر.
فإذا كانت الكنيسة بهذه المكانة والمنزلة ولها هيبة، ومعارفها لا يرقى إليها أي شك، وقد تحالفت مع الإقطاع والنبلاء والأمراء وتحالفوا معها، ثم يأتي من يضرب ببعض معارفها عرض الحائط، فلا شك أن نجاح مثل هذا يعرضها للانهيار، ومن ثمّ أطلق على أثر كوبرنيكوس ثورة؛ لأنه حطم من جهة علم الفلك القديم، والأهم من ذلك ضربته القاسية التي وجهها للكنيسة، لاسيّما وهو يشكك في معارفها العلمية التي يُحرم التكذيب بها.
2 - إحراق برونو يُشهر النظرية:
خرج كتاب "كوبرنيكوس" سنة وفاته، ودفن في مقابر القديسين، وسلم من التجريم إلى زمن "جاليليو"، إلا أن من قاد النظرية نحو الصدام مع الكنيسة شخص آخر يُدعى "جيوردانو برونو"(1548 - 1600 م) الإيطالي، ويعد أبرز فلاسفة عصر النهضة، دخل ديرًا للدومنيكان ثم بعد فترةٍ خلع ثوب الرهبنة، وكان كثير المشاغبة ضد الكنيسة، فيُجرّم مرّة ويعلن توبته أو يهرب. وبقي متنقلًا بين أوروبا يُدرّس علم الفلك والفلسفة الأرسطية، إلا أنه انقلب ضد فلسفة أرسطو وظل يُدافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وسجن أكثر من ست سنين، واتهم بثماني تهم منها التهكم على تجسّد المسيح وعلى القربان الأقدس، ويذكر "يوسف كرم" -وهو يميل للدفاع عن موقف الكنيسة عادة- بأن البابا أصدر "أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جاليليو بثماني عشرة سنة. . . ."، فرفض "برونو" الإنكار "فحكم عليه بالجرم، وبتسليمه إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم" فأعدم حرقًا بعد أسبوع. ."، وكلام "يوسف كرم" لا يتفق أوله مع آخره؛ فان الكنيسة لو كانت ستقبل علم الفلك الجديد ما وصل الأمر إلى تحريم كتاب كوبرنيكوس وطلبها من جاليليو الاعتذار عن أقواله الفلكية، وكذا فإن تعليقه الختامي يشكك في تلك المقدمة حيث قال في النهاية: "ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب
من الإعدام- فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا، جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا" (1).
ونحن أهل الإسلام نعلم بأن "برونو" قد خرج على الدين، وهو من أهل وحدة الوجود عند من عرّف بمذهبه؛ إلا أن الخروج أيضًا من الكنيسة، وكونها تتخذ من سلطتها مبررًا لإحراق المخالفين لها لا يمكن تبريره في عصرها ولا في عصرنا، وأنها بعملها هذا -لاسيّما وهي تُتهم بأنها أحرقته على ما قاله من صواب سواء في باب نفيه لتجسّد المسيح عليه الصلاة والسلام أو في أبواب الفلك- سَتُرسّخ صورة نمطية خطيرة في علاقة ما اصطلح عليه الدين بالعلم ورجال الدين برجال العلم، وسيُعَمم هذا الموقف على أنه يمثل كل دين، ويتخيل الناس أنه إن وجدت قوّة وسلطة لأي دين فستقوم بما قامت به الكنيسة من تعذيب أو إعدام أو تحريق لمخالفيها. وفي المقابل فإن قضية "برونو" التي اشتهرت في تاريخ الفكر هي في دفاعه عن العلم الجديد ونظرية كوبرنيكوس الفلكية لا أنها على معتقداته المخالفة للكنيسة؛ لاسيّما ومثل تلك المعتقدات شائعة في أوروبا، ولن يكون أكثر فسادًا في الاعتقاد من جماعة الإنسانيين ومع ذلك لم يُحرقوا.
و"برونو" لم يشتهر بجديد في الفلك بقدر ما اشتهر بدفاعه عن نظرية "كوبرنيكوس" ونشره لها، وهذا ما ميزه عن "كوبر"، فبينما خاف كوبر من إخراجها في حياته وبقي محتفظًا بها إلى يوم وفاته، فإن "برونو" يمثل الصوت الإعلامي البارز، وهو مشاغب أيضًا، صاحب لسان حاد على مخالفيه، وقد قاده ذلك إلى ما خاف منه "كوبرنيكوس"، وفعلًا ظلّت حادثته ماثلة أمام أعين بقية علماء الفلك. بقي ذلك إلى أيام "جاليليو" الذي كان ما إنْ يظهر فكرة حتى يسارع في التوبة والاعتذار عنها (2).
(1) انظر: تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم ص 32 - 34، وما بين القوسين من كلامه دون تصرف.
(2)
ذكر مجموعة من الكتاب السوفييت في موجز تاريخ الفلسفة ص 144 - 146، عن "برونو" أنه ممن يقول بامتداد الكون ولا نهائيته ومن ثمّ وجدوها فرصة كعادتهم مع الفرضيات في إنكار الخالق سبحانه، وهذه مشكلة ارتبطت بظهور النظريات العلمية، إذ تجد من =
ولكن هذه الهيبة التي كانت للكنيسة قامت على الكذب والظلم والجهل، والناس عادة وإن هابوا مثل هذه المؤسسات التي تتصف بما سبق فإنهم في داخلهم يمقتونها ويكرهونها ويفرحون بالخلاص منها يومًا ما، وهذا ما حدث تدريجيًّا في أوروبا مع المؤسسة الكنسية.
يجعل التيار العلماني من حدث إحراق "برونو" رمزًا للبطولة، ويستلهمون منه حججهم في الدفاع عن العلم في مواجهة الدين، ويتناسون أن الدين الحق لم يُمثّل في هذه الحادثة، وأن حادثة الإحراق كانت شائعةً في أوروبا، فلماذا تناسوا الدفاع عن بقية المحروقين إلا لهوى في النفوس، مع العلم بأن الإعدامات بصورها المروعة ظَلَّت تمارس حتى مع الأنظمة العلمانية المدافعة عن العلم والعلماء كما يقال (1)، ولا يعني هذا تبرير جرائم الكنيسة في حق الأبرياء بقدر ما يعني عدم السماح للعلمانيين باتخاذ مثل هذه الحوادث فرصة لمعاداة الدين بحيث يخلطون دين الحق مع أديان الباطل.
لا شك أن حدث إحراق رجل تعرفه أغلب أوروبا كبرونو سيكون له صداه الواسع في المجتمع الأوروبي، وسيبدأ الناس مناقشة سبب إحراقه. وكونه دافع عن نظام كوبرنيكوس الفلكي؛ فهذا الحدث سيدفع بهذا النظام الفلكي إلى الساحة الثقافية وسيتحاور الناس حوله بكثرة.
وهذا الحدث أيضًا أدخل الكنيسة في مأزق، فهي إما أن تثبت صحة كلامها في نفيها النظرية الكوبرنيكية أو تترك ذلك لأهل الفلك، وهم الأعلم في هذا الباب، ولا شك أنها كانت في حاجة إلى دعم من علماء الفلك لحفظ ماء
= المنحرفين تهيئهم لاستثمارها، فالماديون يرون بأن نظريات الفلك الحديثة تثبت عدم الخلق للكون وعدم وجود الخالق، وأن نظريات نيوتن تثبت عدم الحاجة إلى الاعتقاد القائم على أن الرب سبحانه يحفظ الكون ويدبره من السماء، وأن نظرية داروين تثبت أن الإنسان والكائنات الحية وجدت صدفة عن طريق الطبيعة والمادة، وهكذا، وهذا مما نفّر أهل الأديان منها فضلًا عن احتياطات المسلمين حولها.
(1)
مما يذكر في هذا الباب أن الثورة الفرنسية الداعية للعلمانية وحقوق الإنسان والمدعية للعلم قد أعدمت الكثير بما في ذلك طائفة من المفكرين والعلماء عند مخالفتهم لها سياسيًا، انظر: تاريخ الفكر الأوروبي. . . .، رونالد ص 277 وما بعدها، وممن سجنته الرياضي والفيلسوف "كوندورسيه"، وقد وجد ميتًا في السجن، انظر: موسوعة الفلسفة، د. عبد الرحمن بدوي 2/ 315 - 316.