الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء الذين يعيشون هاجس مناقشة نظرياتهم (1). ولذا فإن دراسة مثل هذه الجماعة أو نقدها يتطلب الرجوع إلى مصدرها وهذا ما ألمح إليه "باكان" حيث قال: "إن محاكمة التحليل النفسي بشكل سليم يجب أن تتم ضمن إطار تاريخ اليهودية وخصوصًا تاريخ الفكر الصوفي اليهودي"(2). وهكذا ظهرت هذه الجماعة وهذا المجال الجديد وكأنه علم يهودي، وممن شعر بذلك فرويد نفسه إذ خشي أن يُنظر إلى التحليل النفسي على أنه علم يهم اليهود، عندها "عمل بكل ما أوتي من قوة على أن يشجع غير اليهود على نشر التحليل النفسي في أوساط المجتمع"، إلا أن أشهر تلك المحاولات تمثلت في القصة المشهورة مع "كارل يونغ".
حادثة انشقاق كارل يونغ:
تشكل علاقة فرويد بتلميذه "يونغ" ونائبه فيما بعد حالة فريدة في تاريخ العلم، تمثل تلك العلاقة ما يشبه المعركة السياسية والعسكرية التي يبحث فيها المحارب عن ثغرة في خصومه ليدخل عليهم من خلالها، وكان يونغ هو الصيد الثمين للمحارب فرويد، وقراءة هذه العلاقة تفتح الباب لأسئلة كثيرة عن معارك النظريات العلمية عندما تكون خليطًا من الأهواء والانحرافات والعلم؛ لأنها لو كانت علمًا خالصًا واضحًا لما وجدت مشكلة من ناحية القبول.
تعرّف فرويد على الطبيب النفسي السويسري والفيلسوف عام (1904 م) بعد أن أرسل له "يونغ" بحثًا طبق فيه الأفكار الفرويدية على مرض الفصام، وإن كانا لم يلتقيا إلا في عام (1907 م). في هذه الفترة ما بين (1906 و 1910 م) بدأت شهرة فرويد العالمية لكنه وجد مشكلته بأن أغلب أتباعه هم من اليهود (3)، وقد مثّل ذلك عائقًا من القبول التام به، فكان فرويد يبحث عن أحد الأذكياء المقبولين من النصارى الذي يأخذ بدعوته وينشرها بين قومه.
قرر "فرويد" أن يكون "كارل يونغ" هو ممثله في عالم الأمميين ولم يكن قبول ذلك سهلًا بين الأتباع اليهود لاسيّما عندما قرر فرويد أن يجعل يونغ رئيسًا
(1) انظر: المرجع السابق ص 86 بتصرف قليل.
(2)
سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 23.
(3)
انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور، ص 145 - 147.
للجمعية الدولية للتحليل النفسي، عندها احتج اليهود، فقال لهم:"إن أغلبكم يهود. وبالتالي غير قادرين على اكتساب الأصدقاء للعقيدة الجديدة: على اليهود أن يكتفوا يفتح الطريق. من الضروري أن أنسج علاقات مع الوسط العلمي؛ لأنني أتقدم في السن، وقد تعبت من الهجمات المتواصلة عليّ. جميعنا في خطر. ثم أمسك سترته، وقال: "لن يتركوا لي ما أستر به ظهري. السويسريون سينقذوننا جميعًا""(1)، وكتب فرويد إلى أحدهم يدافع "عن انتساب يونغ إلى حركة التحليل النفسي بطريقة معبرة جدًا، قائلًا: "تذكر أيضًا، بأن يونغ مسيحي وابن كاهن. . . . وأكاد أقول بأن دخوله إلى ساحة التحليل النفسي أبعَدَ خطر رؤية تحول هذا العلم إلى قضية يهودية قومية" (2).
وهكذا -وتحت إشراف فرويد وفي عملية تاريخية عسيرة- تم نقل قيادة التحليل النفسي "من أيدي يهود فيينا إلى أيدي المسيحيين السويسريين. ووفقًا لذلك سيصبح يونغ، القديس بول، للدين الجديد. . . ."(3)، ولم يرض أتباعه بسهوله إلا بعد مساومات على أن يرأس يونغ الجمعية الدولية ويتنازل فرويد عن جمعية فيينا لأحد اليهود المشاكسين وهو ألفريد أدلر، وتمّ اقتناع الأغلب بأهمية إنقاذ التحليل النفسي "عن طريق توظيف المزيد من الأميين غير اليهود"(4)، فتحقق لهم بذلك الانتشار العالمي.
هذا الوضع يشعرنا أننا أمام محارب لا عالم، قائد سياسي أو ديني لا صاحب نظريات وأبحاث، كوّن نظريته ثم الجماعة التي ترعاها، ثم الدعاة من الديانات الأخرى، والخصومات الداخلية ليست حول مسائل علمية بقدر ما هي حول المكاسب في هذا الصراع، وهذه الحال أحد أهم ما لفت أنظار العقلاء حول الاشتباه بجماعة التحليل النفسي لاسيّما وهي ما زالت تخدم طائفة بعينها.
ومما زاد الأمر وضوحًا ما حدث عند انشقاق "كارل يونغ" وتركه لجماعة
(1) فرويد والتراث الصوفي اليهودي ص 58 - 59.
(2)
فرويد والتراث الصوفي اليهودي، من حاشية للمترجم طلال عتريسى ص 59.
(3)
مهمة فرويد. تحليل لشخصيته وتأثيره ص 86.
(4)
انظر: سيغموند فرويد مكتشف اللاشعور ص 156، وقد انشق كل من "يونغ" و"أدلر" عن أستاذهما، وكوّن كل واحد منهما مدرسة جديدة في علم النفس، وإن كانتا تدوران في فلك "فرويد".