الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في انتظام مناهجها بإسحاق نيوتن قرابة نهاية القرن. ولا غرو إذا شاهدنا الناس في تلك الحقبة لا يطيقون احتمال هدوء المناهج الكلاسيكية وسكينتها، فتلك الأجيال لم تر في أي شيء توازنًا أو استقرارًا. فهم الذين اكتشفوا وعثروا على قضايا أسطورية مرعبة، والعالم القديم البالغ من العمر ألفي عام بدا شظايا لأعينهم، وأخذ العالم الحديث بمحيطه الكفافي يرسل بومضات واهية، ويتراقص أمام بصر إنسان القرن السابع عشر فيلهمه حينًا ويرعبه أحيانًا" (1).
وبهذين الحدثين الداخليين: حركة مفكري عصر النهضة المائلة إلى اللادينية، وحركة الإصلاح الدينية؛ حدث إضعاف لسلطة الكنيسة القديمة واستهانة بما تحمله من علوم. ولكن الانتقال إلى عصر علمي جديد يحتاج لأمر آخر يساعد في النقلة؛ وهو ما أشرنا إليه سابقًا بعلوم ومعارف ومناهج يحصلون عليها تُبيّن ضعف أو خطأ ما ورثوه وأهمية تجاوزه.
[3] الأمر الخارجي: أثر العلم المنقول من بلاد المسلمين في ظهور الثورة العلمية:
المعتاد لمن تأمل في تاريخ البشر عدم وجود ظاهرة جديدة دون مقدمات تسبقها، وأسباب تتسبب في وجودها، حتى تلك التي تظهر فجأة فلابد من علل وأسباب إما ظاهرة أو خفية. ولا يخرج عن ذلك ظاهرة العلم البشري الحديث، وقد رأينا فيما سبق الظروف العامة المهيأة لمناخ فكري جديد، وهنا سنرى ظروف خاصة بالعلم ومن داخله تُسهم في تطوره، وكان على رأس ذلك الحجم الكبير والهائل من العلوم المنقولة من بلاد المسلمين قبل زمن الثورة العلمية، وهذه وقفة مع هذا الحدث المهم الذي تتجاهله كثير من الدراسات.
لقد كابدت أوروبا في عصورها الوسطى التخلف العلمي، بينما شهد العالم الإسلامي حضارة عظيمة وتقدمًا كبيرًا في هذه العلوم وغيرها، وقد أسهم هذا التراث العلمي الكبير الذي كوّنَه المسلمون بعد أن أخذه الغرب في حدوث ثورتهم العلمية، وذلك بعد أحداث دامية ألمّت بالعالم الإسلامي فأضعفت تقدم المسلمين وعصفت بحضارتهم، وقد ذكر "غوستاف لوبون" بأن الإسلام هو
(1) تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 46.
المحرك للعقل الأوروبي بعد أن أيقظه من سبات طويل (1).
وقد كان لهذه التركة العلمية الكبيرة المنقولة إلى الغرب أثر في إحداث أمرين مزدوجين: فمن جهة كشفت للمهتمين بالعلوم ضعف ما بين أيديهم، ومن جهة أخرى كانت أرضًا صلبة اتكأ عليها علماء الغرب في انطلاقتهم العلمية الجديدة.
لقد كانت إذًا الشرارة الأولى من الحضارة الإسلامية، وذلك بعد النقل الكبير لكثير من معارف المسلمين وترجمتها إلى لغاتهم التي بدأت بقوة من القرن (6 هـ - 12 م) تقريبًا وما بعده، حيث ازدهرت في تلك المرحلة عملية الترجمة، وتحولت وقتها أوروبا إلى ما يشبه ورشة عمل مستمرة -وقد حدث في صورة سابقة مختلفة نوع من هذا النشاط في بلاد المسلمين "في القرن الثالث الهجري/ الثامن الميلادي تقريبًا" عندما ترجمت حضارة اليونان وغيرها إلى بلاد المسلمين، وتُعد هاتان المرحلتان في الترجمة من أشهر فترات الترجمة بين الحضارات- فترجمت عن المسلمين علومًا نافعة ومناهج جديدة مثمرة قادت أوروبا إلى عصرها الحديث.
ومن أهم الأمور التي نقلها الغرب عن الحضارة الإسلامية: علوم قديمة طورها المسلمون وهذبوها، وعلوم جديدة أبدعها المسلمون يمكن إضافتها إلى حصيلة الفكر البشري، والأهم مما سبق المنهج الجديد -الذي أرسى دعائمه المسلمون- في طريقة البحث والنظر في العلوم الدنيوية، وهم بهذا يفتحون أعين الباحثين على أكثر من منهج في البحث والنظر بعد أن سيطر المنهج الصوري الأرسطي فترة طويلة (2).
وقد كان من عادة الكثير من باحثي الغرب التنكر لهذه الحقيقة، لاسيّما في مرحلة الغرور الغربي وتعصبهم للذات الغربية والاحتقار لكل الشعوب
(1) انظر: رحلة الفكر الإسلامي. . . .، السابق ص 96.
(2)
انظر: الموسوعة العربية العالمية، 16/ 363، 410 - 411، وانظر: التقييم الإبستمولوجي -المنهجي لمساهمات العلماء المسلمين وإضافاتهم في العلوم الرياضية والطبيعية من كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، د. محمد على الجندب ص 31 وما بعدها.
الأخرى، فقد تعصب المؤرخون الأوروبيون فترة اشتداد الروح القومية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (1)، إلا أنه في القرن الرابع عشر/ العشرين ظهرت دراسات لشخصيات غربية مشهورة -أكاديميًا وعلميًا- تُبيّن الأثر الكبير للحضارة الإسلامية في الثورة العلمية الحديثة، وأن هناك نقلة كبيرة حدثت للغرب بعد احتكاك أهلها بعلوم المسلمين وحضارتهم (2).
والعجيب بأن التيار التغريبي العربي يُغمض عينيه عن مثل هذه الحقائق، وإن تناولها فبحذر شديد وعلى استحياء، بل قد يهاجم من يتحدث عنها من كُتاب المسلمين، وكأنهم لا يريدون أن يُحسب للمسلمين مأثرة في هذا العلم، بينما تظهرُ في الغرب دراسات متلاحقة تركز على مناقشة هذه القضية وتفتح الحوار الأكاديمي حولها.
لقد اتخذ تعرّف أوروبا على الإسلام والمسلمين -في أواخر عصرها الوسيط، ثم فترة النهضة والإصلاح الديني إلى بدايات العصر الحديث- عدّة صور، وصاحبَ ذلك تكوين رؤية ذهنية في عقول الأوروبيين، ويهمنا الآن -في هذا اللقاء الحاسم والتاريخي بين أوروبا والإسلام أو بين الغرب والشرق- موقفهم من دين المسلمين وعلومهم النقلية والعقلية، وصلة كل ذلك بالتطورات الكبرى التي حدثت في عصر أوروبا الحديث، وأهمها باب الثورة العلمية.
منذ أن دخل الإسلام إلى أوروبا بداية القرن الثاني الهجري عن طريق بلاد الأندلس فإنهم لا يجهلون وجود المسلمين، ولاسيّما قياداتهم السياسية والدينية والفكرية. وبدأت تلك النبتة الطيبة الإسلامية تنمو في بلاد الأندلس وتزدهر وتعطي ثمارها، وجعلت من بلاد الأندلس منارة لأوروبا كلها، واشتاق كثير من أهل أوروبا للعيش فيها، ومنهم من قذف الله في قلبه نور الإيمان فأسلم، ومنهم من أحب بلاد المسلمين ولغتهم وثقافتهم مما دفع القيادات الأوروبية -السياسية والدينية- إلى محاولات كبيرة لتغييب شعوبهم في ظلام دامس وتضليلهم عن حقيقة الإسلام، ومع ذلك فقد فشل بعضها، يقول "بريفوت": "في كتابه -تكوين
(1) انظر: التفكير العلمي، فؤاد زكريا ص 134.
(2)
انظر تعليقًا مهمًا لمحمد قطب في كتابه: مذاهب فكرية معاصرة ص 70 وما بعدها.
الإنسانية في القرن التاسع -تعلم الكثير من المسيحيين على علماء الإسلام. . . . ثم يروي أن رئيس دير كلوني. . كان يأسف لما شاهده أثناء إقامته بالأندلس من تهافت الطلبة -من فرنسا وألمانيا وإنجلترا- على مراكز العلم العربية، ويضيف بريفوت قائلًا: العلم هبة عظيمة الشأن جادت بها الحضارة العربية على العالم الحاضر" (1). فها هي أهم دول أوروبا تقذف بأبنائها إلى الأندلس مع أنها جزء صغير من بلاد المسلمين، ولكنها كانت الأقرب إليهم، فما بالك ببقية بلاد المسلمين.
ومثل هذا الوضع لن يُرضي قيادات أوروبا، فنجد ما نقله "برنارد لويس" من "عبارات الأسى والامتعاض التي يعبر بها "الفارو". . . . في منتصف القرن التاسع -الميلادي- عما يشعر به إزاء سلوك الشباب من أمته: كثيرون من أهل ملتي يقرؤون شعر العرب وقصصهم ويدرسون كتابات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين، لا لينقضوا أقوالهم؛ وإنما ليتعلموا كيف يعبرون عن أنفسهم بشكل أكثر دقة وإتقانًا. . . . جميع الشباب النصراني من ذوي المواهب لا يعرفون سوى العربية والأدب العربي جديرًا بالإعجاب" (2).
وإذا كانت الأندلس نقطة اتصال سلمية -نوعًا ما- فإن هناك نقطة اتصال أخرى غير سلمية وقعت أيام الحروب الصليبية التي أتاحت للنصارى على مدى قرنين الاطلاع على الإسلام وعلوم المسلمين، وحدث لهم تأثر بذلك.
إلا أن أصحاب الأهواء السياسية والدينية في أوروبا لم يحسنوا استقبال الإسلام، وقاموا بكل ما يستطيعون من أجل إعاقة تقدمه عن طريق الحروب أو التشويه الثقافي، لاسيّما مع حدوث ثلاث فواجع للكنيسة ومعتنقيها، وهي: سقوط الأندلس بأيدي المسلمين، ثم خروجهم من بلاد الشام بعد احتلال دام أكثر من مئتي عام الذي كان يمثّل تعويضًا عن خسارة الأندلس، ولكن الفاجعة الأكبر كانت بسقوط القسطنطينية. فهذه الأحداث أوغرت صدر سياسيي أوروبا ومثقفيها ورجال الكنيسة ضد المسلمين وإسلامهم، وقاموا برسم صورة مشوّهة
(1) كتاب "بيت الحكمة" تونس ص 84، مقالة د. محمد السويسي:(انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب).
(2)
المرجع السابق ص 84.
عن الإسلام والمسلمين من أجل تنفير الأوروبيين من الإسلام، وكوّنوا مع الزمن تراثًا ثقيلًا من الأكاذيب يضغط على عقول الأوروبيين ويعمي أبصارهم عن رؤية الحقيقة، وما زال هذا التراث بمفاهيمه الأساسية يضغط إلى اليوم على تصورات الغربيين حول الإسلام.
هكذا كان الوضع: مدن إسلامية مزدهرة بالعلم والتقدم تغري العالم من حولها، وفي الوقت نفسه حقد دفين على الإسلام ظهر بوضوح عند فلول المهزومين في الحروب الصليبية وغيرها عبّر عنها مجموعة من رجال الكنيسة بأسلوب رخيص يعتمد على تزوير الحقائق أمام شعوبهم. وأمام هذا الوضع خلصوا إلى أهمية أخذ علم المسلمين من جهة، والامتناع عن الاستنارة بنور الإسلام من جهة أخرى. فكان من آثار الأول ولادة العلم الجديد في أوروبا، ومن آثار الثاني ولادة علم الاستشراق الذي ولد بقرار كنسي (1) لا ليتعلموا الإسلام؛ وإنما ليكون أداة في نقض الإسلام بحسب تعبير "الفارو" السابق ومسهّلًا لعمليات التنصير.
وهكذا ترسخت في الغرب طريقة أو منهجية -في أثناء الاحتكاك بالعالم الإسلامي- يمكن أن نطلق عليها اسم طريقة المسموح والممنوع وهي طريقة لا تخلو منها أمة من الأمم غالبًا أثناء احتكاكها بثقافة أخرى. فالمسموح به هو علوم المسلمين ومناهجهم العلمية، وقد يصل الأمر إلى الحث على تعلمها والتسابق إلى ذلك. أما الممنوع فهو دين الإسلام ونور الله في الأرض وهدايته إلى خلقه، وتجاوز أمر المنع إلى رسم صورة مظلمة عن الإسلام؛ ليصنعوا بذلك حاجزًا بين أقوامهم وبين الإسلام. ورغم كل جهود المنع وما صاحبها من تشويه وتلبيس إلا أن نور الإسلام قد تسلل إلى بعض العقلاء فأسلموا أو أنصفوه بين قومهم وقالوا كلمة الحق والعدل فيه.
وفي مقابل هذه الصورة الغربية نجد صورة مغايرة سلكها الجيل التغريبي في العالم الإسلامي في أثناء احتكاك المسلمين بالغرب، حيث تغيّرت منهجية أو طريقة "المسموح والممنوع"، فقد كان همّ التغريبيين نقل الأيديولوجيات والمذاهب والتيارات الفكرية الغربية، ونشطوا في ذلك نشاطًا كبيرًا، حتى ملأوا
(1) انظر: رؤية إسلامية للاستشراق، أحمد غراب ص 26.
أرض المسلمين من هذه الأيديولوجيات والمذاهب. وامتنعوا في المقابل -أو تكاسلوا- عن النافع والمفيد من العلوم الحديثة، وإنك لتجد لبعض المسلمين من المبتعثين للغرب ممن لا ينتسب لتيارات فكرية تغريبية جهدًا في نقل العلوم المفيدة أفضل مما لهؤلاء المحسوبين على الفكر والثقافة من المتغربين. فإذا كان الغرب -في بدايات نهضته- قد استفاد من علوم المسلمين؛ إلا أنه أخذ الفائدة الجزئية وترك الكلية، أخذ بعلوم المسلمين التي تنفع للدنيا وترك الإسلام الذي به سعادة الدنيا والآخرة، فما بال المتغربين لا ينقلون النفع الجزئي، بل نراهم ينقلون ما يفسد على المسلمين إسلامهم، والله سبحانه قد أنعم علينا بالإسلام ورضيه لنا دينًا، وما ينقله المتغربون هو في الغالب مما يتعارض مع الإسلام ويدخل الشبهات في قلوب المسلمين. وهم رغم معرفتهم بلغات أجنبية وعيش أكثرهم زمنًا في البلاد الغربية لم يقدموا شيئًا في باب العلوم النافعة إلا ما ندر، والناظر في المكتبة التغريبية لا يكاد يجد كتابًا نقل ما ينفع المسلمين، بينما يغلب على كل واحد أنه قد وجّه جُلّ نشاطه للتعريف بمذهب أو تيار أو شخص في الغرب، والأمة الإسلامية لن تنسى قُبح عملهم بعد أن نذروا جلّ وقتهم لنقل الأيديولوجيات الغربية التي لا حاجة لنا بها، بل إن أهلها يتركونها الآن، وفي ديننا غنى عنها، وفي المقابل تركوا ما يفيد المسلمين وما حثّ عليه إسلامنا من العلوم النافعة لحياة الناس الدنيوية.
والآن لنغمض العين على حرقة في القلب عندما حُرمت أوروبا من التعرف الصحيح على الإسلام بسبب تلك الحملة الصليبية من القادة السياسيين والدينيين، ومن أثر الجيل التغريبي العربي المشين في عصر المسلمين الحديث، ولنعد إلى سياق الثورة العلمية لنفتح العين مرّة أخرى على الأثر المهم الذي أثّرت به علوم المسلمين على تلك الثورة عندما نُقلت إليهم، وقد كانت سعادتهم أكبر لو نقل إليهم الإسلام مع علوم المسلمين.
وسأكتفي في هذه الفقرة بذكر ملخص صغير عن دور المنقول من علوم المسلمين في إحياء الحركة العلمية في أوروبا وقيادتها نحو الثورة العلمية، معتمدًا في هذا الملخص على كتابين متشابهين في مادتهما حول أثر علوم المسلمين في نهضة أوروبا العلمية وهما:"تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة"، والمجلد الأول من "تاريخ العلوم العام: العلم القديم والوسيط. من
البدايات حتى سنة (1450 م) " (1) حيث نجد فيهما مادة ثرية حول الموضوع، وسيكون الأول هو الأصل:
يورد مؤرخو العلم الدنيوي حقبة العلم العربي الكبرى بين القرن الثامن الميلادي والثاني عشر/ الأول الهجري والسادس؛ أي: ما يقرب من خمسة قرون، وسوف تقوم حركة "ترجمة" كبيرة في أوروبا لهذه العلوم، والتي سوف تُطلِق في الغرب بعد ترجمتها حركة فكرية كبرى أدت إلى نهضة القرن الثاني عشر/ الثامن عشر (2).
بدأت التسربات الأولى في القرن العاشر الميلادي (4 هـ - 10 م) وما قبله إلى عصر الترجمات الكبرى في القرن الثاني عشر وما بعده، وكانت طرق التسرب والتعرف متنوعة أشهرها طريقان (3): الأول في أوروبا عن طريق بلدين أو مملكتين إسلاميتين استلبهما النصارى فيما بعد الأندلس وصقلية، والثاني في الشام زمن الحروب الصليبية التي استمرت أكثر من قرنين؛ حيث قربتهم تلك الحروب من إحدى حواضر الإسلام الكبرى.
بدأ الأمر بقيام بعض الأديرة بترجمة الكتب العلمية، تبع ذلك بروز أشخاص ومدارس كان لهم أثرٌ كبير في تعريف الغرب علوم المسلمين، وكان منهم "جيربرت" الذي يُعدّه البعض أول ناقل مشهور لعلم العرب، كنقله الحساب وبعض الأدوات العلمية كالإسطرلاب، ثم ظهرت "مدرسة ساليرن" التي عنيت بعلوم المسلمين، وكان أحد مؤسسيها الأربعة يدرّس بالعربية، وأخيرًا جاء دور مميز لـ "قسطنطين الإفريقي" بنفس العمل.
(1) الكتاب الأول: تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطة، تأليف جونو وبوجوان. ترجمة د. علي زيعور، د. علي مقلد، والكتاب الثاني: تاريخ العلوم العام -المجلد الأول: العلم القديم والوسيط من البدايات حتى سنة (1450 م)، بإشراف رنيه تاتون، ترجمة د. علي مقلد، وانظر فصلًا مهما في: المقدمات التاريخية للعلم الحديث من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة، توماس جولد شتاين ص 109 - 144 بعنوان:(هبة الإسلام)، ترجمة أحمد حسان، وانظر: مدخل إلى التنوير الأوروبي، هاشم صالح ص 42 - 66، وانظر: تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، د. محمود المقداد ص 24 - 28، وانظر: أثر العرب في الحضارة الأوروبية، عباس العقاد، وانظر: الحضارة الإسلامية أساس التقدم العلمي الحديث، جلال مظهر.
(2)
تاريخ العلوم العام 1/ 455.
(3)
المرجع السابق 1/ 456.
امتد الجهد السابق في القرن العاشر والحادي عشر الميلادي تقريبًا (4 - 5 هـ)، ثم جاء بعد ذلك: عصر الترجمات الكبرى في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وهو قرن تحولت فيه أوروبا ومدنها العلمية إلى مراكز ترجمة لما عند المسلمين. يقول شارل هسكنس عن عمل الترجمة في ذلك العصر:"لم يكن عمل المترجمين منحصرًا في مكان خاص، بل إن النقل قد تمّ ببرشلونة وطرزونة وسيجوفيا وليون وبمبلونا، كما أنه ظهر أيضًا من وراء جبال البيريني بطلوزة وبيزبي وأربونة ومرسيليا، ولكن المركز الرئيسي للترجمة كان في النهاية مدينة طليطلة"(1).
وستتواصل جهود الترجمة وتتحول إلى نمط ثقافي سائد في أوروبا، فتظهر مدارس للترجمة في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري، ففيه:"تكاثرت التراجم من العربية إلى اللاتينية إلى درجة أن سارتون. . قسمها إلى أربع مجموعات: إيطاليو إيطاليا، الصقليون، وتراجمة مونبليه، ثم الإسبان. ."(2). وهكذا كان حال أوروبا في ما يقرب من أربعة قرون، نشاط كبير في الترجمة، يعجب منه الناظر في زمننا وهو ينظر في الحال التي نحن عليها، وربما بعض الناس اليوم لو قرؤوا مثل هذا الكلام ما صدقوه بعد أن انهارت قواهم المعنوية أمام الحضارة الغربية الحديثة في ظل هزيمة نفسية مؤلمة ربما يعالجها تذكر مثل هذا التاريخ.
كانت إيطاليا منطلق عصر النهضة الأوروبية، ولا غرابة وهي تلتصق ببوابة مهمة تُطل من خلالها على علوم المسلمين وهي صقلية (3)، وقد استفادوا منها كثيرًا، لاسيّما بعد استيلائهم عليها. لكن البوابة الكبرى لاسيّما في القرن الثاني عشر كانت الأندلس المنافسة لصقلية، وذلك بعد أن استولى عليها النصارى وقاموا بأحد أبشع المذابح المعروفة في التاريخ البشري، وأصبحت مركز التعلم الأول لأوروبا "والمركز الثقافي الكبير، حيث كان مثقفو أوروبا كلها
(1) كتاب "بيت الحكمة" التونسي، مقالة د. محمد السويسي: انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب ص 88، وليس المهم معرفة تلك المدن؛ لأن غرضي بيان أن أوروبا تحولت إلى ورشة عمل لترجمة الحضارة الإسلامية.
(2)
تاريخ العلوم العام 1/ 464.
(3)
كتاب بيت الحكمة السابق ص 87 - 88.
-بما فيهم الطليان- يأتون لاستقاء العلم من مصادره العربية" (1).
وممن عرف في هذه المرحلة "اديلار الباتي"(1090 - 1160 م) الذي تعلم في بلاده، ثم في بلاد المسلمين ولاسيّما مدرسة طليطلة (2)، وتشبع بالعلوم العربية، وله في ذلك مقولة:"هل من أحد غيري تعلّم على يد المعلّمين العرب سلوك درب العقل،. . . ."(3)، وكأن في ذلك نوع من الافتخار، وأصبح العارفون باللغة العربية والعلوم المنقولة من بلاد المسلمين هم رواد الثقافة والمقربون من الملوك والأمراء في أوروبا.
بدأت الطوائف المشهورة تعتني أيضًا بأتباعها، ويترجم مثقفوها ما ينفعهم من علوم المسلمين، ومن ذلك أثر أحد اليهود -سافاسوردا- الذي "ألف تأليفًا ضخمًا في العبرية، بقصد تفهيم العلم العربي للطوائف اليهودية في جنوب فرنسا"(4)، وقد كان لليهود أثر كبير في نقل علوم المسلمين إلى أوروبا أيضًا.
ها نحن نقترب من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وفيه تشهد أوروبا حركة علمية، ويبرز بقوة أثر "الجامعة" كمؤسسة علمية جديدة بعد أن احتوت ثمار العلوم المنقولة من بلاد المسلمين وانطلاقهم بها فيما ينفعهم، فبعد أن عاشت أوروبا ما يقرب من خمسة قرون في ظلمات القرون الوسطى على حسب تعبير مؤلفي تاريخ الفلسفة والعلم؛ جاءت يقظتها مع التأثيرات الإسلامية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، أعقبها ما أطلقوا عليه:"نهضة الجامعات والعصر الذهبي للعلم المدرسي في القرن الثالث عشر وبداية الرابع عشر"(5).
إلا أنه في هذا القرن (7 هـ - 13 م) قد فقد العالم الإسلامي قطعة غالية من
(1) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 183.
(2)
بعد احتلال النصارى لطليطلة (1085 م) حولوها إلى مركز لترجمة علوم المسلمين، وبرزت مدرسة طليطلة كأشهر نقاط العبور بين الشرق والغرب، فتُرجمت كتب "الخوارزمي" و"الحسن بن الهيثم" وغيرهما في الرياضيات والفيزياء. انظر: تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 188 - 189، وص 88 وما بعدها.
(3)
تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 184.
(4)
المرجع السابق ص 186.
(5)
المرجع السابق ص 168 - 169.
جسده كانت تشع بنورها على أوروبا كاملة وهي بلاد الأندلس، وقُضي على المسلمين فيها بصورة بشعة، وطاردوهم عبر محاكم التفتيش ذات التاريخ الأسود، وحاولوا طمس معالم الإسلام أينما وجدوها ما عدا العلوم النافعة لهم، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل تشويه صورة الإسلام في عقول شعوبهم، وسُدّت كل منافذ الدعوة إليه، وحُرم الأوربيون من التعرف عليه.
إلا أن التاريخ لن ينسى أثر الأندلس المسلمة في يقظة أوروبا النصرانية، ولن ينسى بأن الأندلس مع أختها صقلية وغيرهما بقيتا من القرن العاشر الميلادي إلى نهاية الثاني عشر تقريبًا مركز الإشعاع لهم ونقطة الاتصال بالحضارة الإسلامية. وإنما ذكّرت بهذه الحقائق لأن أصحاب الكتاب السابق حاولوا إغفالها بقولهم:"إن أهمية العمل الذي تحقق سابقًا -أي: في القرنين الحادي عشر والثاني عشر-، وتراجع الإسلام في إسبانيا، وبذات الوقت تصاعد المسيحية؛ كل ذلك غير إلى حدٍ ما في القرن الثالث عشر سمة المركزين الكبيرين للترجمة: إسبانيا وصقلية، وبدلا من استقبال الثقافة العربية بشكل سلبي خالص، قام نوع من النشاط الخلاق بفضل تأثير ملكين متنورين: فريدريك الثاني وألفونس العاشر ملك قشتالة"(1). فهم يغفلون المجازر الوحشية التي حدثت للمسلمين، ويصورون المسألة كأنها فقط تراجع للإسلام وتقدم للمسيحية، وكأن المسألة تمت بتحول طبيعي وسلمي.
وقد تحدثوا عن أثر الملكين المتنورين الهام في نقل العلوم من بلاد المسلمين إلى أوروبا ودمجها بالحياة العلمية والثقافية، إلا أنه لا يخفى بأن ملوك أوروبا آنذاك ومن خلفهم رجال الكنيسة كانوا يتحركون باتجاهين: أحدهما: قيادة الحروب الصليبية ضدّ المسلمين، والثاني: ترجمة علوم المسلمين إلى لغات شعوبهم. ومن ذلك ما قام به "فريدريك" من مراسلات "لملوك الشرق" للاستفادة مما عندهم من العلوم، ورعايته لمجموعة كبيرة تتقن العربية من العلماء ليترجموا له علوم المسلمين، وأغلبهم ممن درس في بلاد المسلمين أو عاش فيها، ومن أشهرهم "ميشال سكوت" و"ليوناردي بيزا"، ويظهر أن هذا الملك قد فتح عيون أوروبا لطريقته، فقاموا بفتح بعض نوافذهم لاستقبال شمس الشرق كألفونس
(1) تاريخ الفلسفة والعلم (الأصل) ص 190.
العاشر وغيره، ومع ذلك فلا ننسى بأن هؤلاء قد أجرموا في حق أممهم عندما حرموهم من معرفة الإسلام بما وضعوه من حاجز بين شعوبهم وبين الإسلام، أما ما نقلوه من علوم المسلمين مما ينفع في الدنيا فقد ظهرت ثمرته في مولد العلم الجديد.