الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهم أحق الناس بخيراته ويجدون التبرير لأنفسهم في توظيفه لخدمة مبدئهم.
ويمكن أن نطلق على آليتهم في الاستغلال للعلم بآلية "الربط والتعميم"، فمن خلال آلية "الربط" يبحثون عن نقاط مشتركة بين المذهب المادي وبين العلم، يؤكدون من خلالها ارتباطهم المزعوم بالعلم. وأما "التعميم" فيأتي في باب استغلال العلم -الصحيح منه والملتبس- في دعم رؤيتهم المادية بعد التحوير اللازم له، ومقصدهم من التعميم إعطاء صورة علمية مزعومة لماديتهم.
وبما أن البحث يقوم على اختيار نماذج معبرة لصعوبة احتواء الكل، فسيكون النموذج المختار هو المذهب المادي في صورته الماركسية "المادية الجدلية - الديالكتيكية"؛ لأنها كانت آخر الصور شهرة، وحققت نجاحات كبيرة أوصلتها إلى تكوين دولة عُظمى كما يقال، وسأنظر لها من خلال آلية الربط والتعميم مع الأمثلة، وأثر ذلك في الانحراف بالعلم.
أولًا: آلية الربط للحصول على السند العلمي:
تعتمد هذه الآلية على إثبات دعوى لديهم مفادها أنهم أفضل صورة للعلم والعلمية، وأن مولد العلم الحقيقي قد تحقق في المادية الجدلية، بل إنهم أحيانًا يزعمون لأنفسهم أنهم أكثر علمية من العلماء أنفسهم. وعندما يظهر عالم من العلماء لينفي الرؤية المادية ويتجه نحو المثالية أو الدين -وما أكثرهم- ينهالون عليه بالسباب والتحقير وخيانة العلمية، خذ مثلًا ما يقوله أحد الماركسيين الفرنسيين في فترة ماركسيته "روجيه غارودي" حيث قال:"وهذه الفلسفة -أي: المادية- أمينة كل الأمانة لإرشادات العلوم"(1)، وقريبًا من ذلك وصْفُ أحدهم بأنها -أي المادية- "وجهة نظر تقدمية، علمية تجاه العالم. إنها تعطي لوحة صادقة عن العالم فتصوره كما هو في الواقع، وبذلك تكون حليفا أمينا للعلم. . . ."(2)، وحسب المثل المشهور فقد كاد المريب -الأمين- أن يقول: خذوني؛ فهذا التأكيد منهم على أنهم لا يخرجون قيد أنملة عن إرشادات العلوم هي دعوى يكذبها حالهم في كل مكان ظهروا فيه، ولكنه الحرص والمنافسة على السلاح العصري الجديد وهو العلم ولو بالادعاء.
(1) النظرية المادية في المعرفة، روجيه غارودي ص 6، ترجمة محمد عيتاني.
(2)
أسس الفلسفة الماركسية، ق. افاناسييف ص 10، ترجمة عبد الرزاق الصافي.
وحسب الاستعراض الماركسي لتاريخ الفلسفة في الكتاب الجماعي "موجز تاريخ الفلسفة"؛ تجد ذلك الإسفاف في الحرص على ربط كل موقف مادي بالعلم الحديث، وبعضها يصلح لباب الفكاهة الساذجة، فقد حوّلوا الثورة العلمية مع روادها الأوائل وكأنها ثورة مادية، وما كأن العلماء وُجِدُوا إلا من أجل إثبات صحة المادية، مع أنهم كانوا ضدّ المادية غالبًا، فيقولون:"وقد أعطت نجاحات الرياضيات النظرية والعلوم الطبيعية التجريبية دفعًا قويًا لتطور الاتجاهات المادية في الفلسفة"(1)، هكذا وكأن النتيجة المحتمة للعلم هي المادية. وفي المسار نفسه في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر، حيث يقولون:"ومع الأفكار العلمية الجديدة، أفكار الرياضيات والفيزياء والميكانيك والفيزيولوجيا والطب، بدأت الآراء الفلسفية المادية تشق طريقها إلى أذهان الناس"(2)، وكأن العلم مصيره هو المادية. وإن سألتهم عن أكبر انتصار للعلم فهو ليس ما حققه العلماء وإنما هو -بحسب رأي لينين- مادية ماركس فهي "أكبر انتصار أحرزه الفكر العلمي" (3). وعندما خذلتهم الفيزياء المعاصرة -فيزياء ما بعد الذرة والكم والنسبية- انبرى "لينين" ليدافع عن تلك المادية قائلًا:"إن الفيزياء المعاصرة في حالة مخاض، إنها تلد المادية الديالكتيكية"(4)، ويقول أيضًا في كلام يعرف كل العالم آنذاك كذبه:"أثبتت الاكتشافات الأحدث في علوم الطبيعة صحة مادية ماركس الديالكتيكية، وذلك رغم أنف الفلاسفة البرجوازيين وارتداداتهم الجديدة نحو المثالية القديمة العفنة"(5)، فعلى هذا الشكل الآيديولوجي الفج كانت تتم عملية الارتباط بالعلم، عملية كاذبة في حقيقتها، فهي عبارة عن عملية استغلال بشعة للعلم، وكما رأينا في الفصل الأول فرواد الثورة العلمية غير ماديين وبعضهم من رجال الكنيسة واللاهوت، بل العلماء المشاهير الذين خدموا العلم وقدموا إضافات كبيرة لصالحه؛ كان أكثرهم
(1) موجز تاريخ الفلسفة، جماعة من الأساتذة السوفيات ص 142.
(2)
المرجع السابق ص 193.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 417.
(4)
أضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي. لينين (المادية ومذهب نقد التجربة)، إعداد توفيق سلوم ص 231.
(5)
موجز تاريخ الفلسفة ص 571.