الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلامية، والأزهر إلى اليوم هو أحد أهم مراكز العالم العلمية في هذه العلوم.
- أن علماءه كانوا عبر السنين سندًا للعامة والفقراء -بعد الله -سبحانه وتعالي-- من ظلم الولاة وأمثالهم، وما إن يتجاوز الولاة ومن تحت إمرتهم الحدود ويتضرر العامة بذلك حتى يلجؤوا إلى علماء الأزهر، فيذهبون بأنفسهم لينكروا على ذاك الوالي ويرفعوا المظالم عن الناس. كما أنه كان مركزًا لانطلاقة الجهاد ومدافعة الأعداء (1).
ولكن الأزهر رغم مكانته الشامخة لم يسلم من آثار الضعف والتخلف التي نزلت بأرض المسلمين، وكان أمل الأمة في مثل هذه المؤسسات أن ترفع الضعف عن نفسها وعن غيرها، ومع ذلك فالضعف كان أثقل وطأة، والمؤسسات العلمية مشغولة بأمور لم تكن هي الأنسب بمقامها، وهذا ما نحاول استبصاره الآن.
قصة الوالي العثماني مع الأزهر ودلالاتها:
يذكر المؤرخ المشهور "عبد الرحمن الجبرتي" قصة طالما ترددت في الكتابات المعاصرة وإن كنتُ قد استنبطت منها ما لم تُركز عليه تلك الكتابات، ففي حوادث سنة (1162 هـ)؛ أي: قبل الحملة الفرنسية على مصر بخمسين سنة "كانت 1212 هـ" -أنه تم تولية "أحمد باشا" على مصر، فوصل القلعة بالقاهرة غرة المحرم سنة (1162 هـ)(2)، "وكان من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم الشيخ عبد الله الشبراوي شيخ جامع الأزهر، والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلم معهم وناقشهم وباحثهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات، فأحجموا، وقالوا: لا نعرف هذه العلوم، فتعجب وسكت". وكان الشيخ الشبراوي ممن يتردد على الوالي، وفي إحدى الجلسات قال له الباشا: "المسموع عندنا بالديار الرومية أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتها وجدتها كما قيل: تسمع
(1) انظر مثلًا: ودخل الخيل الأزهر، محمد جلال كشك، وانظر: جهود الأزهر في الرد على التيارات الفكرية المنحرفة. . . .، د. صلاح العادلى.
(2)
انظر: تاريخ الجبرتي 1/ 194.
بالمعيدي خير من أن تراه. فقال له الشيخ: هي يا مولانا كما سمعتم معدن العلوم والمعارف. فقال: وأين هي وأنتم أعظم علمائها، وقد سألتكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئًا، وغاية تحصيلكم الفقه والمعقول والوسائل، ونبذتم المقاصد؟!
فقال له: نحن لسنا أعظم علمائها، وإنما نحن المتصدرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحكام، وغالب أهل الأزهر لا يشتغلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصلة لعلم الفرائض والمواريث، كعلم الحساب والغبار.
فقال له: وعلم الوقت واستقبال القبلة وأوقات الصوم والأهلة وغير ذلك؟
فقال: نعم معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لوازم وشروط وآلات وصناعات وأمور ذوقية، كرقة الطبيعة وحسن الوضع والخط والرسم والتشكيل والأمور العطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك، غالبهم فقراء وأخلاط مجتمعة من القرى والآفاق فيندر فيهم القابلية لذلك، فقال: وأين البعض؟ فقال موجودون في بيوتهم يسعى إليهم" (1). يقول الجبرتي: إن الشيخ دلّ الوالي على والد المؤرخ، فأرسل له الوالي وسرّ برؤيته، وكان يتردد إليه يومين في الأسبوع السبت والأربعاء، وكان الوالي يقول: "لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكفاني"، وتلقى على يديه بعض الأمور الرياضية (2).
[وقفات مع الحدث]: وهنا مع هذا النص المهم بعض الوقفات:
أولها: مكانة الأزهر ومصر حتى في مركز الخلافة، وهذا يؤهل الأزهر وما حوله ليكون النموذج المناسب للبحث، فالوالي يقول:"المسموع عندنا. . . . إلخ".
ثانيها: الانفصال بين السلطة والمؤسسة العلمية.
تعمل المؤسسة العلمية -الأزهر هنا- بعيدًا عن السلطة، فصحيح أن شيخ الأزهر يأتي التصديق على تعيينه من قبل الوالي بعد عملية الترشيح التي يقوم بها
(1) انظر: تاريخ الجبرتي 1/ 195.
(2)
انظر: المرجع السابق 1/ 196.
أهل الأزهر، إلا أن الأزهر يستقل بعد ذلك بعمله، ويواصل عمله في التعليم وتخريج من يقوم بالقضاء والفتيا والإمامة والخطابة وما في بابها، وكل ذلك دون تدخل ظاهر من الوالي، ولاسيّما أن الولاة في تلك المرحلة يتمّ تغييرهم سريعًا.
ولا شك أن أي مؤسسة علمية ترغب في الاستقلال عن أهواء السياسة والسياسيين حتى تستطيع القيام بدورها العلمي أحسن قيام، ولكن الاستقلال إذا لم يصحبه دعم ورعاية من قبل السلطة ومن قبل قيادات المجتمع يتحول إلى مشكلة من جهة إمكانيات المؤسسة العلمية؛ لأن المؤسسة العلمية لا يمكنها القيام بنفسها إلا في ظل دعم معنوي ومادي كبير، ولاسيّما في تلك المجالات الدنيوية التي تحتاج إلى تجريب وأدوات وأماكن خاصة، وهذه كلها تتطلب الكثير من الدعم.
قد لا يحرص الوالي على دعم الأزهر؛ لأن بقاءه في الولاية محدود بزمن قصير، والأزهر اكتفى بحاله التي هو عليها، في خدمة جانب من العلوم على الضعف الذي لحق بها. وإذا جاء أحد الولاة ممن له رغبة في العلوم والمعارف فلا يتجاوز ذلك حد الرغبة الشخصية والاستمتاع الذاتي كما حصل من الوالي السالف الذكر، فبعد أن حصل على مطلوبه الشخصي لم يتجاوزه إلى تحقيق حاجة الأمة، وهو نوع من الأنانية وعدم استشعار المسؤولية، وهذا من والٍ مدحه الجبرتي فكيف بغيره، كما أن الأخطر أن الوالي جعل علاقته بالمؤسسة العلمية علاقة مصالح، محتاجًا إلى دعمها فقط وضبطها للجمهور، وهذا مما أضعف مثل تلك المؤسسات.
ثالثها: عدم تجاهل المؤسسة العلمية أهمية بعض العلوم الدنيوية فالوالي هنا كان محبًا للعلوم الرياضية فسأل عنها، ولكن هناك علوم في الأهمية نفسها وربما أكثر لم يسأل عنها، مثل الطب والعلوم الطبيعية النافعة في الصناعة وغيرها، مما يدل بأن ما يبحث عنه هو ما يلبي حاجته لا ما ينفع الأمة، وقد لفت شيخ الأزهر انتباه الوالي بأسلوب لطيف إلى أمور:
أ- أنه بيّن حكم تعلمها، وجعلها من فروض الكفاية؛ أي: أن المؤسسة التعليمية لا تمنعها، بل هي تراها من الواجبات على الأمة، إذا قام بها البعض وتحقق وجودها سقط الوجوب والإثم، ويبقى عندئذ في دائرة الإباحة، فكيف
يصح قول من يتهم المؤسسات الإسلامية برفضها لمثل هذه العلوم ومنع تعلمها أو تحريم تعلمها؟! ولكن إذا كان ذلك من فروض الكفايات فلماذا لم تظهر في الأزهر؟! هنا ننتقل إلى الأمر الآخر الذي لفت شيخ الأزهر الوالي إليه.
ب- أنه بيّن سبب غيابها عن الأزهر، وذلك يعود إلى الضعف المادي، والأزهر لا يستطيع القيام بذلك، فهذه العلوم تحتاج "لوازم وشروطًا وآلات وصناعات"، وهذه تحتاج إلى الدعم المالي الذي يوفر تلك الأمور، وهي إلى يومنا هذا مكلفة للغاية، وكذلك الباحث أو المشتغل فيها يحتاج إلى المال لتطوير مهاراته وشراء ما يحتاجه لتكرير تجاربه التي قد تفشل مرارًا حتى يصل إلى مراده، ولكن طلاب الأزهر أغلبهم من الفقراء، فلا يمكنهم القيام بهذه الأمور، بخلاف الجبرتي (1) الذي تعرّف عليه الوالي؛ فقد كان محبًا لمثل هذه العلوم، وكان ثريًا بحيث يستطيع توفير ما يحتاجه بنفسه.
وكان يمكن أن يكون هذا التنبيه من شيخ الأزهر للوالي دافعًا لقيام الوالي بواجبه نحو فروض الكفايات، ولكن أيامه محدودة كغيره، ولذا كانت المسؤولية أكبر على المؤسسة العلمية -الأزهر-؛ لأنه مؤسسة مستقرة الحال ومن شأنها العناية بمثل هذا الأمر، وقد يكون اعتذار شيخ الأزهر أشبه بالحيلة النفسية؛ للخروج من المساءلة بأعذار ترفع الحرج عن الأزهر، وإن كان الباحث المدقق لا يُغفل الأثر السياسي وخطره في عدم تحقق فروض الكفايات، ومن خلال المقارنة بتاريخ الأمة القديم أو بالمقارنة بغيرنا من الأمم كما حدث في أوروبا الحديثة نجد الصلة البارزة في باب العلوم الدنيوية بين السلطة والمؤسسات العلمية، حيث نجد الدعم السخي والحث والجوائز والتشجيع والحماية والرعاية من قبل السلطة للمؤسسات العلمية والعلماء، والعتب هنا على مؤسسة كالأزهر، أنه كان قائمًا بنفسه وعنده بعض الأوقاف، مما يجعله قادرًا على تحقيق شيء من الأمر. ومع ذلك فعلينا أن نتذكر بأن "العلوم الدنيوية" مرتبطة في تلك المرحلة بحاجات الدولة، والدولة قد دخلها الضعف والتخلف، بخلاف "العلوم الدينية"؛ فهي مرتبطة بهوية الأمة وواجبها العالمي، ولذا سيبقى هذا الدين محفوظًا بأمر الله سبحانه، ويظهر كل فترة من يجدد للأمة أمر دينها، وعلى هذا فإن مساءلة الأزهر
(1) انظر: ترجمته في كتاب ابنه عبد الرحمن، تاريخ عجائب الآثار 1/ 308 وما بعده.