الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
هذا المجلد يواصل مسيرة مجلدات تاريخ الجزائر الثقافي التي توقفت عند سنة 1954، وبذلك تكتمل السلسلة بنهاية المرحلة الاستعمارية سنة 1962، ذلك أن عهد الثورة يمثل مرحلة انتقالية أو مخضرمة لابد من اجتيازها ليبدأ مؤرخو الثقافة عندنا بداية جديدة وهي مرحلة الاستقلال، وقد كانت تغطية مرحلة الثورة من أهداف المجلدات السابقة ولكن مادتها الوثائقية لم تكن متوفرة عندئد.
ومع ذلك فإن كثيرا من مادة المجلد الجديد عاصرناها كما عاصرنا مؤلفيها وصناعها، فنصوص الثورة، وصحفها، وتنظيماتها، وشعراؤها وفنانوها وكتابات أنصارها وأعدائها عشنا معها خلال الخمسينات وبداية الستينات، واطلعنا عليها أو سمعنا بها في وقتها، ولكن لم يتح لنا رصدها وتصنيفها كما أتيح لنا خلال السنوات الأخيرة، ثم إن عددا من المذكرات والوثائق والدراسات والتفاعلات ظهرت منذ استقلال الجزائر، وكلها تصب في خدمة تاريخ الثورة، مما أتاح لنا الاطلاع على مادة وآراء جديدة وأغرانا الآن بالكتابة عن عهد يعتبر بمختلف المقاييس قد انتهى.
ومنذ حوالى ثلاث سنوات رجعت إلى الوطن بعد غربة طويلة وكنت
أحمل مشروع مواصلة البحث في التاريخ الثقافي أثناء الثورة، وحين عرضت المشروع على المركز الوطني للبحوث والدراسات في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، سارع بالترحيب به وتعاقدنا على إنجازه، فشمرت على ساعد الجد وبذلت الجهد إلى أن وفقني الله بإكمال الكتاب على الوجه الذي هو عليه الآن.
يتميز هذا المجلد عن إخوته بأنه كتب بناء على عقد محدود الزمان، وبأن جزءا منه قد كتب مباشرة على الحاسوب، بينما لم يسبق لي أن فعلت ذلك من قبل، فقد تعودت أن أكتب بحرية زمنية بحيث لا أحس بأي ضغط، مادي أو نفسي، رغم أن الطرف المتعاقد معي لم يتدخل مطلقا ليشعرني بالوقت، كما تعودت أن أكتب وأصحح على الورق بالطريقة التقليدية، قبل أن أسلم عملي إلى الراقن أو الطابع ليكمل مهمته، أما مع هذا الكتاب فقد حررت وصححت على الحاسوب، بالإضافة والحذف والتقديم والتأخير
…
ومع ذلك فهناك فصول وفقرات كتبتها خارج الجزائر وبالطريقة التقليدية، كما اعتدت أن أفعل في الماضي.
إلى الآن مازلت عندر أيي في الكتابة عن تاريخ الثورة، فما زلت أرى أن الوقت لم يحن بعد للكتابة عن تاريخها المفصل، ولاسيما تاريخها السياسي والعسكري والدبلوماسي، أما تاريخها الثقافي فهو في نظري متاح، ومع ذلك فليس من السهل الخوض فيه، إنه قد يبدو للبعض أنه لا يعرض الكاتب للتبعات والأحكام المسبقة ولما قد يعتبره البغض محرما أو مضرا بالآخرين، ولكني أرى أن التاريخ الثقافي أيضا محفوف بكل الأخطار فهو يتعرض للأشخاص، بل لفئة معينة محسوبة على النخبة الاجتماعية التي قد ترى في الأحكام الصادرة عنها خطرا عليها أو تزكية لغيرها، والمثقفون والفنانون وأمثالهم يريدون - ربما أكثر من السياسيين - أن يستفيدوا أيضا من الثورة، فيقال عنهم إنهم ساهموا في خدمتها وعانوا من أجلها حتى ولو لم يشاركوا فيها من قريب أو من بعيد، بل حتى لو وقفوا منها موقفا غير مشرف.
وكما نشاهد اليوم في المجال السياسي سباقا لدى المواطنين للانتساب للثورة، جهويا وإقليميا ووطنيا، فكذلك نشهد سباقا ربما أشد منه في المجال الثقافي، فكل عشيرة أو بلدة أو مدينة تحاول أن تتبنى عالما أو شاعرا أو فنانا أو روائيا على أنه أحد أبنائها، فتخرجه من قبر العصور، (إذا كان قديم العهد)، وتنفض عنه غبار الإهمال (إذا كان حديث العهد)، وتقدمه للناس وللإعلام على أنه علم الأعلام ومصباح الظلام في مهرجانات (ثقافية) ترصد لها الأموال الطائلة والتفاخر الفارغ، دون تسجيل أو طبع ما يلقى في المهرجان حتى يبقى الباب مفتوحا لتكرار التوسل إلى الناس والإعلام مرات ومرات.
إذن، لم يكن تناول التاريخ الثقافي قضية سهلة كما قد يتخيل البعض، ولعل أبرز قضية تواجه الباحث في هذا الخصوص هي مدى وفاء المثقفين للثوابت الوطنية، تلك الثوابت التي حصنت الجزائر عبر العهد الاستعماري من الذوبان والتحلل في البوتقة الأجنبية، ونعني بها الإسلام واللغة العربية والانتماء الحضاري للعروبة، فقد لاحظنا أن الشعارات والرموز والمطالب العامة كانت لا تخرج في البداية عن هذه الثوابت، ولكن هذا الالتزام لم يبق على حميته الأولى بل أخذ يضعف بالتدرج وحلت محله لغة التشكيك والمساءلة والعلمانية المفرطة التي وصلت في نهاية المطاف إلى تبني الاشتراكية العلمية، كما جسدتها الوثائق والنصوص تحت تأثير الصراع الإيدولوجي بين الشرق الاشتراكي والغرب الاستعماري الرأسمالي، وتأثير الجيل الجديد المتعلم في المدارس الغربية ولا سيما الفرنسية، وهو الجيل الذي (استولى) على مقاليد أمور الثورة في الخارج أولا ثم أمور البلاد كلها في الداخل منذ الاستقلال، هذا الجيل كان في الواقع يجهل الثوابت الوطنية لأنه لم يتعلمها في مدرسة ولا في حزب وطني، فتغلبت عليه الأنانية حين رأى أنه هو وحده الذي يمثل النخبة القائدة في البلاد وأنه أقرب ثقافيا إلى الفرنسيين منه إلى مواطنيه الجزائريين.
ومن جهة أخرى فإن نصوص الثورة نفسها أخذت تتنكر للثوابت الوطنية.
وستعرف من هذه الدراسة أن القائمين على الثورة، ولاسيما منذ 1956 قد مالوا عن هذه الثوابت وانفتحوا على ما يشبه (العولمة) اليسارية، فهبت على الثورة رياح عديدة مع الجيل الجديد المنضم للثورة ومع (الأصدقاء) الذين أرادوا أن يجربوا في الثورة الجزائرية ما فشلوا في تحقيقه في نقاط أخرى من العالم، أي أرادوا تدويل الأفكار التي يؤمنون بها، لاسيما وأن في الثورة الجزائرية مجالا للشعبية غير المتاحة في الثورات الأخرى، ما عدا ربما في الثورة الفيتنامية، ويظهر تخلي الثورة عن الثوابت في النصوص الصادرة عنها مثل البرامج والاتفاقات والتصريحات، وفي بعض الأحيان كان هناك وجهان للثورة: وجه تعيش به في الداخل ووجه تتحدث به في الخارج، وعندما حاول الخارج فرض مفاهيمه على الداخل سنة 1962 حدث تناقض كبير، ولكن الغلبة كانت لمفاهيم الخارج كما أشرنا.
إن هذا المجلد ليس دراسة فلسفية عن الظاهرة الثقافية للثورة الجزائرية، فلو أردنا ذلك لاكتفينا بالانتقاء والتركيز على نماذج معينة صغناها في أفكار وقوالب نظرية، ولكن هدفنا هو متابعة التطور الثقافي للجزائر خلال الثورة، وهذا المنهج اقتضى منا أن نجمع الإنتاج، سمينه وغثة، وتدوينه وتصنيفه حفاظا عليه من التلاشي، لذلك وسعنا من دائرة مفهوم الثقافة لتشمل حتى الإعلام والقضاء والصحة، وتناولنا الجانب النظري في النصوص والأعمال الفكرية مثل أفكار مالك بن نبي ومصطفى الأشراف وفرانز فانون، بالإضافة إلى العناوين المتعارف عليها في الثقافة مثل التعليم والسينما والمسرح والرسم والموسيقى، وتجب الملاحظة أن بعض العناوين لم نستطع تغطيتها كما رجونا لعدم توفر مادتها حاليا مثل المكتبات والمتاحف والمؤسسات التعليمية كالجامعة ومعاهدها.
لذلك اختلفت مادة هذا المجلد عن باقي المجلدات السابقة في بعض التفاصيل، فهو مثل سابقيه يجمع مفهوم الثقافة في كونها (جزائرية) بقطع النظر عن كون العمل الثقافي أنتجه جزائريون ثائرون على الاستعمار أو عاملون فى
إدارته ومؤسساته، وسواء كتبوا إنتاجهم بلغتهم الوطنية أو بلغة المستعمر، وسواء كانوا يعيشون داخل الجزائر أو خارجها، وتتبعا لهذا المسلك اضطررنا إلى أن يواصل هذا المجلد ما توقف عنده في أخواته، وأحيانا وجدنا معلومات على فترة عالجناها سابقا فأضفناها إلى هذا، استكمالا للمعلومة، أما ما كنا متأكدين من أنه انتهى بزمنه فلم نرجع إليه.
ولكن هذا المجلد ليس كاملا من جميع النواحي، ولا يدعى أن يكون كذلك، لأن الكمال العلمي والإحاطة الدقيقة مستحيلان علميا وعمليا، فلن يجد كل أديب وكل فنان وكل مفكر نفسه فيه، ولن يدعي الإحاطة بكل فكرة أو وثيقة أو رأي، بل على الباحثين أن يطوروا منه ما شاءوا من آراء وأفكار، وعلى آخرين أن يبحثوا انطلاقا منه على مؤلفين وفنانين ومنتجين آخرين، فهذا الكتاب لا يزعم أنه جمع فأوعى أو أنه قطع الطريق على كل الباحثين.
وقبل أن أضع القلم يجب أن أنوه بجهود كل الذين ساهموا في تسهيل مهمتي العلمية لإنجاز الكتاب، فأنا مدين لهم جميعا بالشكر والتقدير.
أغتنم هذه الفرصة لأشكر كل الذين أمدوني بآرائهم في بعض قضايا هذا الكتاب، وأخص بالذكر الأستاذين الكريمين الأمين بشيشي وعبد الحميد مهري.
فقد أجريت مقابلة مع الأستاذ بشيشي في المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، يوم 09 يناير 2005 صباحا، ودامت المقابلة حوالي ساعتين ونصف.
أما الأستاذ مهري فقد استقبلني في بيته: 30 شارع سعيد حمدين بحيدرة، يوم الأحد 12 جوان، 2005 على الساعة العاشرة، ودامت المقابلة ساعتين.
أ. د/ أبو القاسم سعد الله
الجزائر (ابن عكنون) في 12/ 02/ 2006.