الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإبراهيمي
…
)، وقال إنهم كانوا يحضرون كل الوثائق مع حزبي الدستور والاستقلال، وإذا ثبت ما قاله أحمد سعيد وما رواه يزيد فإنه يكون لدينا على الأقل ترجمتان متزامنتان بالعربية البيان أول نوفمبر (الترجمة المصرية والترجمة المغاربية)(1)، غير أن يزيد لم يقل ما إذا كانت نسختهم هي التي أذيعت من صوت العرب.
الثقافة في مؤتمر الصومام
انعفد مؤتمر الصومام بعد سنتين من قيام الثورة وفي ظروف تختلف عن ظروف أول نوفمبر، فقد نضجت الثورة بعد حوالي سنتين من التجربة القاسية، ومرت بعشرين أوت 1955 بعد مرور قرابة السنة على اندلاعها، وشهدت الساحة الدولية انعقاد مؤتمر باندونغ وعرض قضية الجزائر على الأمم المتحدة، ونظر البعض إلى استقلال تونس والمغرب (مارس 1956) على أنه عامل معرقل لمسيرة الثورة، ولكن آخرين نظروا إليه على أنه عامل مساعد لها، كما انعقد مؤتمر الصومام بعد إضراب الطلبة عن الدراسة (مايو 1956) في الجامعات الفرنسية، بما فيها جامعة الجزائر، وقد انضم كثير منهم بعد ذلك إلى الثورة مما أعطى لها دفعا جديدا تميز بطاقة شابة ومثقفة، وسيكون لهذا التطور عواقب على مسيرة الثورة على المدى البعيد، ومن جهة أخرى انعقد مؤتمر الصومام بعد انضمام الأحزاب والجمعيات إلى الثورة فأعلن حزب البيان عن حل نفسه وانضمام أعضائه إلى الثورة، وكذلك فعل أعضاء جمعية العلماء، وقد التحق زعماء هؤلاء وأولئك بالوفد الخارجي بينما التحقت أفواج من المعلمين والسياسيين والتلاميذ بالجبال، وفي نفس الوقت تكونت منظمات جماهيرية ومهنية موالية لجبهة التحرير كاتحاد العمال الجزائريين واتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين واتحاد النساء الجزائريات، إضافة إلى جمعية الكشافة الإسلامية
(1) كتاب جيش التحرير المغاربي 1948 - 1955 في أعمال ملتقى مؤسسة محمد بوضياف، الجزائر، 2004، ص 117، هناك ترجعات أخرى للبيان قد نعرف لها.
والشباب، واتحاد التجار. أما الحزب الشيوعي فقد أبى قادته أن يحلوا حزبهم بأيديهم وينضموا فرادى إلى جبهة التحرير، لذلك كونوا فرقة أطلقوا عليها (مكافحو الحرية) انحصرت مساحة نشاطها في منطقة واحدة تقريبا هي الشلف وفي بعض المدن كالعاصمة، وكان مناضلو هذا الحزب يجمعون بين العرب والفرنسيين باعتبار الحزب كان مفتوحا لعضوية الطائفتين، ومهما كان الأمر فإن الشيوعيين لم يحضروا مؤتمر الصومام، وقد دام هذا الوضع بضعة أشهر أخرى ثم انضم الجنود العرب (الجزائريون) إلى صفوف جيش التحرير بينما ظل القادة على موقفهم يحاولون مفاوضة جبهة التحرير لعلهم ينالون، عند المفاوضة مع فرنسا، قطعة من الكعكة، ويجب أن نتذكر هنا بأن كاتب جلسات المؤتمر هو عمار أوزقان أحد أقطاب الحزب الشيوعي السابقين، والكاتب العام له، فلا غرابة عندئذ أن يصطبغ محضر المؤتمر باللون اليساري والعلماني، وهو الأمر الذي اعتبره بعض قادة الثورة الأوائل (انحرافا) خطيرا عن روح بيان أول نوفمبر وروح الانتماء الحضاري للجزائر (1).
فكيف عالج مؤتمر الصومام المسألة الثقافية بعد أن أصبحت صفوف الثورة متراصة بهذه العينات من الكهول والشباب؟ وهل اختلفت نظرته ومرجعيته عن نظرة ومرجعية بيان أول نوفمبر؟ الواقع أن المؤتمر عالج موضوعات ثقافية هامة ولكن كيف عالجها؟ لقد تحدث عن مقومات الأمة من تاريخ ولغة واحدة ودين وعادات، وتحدث عن انتماء الشعب الجزائري الحضاري، وعن فيدرالية المغرب العربي (وليس شمال إفريقيا خلافا لبيان أول نوفمبر)، وركز على الدعم العربي (وليس الإسلامي) للثورة الجزائرية مؤكدا
(1) ترجمنا فصلا من كتاب مايكل كلارك، الجزائر المضطربة، الجزائر، يوليو 2005، وقد ظهر كتاب كلارك سنة 1961، وتحدث في الفصل الذي ترجمناه عن العلاقة بين جبهة التحرير والشيوعيين.
ومنتقدا، ولكن وثائق المؤتمر المعلنة لا تشير إلى أية إيديولوجية خاصة بالثورة كما لا تشير إلى الانتماء العربي الإسلامي أو الارتباط بالتراث أو مرجعية التاريخ الجزائري. دعنا نتتع هذه الأمور بشيء من التفصيل، لأول مرة تتردد في محضر المؤتمر عبارة (المغرب العربي)، وبالضبط عند ذكر تونس ومراكش وعند ذكر (الأقطار الثلاثة) ووحدة كفاحها، مع العلم أن كلا من تونس ومراكش قد حصلتا على الاستقلال قبل المؤتمر بأقل من خمسة أشهر، وكانت العبارة تتردد في البلدين ولا سيما على لسان الرئيس التونسي الذي كان ربما يغضل استعمال عبارة (المغرب الكبير) بدلا منها، ومما جاء في نص الصومام (أن ما يميز الوضعية السياسية للمغرب العربي هو أن المشكل الجزائري مندمج ومتداخل في مشكلتي المغرب وتونس بحيث لا تمثل في مجموعها إلا مشكلة واحدة)، ولم يشر المحضر إلى أن من بين أهداف (المشكلة) في الجزائر تحقيق هدف ثقافي أو استرجاع هوية ثقافية، كما لم ينص على أن من شروط وقف القتال شرط ثقافي وإنما التأكيد على التخلص من الجزائر الفرنسية و (الاعتراف بالأمة الجزائرية التي لا تتجزأ)، وهناك حديث طويل في المحضر عن الأقلية الفرنسية، والتركيز على اليهود الفرنسيين ومحاولة جلبهم إلى الصف المساند للثورة وفصلهم عن بقية الفرنسيين لأنهم في الأصل (جزائريون).
كذلك يوجد تركيز مقصود (نظرا للظرف الخاص عندئذ) على (فيدرالية إفريقيا الشمالية)، التي تؤلف في نظر المؤتمرين كلا واحدا (نظرا للجفرافية والتاريخ واللغة والحضارة والمصير)، وهذه الفيدرالية ستتولى (إقامة تعليم وتبادل في الإطارات الفنية وتحقيق التبادل الثقافي).
فيما يتعلق بإضراب الطلبة عن الدراسة الذي كان قريب العهد رحب المؤتمر بالمثقفين الشباب واعتبر انضمامهم إلى الثورة وإلى الوطنية الجزائرية فشلا لسياسة (الفرنسة) التي حاولت خنق الوعي الوطني لدى الشباب المثقف.
وها قد تخلى الشباب عن المواقف المثالية الفردية أو الإصلاحية مما يدل على وجود اتجاه سياسي سليم لدى هذا الشباب، ولذلك دعا المؤتمر إلى تكوين لجان عمل تضم المثقفين الوطنيين وتأطيرهم، وعلى جبهة التحرير أن توضح مجالات العمل لهؤلاء الطلبة والطالبات، وهي المجالات السياسية والإدارية والثقافية والصحية والاقتصادية. بالنسبة للأقلية الأوروبية (الفرنسية) التي نعتتها النصوص بالليبرالية وقف المؤتمر موقفا لينا حتى ليكاد يسميها (ضحية) جهل الأحزاب السياسية حين لم تضع خطة استراتيجية تجعل الأوروبيين على قدم المساواة مع المسلمين في الجزائر، ودعا المؤتمر كذلك إلى التغرب من هذه الأقلية خلافا لساسة الأحزاب القديمة، فقد أنحى باللائمة على الأحزاب لأنها لم تهتم بالأقلية الأوروبية بينما اهتمت بالرأي العام الإسلامي فقط مما جعل الدعاية الاستعمارية تستغل الوضع وتتهم الحكومة الفرنسية بالتخلي عن (الأقلية الجنسية غير المسلمة وتركها عرضة للبربرية العربية والحرب المقدسة)، وفي هذا دعوة لجبهة التحرير لكي تتخلى عن دعاية الأحزاب القديمة التي تخيف الأقلية الأوروبية بإلحاحها على استرجاع الهوية العربية المتوحشة تحت راية الجهاد، ومن رأي المؤتمرين أنه من الخطأ غير المغتفر وضع كل الأوروبيين واليهود في سلة واحدة، وقد ألح محضر المؤتمر على أن الثورة الجزائرية ليست حربا أهلية بين الأقلية الأوروبية والأغلبية المسلمة ولا حربا دينية أو جهادا بين الإسلام والمسيحية. لقد أفاض المحضر في الحديث عن الجالية اليهودية بالخصوص وأعطاها اهتماما دون السكان الآخرين، ربما لأنها كانت من السكان الذين وجدهم الاحتلال الفرنسي في الجزائر مثلهم مثل (الأندجين) الآخرين، وعاملهم كما عامل بقية (الأهالي)، ثم فرض عليهم الجنسية الفرنسية منذ 1870 دون استشارتهم، وأكد المحضر على أن النزاع - العربي - اليهودي (كذا) في المشرق لم يكن له أصداء خطيرة في الجزائر كما هو الحال في المشرق، ولو كان له تلك الأصداء لاغتبط له أعداء الشعب الجزائري، فلم يكن المؤتمرون يدركون، ربما
أن النزاع بين العرب والصهاينة وليس بينهم وبين اليهود، أو كانوا يريدون تجاهل تلك الحقيقة تزلفا للجالية اليهودية، والمعنى الذي يهدف إليه النص أنه لو كان هناك صدى عميق للنزاع لما كان يجري في فلسطين لاستغله الناقمون على الثورة ووظفوا الحركة الصهيونية العالمية ضدها، ولذلك يجب استغلال ضعف التجاوب الجزائري مع النزاع العربي اليهودي لصالح الثورة، وذلك بالتقرب إلى اليهود الفرنسيين وتجنيدهم لصالحها، وطالبت الوثيقة كذلك بالقيام بدعاية قوية للتأثير على الليبراليين الأوروبيين واليهود بتمثيل مسرحيات تمجد التضال الوطني (المشترك؟)، أي أن الوثيقة تعترف بوجود نضال مشترك بين العرب واليهود في الجزائر، ولكن ضد من؟
والغريب أن المؤتمر لم يوجه خطابه إلى البلاد العربية التي كانت وحدها تدعم الثورة الجزائرية حتى ذلك الحين، بل وجه خطابه لدول مؤتمر باندونغ، فهي التي شكرها وطلب منها الدعم. أما بخصوص الجنسية والذاتية اللغوية فقد ألح المؤتمر على أن الجزائريين في الماضي لم يقبلوا أبدا بالفرنسة ورضوا بالعيش في وطنهم بدرجة أقل حرية من الأجانب، بينما عمد المستعمر إلى (ختق اللغة الوطنية التي تتكلمها الأغلبية الساحقة من المواطنين، أي اللغة العربية،) وعبارة المواطنين هنا غامضة وتحتمل عدة معاني، منها كل السكان بمن فيهم الأوروبيون فتكون اللغة العربية لغة الأغلبية المطلقة لسكان الجزائر، وقد تعني الأغلبية من السكان المسلمين، وبذلك تخرج أقلية أهلية لا تتكلم هذه اللغة، وفي ذلك مشكل من نوع جديد للهوية الثقافية الوطنية، ومهما كان الأمر فالظاهر أن المؤتمرين عنوا بذلك التعبير كل سكان الجزائر لأن الوثيقة تحدثت عن اختفاء التعليم العالي باللغة العربية منذ بداية الغزو الفرنسي الذي شتت أساتذة وتلاميذ اللغة العربية وأوصد أبواب الجامعات في وجوههم وهدم المكتبات واغتصب التبرعات (الأوقاف) الدينية، كما دنس الدين الإسلامي وأخضع رجاله فأصبحت الإدارة الاستعمارية هي التي تختارهم وهي التي تمنحهم أجورهم.
في عبارات لا تصدر إلا عن إيديولوجية يسارية أدانت وثيقة الصومام محاربة الإدارة للحركة التقدمية التي كانت تمثلها جمعية العلماء، فهي تصف الحركة الإصلاحية التي قامت بها الجمعية بالتقدمية كما تصف حركة المرابطين والصلحاء بالرجعية، وبالطبع كان هناك عدم تفاهم بين جهود العلماء وجهود المرابطين في خدمة الثوابت الوطنية ولا سيما التعليم العربي وإحياء التاريخ والتراث والنهوض الاجتماعي بنبذ البدع والخرافات والعودة إلى الإسلام الصحيح والسلف الصالح، ومن ثمة قالت وثيقة الصرمام بأن (الإمبريالية الفرنسية وفرت كل الدعم لخرافات الأولياء المرابطين الذين سخرتهم عن طريق إرشاء بعض رؤساء الطوائف)(ربما تعني بالطوائف الطرق الصوفية)، وتساءلت الوثيقة:(ألا يعتبر العقاب القاسي الذي يناله رجال الدين الخونة داخل المساجد نفسها أحسن دليل؟) وهذه العبارات تعتبر اعترافا وتهديدا في نفس الوقت، وقد نددت الوثيقة بالدعاية التي بثها حاكما الجزائر (لاكوست) و (سوستيل) والكاردنال (فلتان) التي زعمت أن المقاومة الجزائرية (حركة دينية متعصبة تصب في خدمة الحركة الوحدوية الإسلامية)، وتكذيبا لهذا الادعاء أعلن المؤتمر أن الثورة قد أنزلت العقاب الصارم بالخونة من رجال الدين حتى في حرم المساجد، ومعنى ذلك أن الثورة الجزائرية لا علاقة لها بالحركة الإسلامية الوحدوية ولا هي ثورة ذات طابع ديني. بالنسبة لموقف الدول العربية من الثورة انتقدت الوثيقة هذه الدول، وخصت بالذكر مصر التي كان المتوقع أن يشيد المؤتمرون بدعمها للثورة كما حدث فعلا أو على الأقل من الناحية الدبلوماسية، فقد اتهمتها الوثيقة بالتخلي عن نقاش القضية الجزائرية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإرضاء فرنسا، واعتبرت ذلك الموقف من الدول العربية عموما جبنا، وانتقدتها على دورها المحدود في دعم نضال الشعب الجزائري، خضوعا لاعتبارات سياسية ودبلوماسية مع فرنسا، ولكي تعبر عن الاستقلالية قالت الوثيقة إن علاقات الثورة مع البلدان الشقيقة هي (اتصالات تحالف وليست اتصالات عمالة)، وأن
الثورة يجب أن تحافظ على استقلالها وصيانة نفسها، والواقع أن هذا المبدأ لا ينازعها فيه أحد، فلولا الاستقلالية لما حافظت الثورة على وحدتها وقرارها الجماعي، ولكن السؤال هو من أجل ماذا (تتحالف) الثورة مع الدول العربية، هل هناك قضية أو مصير مشترك؟ ولماذا لا يكون التحالف مع الدول الاشتراكية مثلا؟ ومن الملاحظ أن الوثيقة تتحدث عن الدول العربية التي تتأثر عادة بعلاقاتها مع الدول الأخرى حسب المصالح الآنية أحيانا، ولا تتحدث عن الشعوب العربية التي كانت تدعم الثورة الجزائرية دعما مطلقا وتشعر أنها ثورتها هي أيضا. ومن الملفت للنظر أن المؤتمر وجه عنايته، بدلا من الدول والشعوب العربية، إلى المهاجرين العرب في أمريكا اللاتينية لأن ذلك في نظر المؤتمرين، يدعم الوفد الخارجي للثورة، ودعت الوثيقة إلى الاعتماد على النفس في نشر الدعاية المكتوبة كإنشاء المكاتب الصحفية وطبع التقارير (المناشير؟)، والصور والأفلام
…
) (1).
ومما يذكر أن البرنامج السياسي لمؤتمر الصومام قد حرره عمار أوزقان الذي لم يكن من المندوبين، ولكنه كان - كما أشرنا - الكاتب العام السابق للحزب الشيوعي الجزائري، لذا فإن عبارات القومية والشعبوية والنزعة الاجتماعية المحافظة قد ظهرت في وثيقة المؤتمر بلغة ماركسية واضحة (2).
ونلاحظ في النهاية أن برنامج الصومام لم يخرج بخطة ثقافية للمستقبل، حقيقة أنه انتقد معاملة الاحتلال لمقومات الثقافة الوطنية (التي لم يحددها بوضوح) كاللغة والإسلام والتعليم
…
ولكنه لم يعلن عن برنامج ما بعد الاستقلال، وبقدر ما لام الدول العربية على انتهازيتها وتخاذلها بدل الإشادة بدعم شعوبها للثورة، بقدر ما انفتح على المثقفين الأوروبيين، وعلى
(1) ميثاق مؤتمر الصومام، نشر آفاق عربية، عدد 18، 1971.
(2)
حمد حربي، جبهة التحرير، ص 150.