الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العربي خارج الجزائر، ماضيا وحاضرا، فيما عدا الشيخ البشير الإبراهيمي الذي لم يكن يعرفه في المشرق إلا جيل قديم محدود من اللغويين ودعاة السلفية والإصلاح، وهكذا فإن جيلا من المثقفين الفاعلين في المشرق العربي لا يكاد يعرف شيئا عن محمد العيد آل خليفة ولا مفدي زكرياء، ولا حتى ابن باديس صاحب الشهاب والدعوة الإصلاحية التي هزت الجزائر، وبذلك انحصر الاهتمام بالأدب الجزائري في إنتاج جيل من الشباب يكتب بالفرنسية وما تقدمه عنه الصحف الأدبية والنوادي الفرنسية من شهرة ونقد وتعريف وجوائز وتعاليق، وهذا الجيل هو الذي سنقدم بعض أعلامه وإنتاجهم بعد قليل، (عن شعراء هذا الجيل انظر فصل الشعر).
محمد ديب
بلا منازع هو أبو الرواية الجزائرية المعاصرة، هكذا بدأت إحدى البيانات الأجنبية المطبوعة عن محمد ديب، اشتغرق عهده نصف قرن من العطاء الأدبي، ولد في تلمسان 21 يوليو 1920 من عائلة برجوازية محطمة، تابع دراسته الابتدائية والثانوية في تلمسان ثم في وجدة، بدأ يكتب الشعر ويرسم عندما بلغ خمسة عشر عاما، سمي معلما في وجدة ثم محاسبا في مكاتب الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية ومترجما عند جيش الحلفاء، وبعد الحرب رجع إلى تلمسان وأصبح مصمما للزرابي، وابتداء من الخمسينات عمل صحفيا في جريدة الجزائر الجمهورية الشيوعية كما كتب في جريدة الحرية، وهي لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري، وفي 1952 أصدر أولى رواياته وهي الدار الكبيرة ثم تلتها الحريق ثم النول، وهي ثلاثيته الشهيرة.
بدأ ديب بالقصص والشعر السريالي، وإنما الظروف التي كانت تعيشها الجزائر هي التي دفعته إلى الواقعية، فأصبح روائيا (وطنيا) كما قال (أراغون) الذي اعتبر ذلك من محمد ديب جرأة لكونه غامر في دخول عالم الرواية الوطنية الجزائرية، وبعد الاستقلال رجع ديب إلى السريالية والأسطورية
(الميثيولوجيا)، وأصبحت روايته أكثر نضجا، فإلى جانب الإلياذة نجد عنده عالم كافكا الجهنمي.
كان ديب كاتبا إنسانيا يتشرف مستقبل الكائن البشري ويشعر بما هو أبعد من الحدود والحواجز، وله أعمال كثيرة وصلت إلى أربعة وعشرين عنوانا بين رواية وقصة وشعر، ومن أعماله المؤلفة بين 1952 - 1962 الثلاثية المذكورة، وفي المقهى، والظل الحارس (شعر)، وض يتذكر البحر، وبابا فكران (رواية).
بالقياس إلى زملائه حظي محمد ديب بدراسات تحليلية أكثر وأعمق، فقد ترجمت له جريدة (المجاهد) بعض قصصه ونشرتها في وقت مبكر، واهتم به النقاد الفرنسيون والنقاد العرب على السواء، ففي مقالة كتبها أبو سيف يوسف نشرها في جريدة (المساء) المصرية نقرأ العنوان التالي:(محمد ديب كاتب الجزائر المؤمن بشعبه)، جاء فيها: هناك أدب جزائري فرنسي، وهناك أدب جزائري بالفرنسية، وهو يعني بالتعبير الأول الأدب الذي كتبه مستوطنون فرنسيون في الجزائر، ويعني بالتعبير الثاني موضوع حديثنا وهو الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، أما الأدب الجزائري العربي أو المكتوب بالعربية فهو غائب في هذه المعادلة.
يقول الكاتب أبو سيف إن الأدب الجزائري بالفرنسية كتبه مسلمون، وهذا هو وجه الدهشة عنده، وهو يمثل أدبا جديدا ويتحدث بصوت قوي وناصع، صوت الحق والبلاد، وهو أدب يبحث عن حلول لمشكلات الشعب، في هذا الجو كتب مولود معمري رواية (التل المنسي) أو (الربوة المنسية) وكتب مولود فرعون رواية (الأرض والدم)، وكتب محمد ديب جزئين من ثلاثيته (الجزائر) وهما البيت الكبير والحريق، إن كتابات هؤلاء ليست صفحات من الدعاية السياسية بل هي أعمال فنية ممتازة يستغرقها شعور وطني (دافق) ورغم الفروق بين الأدباء الثلاثة (لاحظ أنه لم يشر إلى كاتب ياسين) فإن محمد ديب يقف على رأس هؤلاء لأنه يمثل الاتجاه الأدبي الجديد (لتفاؤله العميق بمستقبل
شعبه)، وهو يؤمن بالتطور الذي يطرأ على الشعب ليخرج من عبودية الاستعمار إلى الحرية، وهو يعبر عن حياة الغالبية العظمى من الجزائريين، وهم الفلاحون.
لماذا تميز محمد ديب عن زملائه في نظر هذا الكاتب؟ إن نشأته الفقيرة (والواقع أن ديب لم يكن كذلك تماما كما نعرف من سيرته) قد ساعدته على تشكيل تفكيره في المستقبل، فهو أصيل شعبه، وهو يؤمن بأن الشعب (يكافح من أجل حقه في الحياة، ففي الجزء الأول من روايته وهي (البيت الكبير) يصور أسرة أرهقها الجوع، فهناك أرملة معدمة وعليها أن تدبر معاش أولادها لإنقاذهم من الموت، وفي الجزء الثاني (الحريق) يكبر عمر (وهو شخصية ممتدة في أعمال ديب) ويذهب للعمل مع الفلاحين، وهنا تبرز أيضا مشكلة الجوع. لكن الفرنسيين يحرقون أكواخ الفلاحين ويطردون عمر فيرجع إلى أمه التي عليها أن تدبر الخبز لإطعام أبنائها الثلاثة.
لكن الرواية تروي قصة الطفولة الشهيدة في الجزائر، أي مصير الأطفال العرب، وهو الحرمان منذ نعومة أظفارهم، لقد هرب عمر من جحيم البيت لأنه يأكل ما هو لأمه وأختيه، وعمره أحد عشر عاما، وعندما هرب وجد أطفالا مثله يمتلى بهم الشارع وهم يهيمون على وجوههم، يلعبون ثم يكونون مستعدين للهروب أمام الشرطة المدنية
…
وكانوا يمارسون التسول والنظر في النساء الأوروبيات وأطفالهن المرفهين، ويقارنون بين وقعهم وبين هؤلاء الأطفال، ثم كانوا ينطفئون على إدمان الخمر والسجون، لكن التفاؤل لا يفارق محمد ديب، فقد قال أحد الفلاحين لجاره: إننا نشهد عصرا جديدا
…
لكن إلى أين؟ فقال له الفلاح الآخر: خيرا يا جارنا محمد، صدقني، لن يكون إلا خيرا، فإن روح شعبنا قد تزلزلت (1).
وكتب الناقد المصري رجاء النقاش مقالة عنوانها (صاحب البيت الكبير) تحدث فيها عن محمد ديب ودوره في الحركة الأدبية رغم أن سنه عندئذ لا
(1) جريدة المساء المصرية، 27 مارس، 1957.
تتجاوز السابعة والثلاثين، واعتبره النقاش أبرز كتاب جيله، وأنه بدأ الكتابة بالفرنسية مبكرا، ونظم الشعر وعمره خمس عشرة سنة، وكان يقيم عندئذ في تلمسان بعد أن كان غادرها إلى فرنسا ثم رجع إليها، وقال إن له ثلاثة أولاد لا يعرفون أيضا غير الفرنسية، وهو الأمر الذي جعل ديب حزينا وساخطا على هذا الوضع غير الطبيعي حتى أنه قال لأحد الفرنسيين ذات مرة، وهو يحاوره (وكان هذا الفرنسي متحمسا للاستعمار، واسمه روبير كامب): (هل تظن أنه سواء لدي أن يعرف أولادي لغتهم العربية أو لا يعرفوا سوى اللغة الفرنسية التي بها أكتب؟ وأضاف النقاش أن لمحمد ديب إنتاجا خصبا، فله رواية كبيرة عن الجزائر تتألف من ثلاثة أجزاء هي: البيت الكبير والحريق و (النول) أو المنسج، كما له مجموعة قصص بعنوان (في المقهى)، ومقالات وقصائد عديدة، وكان ذلك بالطبع قبل أن ينشر محمد ديب أعمالا أخرى أصبحت الآن معروفة.
وعند رجاء النقاش أن الظاهرة البارزة في أدب محمد ديب هي أن أعماله مصبوغة إلى حد العنف بالمأساة التي تعيشها الجزائر تحت الاستعمار، ونماذجه منتقاة من واقع الحياة التي جربها مع أبناء وطنه، ثم إن الجزائر فريدة في الاستعمار، فكل فرد فيها ذاق وبال الاستعمار بنفسه، والاستعمار هنا ليس قوة عسكرية واقتصادية فقط، ولكنه هو كل ذلك زيادة على القوة الثقافية، واضطهاد الحياة اليومية المتمثل في الإدارة والمدارس والمتاجر، فالجزائري يعيش هذه المواجهة يوميا وفي مختلف المجالات، ورغم القتل والحرق والضحايا فإن ديب احتفظ بمستواه الفني في رواياته إلى الحد الذي وصل به إلى العالمية، كما أن له روحا شعرية خصبة، وهو يتحدث على لسان أبطال واثقين بالنصر رغم المعاناة، وليس هناك غرابة في لغة محمد ديب فقد بدأ حياته بنظم الشعر وله في ذلك ديوان، كما كان أدبه نابعا من حضارة عريقة كانت تمثلها تلمسان التي حافظت على طابعها الحضاري رغم الفقر والحرمان (1).
(1) رجاء النقاش، مجلة الإذاعة المصرية، 29 مارس 1958.
وعلى نفس النسق كتب الأديب والصحفي كامل زهيري أيضا مقالة عن (البيت الكبير: قصة جزائرية للكاتب محمد ديب) مع صورة مرسومة لصاحب القصة، ورسومات أخرى معبرة عن روح صاحب القصة بريشة الفنان حسن فؤاد، وقد حلل زهيري ثلاثية ديبب بأجزائها فقال إن (البيت الكبير) تبدأ قبل الحرب العالمية الثانية وتنتهي بإعلان الحرب، وتصور (الحريق) أيام الحرب، أما النول (المنسج) فتصور الجزائر ما بعد الحرب، أما بطل الثلاثة فهو عمر الذي يظهر في الجزء الأول صبيا يافعا، وفي الجزء الثاني بالغا من الرشد، وفي الجزء الثالث شابا قويا، ويعتبر البيت الكبير باكورة محمد ديب الذي بلغ عند تأليفه الثلاثين من عمره، وقد تفرغ للأدب، بعد أن مارس مهنا كثيرة، فقد عمل صحفيا، وعامل نسيج، ومحاسبا، ومدرسا ابتدائيا، وتعتبر كتاباته بسيطة إلى حد السذاجة (؟) ولكنها (تخفي دهاء وذكاء وفطنة وفهما عميقا للجزائر والجزائريين)(1).
أما الكاتب الأمريكي جورج جوايو فقد عبر عن رأيه في إنتاج محمد ديب في دراسة قام بها لأدبه وأدب زملائه الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية، فقد ألف ديب ثلاثيته وقصصه القصيرة (في المقهى) عندما قام جوايو بدراسته، قال جوايو إن الثلاثية تذكر المرء برواية (أمريكا) لدوس باسوس، فهي لوحة للجزائر عشية الحرب العالمية الثانية، من خلال الأرملة (عيني) وابنها عمر، وهو (أي عمر) يمثل النموذج (البطل؟) والوحدة في الثلاثية بمغامراته .. وتهدف القصة كاملة إلى ميلاد ضمير جزائري متلهف للاعتراف به مع الإصرار عليه، ظهرت البيت الكبير سنة 1952، وفيها وصف لحالة الفقر المدني في المدينة للعمال الذين لم يقدروا على العيش المحترم أخلاقيا وماديا، فالثلاثية في الواقع ترجمة شخصية (أوتوغرافيا): تشتمل على مغامرات عمرها هو عمر
(1) كامل زهيري، مجلة صباح الخير، 27 فبراير 1958، و 6 مارس 1958، وما بعدها ومما يذكر أن البيت الكبير نشرت مسلسلة في المجلة المذكورة.
مغامرات محمد ديب نفسه، كما تمثل الرواية الطبقة العاملة، ورواية الاحتجاج لباسوس وشتاينبك.
أما (الحريق) فقد ظهرت سنة 1954، وفيها نقل محمد ديب فتاه إلى عالم الريف ليكون شاهدا على حالة الفقر لدى الفلاحين أيضا، إن عمر قد شهد في نهاية المطاف بداية الحريق (الثورة) الذي عم البلاد كلها، فالنار قد بدأت ولن تتوقف أبدا، أما (المنسج) فقد ظهرت سنة 1957، وفيها رجع ديب إلى المدينة، وقد أصبح عمر شابا وبدأ يشتغل في نسيج الزرابي، ولكن الحريق انتشر إلى المدينة حيث نزح إليها الفلاحون وهم جائعون عراة، وفي نهاية الثلاثية أصبح عمر رجلا واقفا متمردا يرمز إلى الإنسان الجزائري الجديد، وقد تعلم عمر المعنى الحقيقي للاحترام الإنساني، وقرر ألا يستريح حتى يحقق لنفسه وللبشرية وعيا واحتراما.
لقد ركز ديب على استرجاع الشعب الجزائري حقه في الكرامة أكثر من أي شيء آخر، فهو يقول على لسان الإنسان الجديد: إن الخوف والإهانة والشرف قد أنهكت قوانا، فلم نعد نبدو كبني آدم، وهو يلوم الاستعمار عامة على هذه الحالة، لأن الاستعمار يريد أن يمتلك عمل الفلاح وكذلك ملك الفلاح نفسه، ولابد من إعادة النظر في العلاقة بين المستعمر والمستعمر، فالمسؤول المباشر ليس الأقلية الأوروبية المستوطنة فقط، ولكن الأغلبية المسلمة أيضا لسكوتها، رغم مروءتها، أي أن فرنسا كلها مسؤولة عما حدث (1).
من أعمال محمد ديب الأخرى مجموعة قصص بعنوان (في المقهى)، وقد ترجمها محمد البخاري، ضمن سلسلة كتب ثقافية (الكتاب 13) وتحتوي المجموعة على سبع قصص هي في المقهى، والأرض المحرمة، وابنة العم. الصغيرة، وليلة عرس، والصاحب، والانتظار، والوريث السعيد، وسنعود إليها
(1) بحث جورج جوايو مترجم ومنشور في كتابنا: دراسات في الأدب الجزائري الحديث.
بالتعريف والنقد في مناسبة لاحقة (1).
نشرت المجاهد لمحمد ديب عدة قصص عندما كانت الثورة على أشدها. من ذلك قصة التمشيط (راتيساج)، وهي تصور عملية قام بها الجيش الفرنسي في تلمسان ونواحيها في بداية الثورة، كما تصور الحياة في تلمسان أثناء العملية، والقصة أخذتها المجاهد من مجموعة (صيف إفريقي) لمحمد ديب، وقد قدمت لها الجريدة بمقدمة طويلة عن الأدب الذي لم يعد صالحا اليوم، و (هو أدب القصور والطبقات المترفة البعيدة عن مشاكل الشعب، لأن العهد الذي يقتصر فيه الأدب على تصور ونقل المشاكل الغريبة
…
قد انتهى، كما انتهى الترف الفكري والخيالات المريضة
…
إننا في عهد ثوري أصيل لا يجوز فيه أن يبقى الأدب بمعزل عن حياة الجماهير، لذلك يجب أن تخرج من ثورتنا تجارب تسد هذا النقص).
وهكذا وجهت المجاهد دعوتها إلى الأدباء أن يكتبوا أدبا ملتزما وليس أدب القصور والترف، ودعت إلى أدب يصور حياة الشعب ويعبر عن مطامحه، ومن أجل ذلك أنشأت الجريدة ركنا أسمته (ركن الأدب الثوري) وفتحته لقصص من الصين وأخرى من الفيتنام
…
وكذلك فعلت مع قصة محمد ديب التي نحن بصددها، إذ جعلتها تحت العنوان نفسه (من الأدب الثوري) بينما نشرت قصائد ابن تومرت (مفدي زكرياء) تحت عنوان آخر قريب منه وهو (من أدب الثورة)، ومن الملاحظ أن الجريدة لم تذكر ما إذا قامت بترجمة القصة عن الفرنسية، كما لم تذكر أمامها اسم المترجم، والقصة تصور بدقة حياة الناس في الريف أمام عمليات التفتيش المهينة الدقيقة والمخيفة والقبض على الرجال (2) ..
أما قصة (فراق) لمحمد ديب أيضا فقد وضعت لها الجريدة عنوانا فرعيا هو (من الأدب الجزائري)، وهي مكتوبة في شكل حوار بين البطل وزوجته.
(1) نشر الدار القومية، القاهرة، 1959.
(2)
المجاهد، 70، 13 يونيو 1960.
وكان البطل (جمال) مستلقيا على فراشه في دار كبيرة وهو يحلم ويصف السكان كما يظهرون له، وهو يريد أن يتحرر، وأن يفارق هذا النمط من الحياة، وفي مساء يوم حار من شهر أغسطس خرج وشعر بالتحرر وبأنه إنسان، لكن أين ذهب؟ يفهم من الموقف أنه انضم للثورة، ولكن القصة لا تخبرنا بذلك، لقد كان عمر البطل 28 سنة، والملاحظ أن جريدة (المجاهد) لم تقدم للقصة بأية مقدمة تساعد على فهمها وتشير إلى محتواها ورموزها وهدفها (1).
وهناك قصة (مصرع خائن) التي قدمتها المجاهد أيضا لقرائها بمقدمة جاء فيها: هذا هو القسم الثاني والأخير من الفصل الذي عربناه من قصة (صيف إفريقي) التي صدرت بالفرنسية للكاتب الجزائري محمد ديب، وهي قصة تصور كيف فقد باساحلي ابنه وأخذ الفرنسيون آخرين لإعدامهم بسبب (وشاية أو بيع) العياشي لهم، لذلك قتل باساحلي العياشي بمساعدة ابنه (عابد)، ثم رجع إلى مكانه، لقد قتله بفأس في رحبة خاصة بدرس القمح (2).
تناول إذن عدد من الكتاب، العرب والأجانب، حياة محمد أديب وأدبه، وأعجبوا به، ومنهم من انتقده، ورأى فيه آخرون الأديب المتفائل المحب للإنسانية والفقراء، ورأى فيه آخرون الأديب المتشائم الهارب من الحياة. وسنعرض هنا لرأيين آخرين في الموضوع، رأي لويس عوض ورأي أحد الصحفيين الفرنسيين، وسنحاول أن نخرج بصورة واضحة عنه باعتباره أحد رموز هذا الأدب الجزائري المكتوب بلغة المستعمر.
حاول لويس عوض أن يدرس حياة محمد ديب من خلال أعماله لأنه كما قال لم يجد له ترجمة وافية، وكانت أعمال ديب عندئذ خمسة: البيت الكبير والحريق، والمنسج، ومن ذا يذكر البحر وصيف إفريقي، والبيت الكبير هو أشهرها ويأتي بعده في الشهرة: من ذا يذكر البحر؟، أما الأعمال الأخرى
(1) المجاهد 77، 19 سبتمبر 1960.
(2)
المجاهد 71، 27 يونيو 1960.
لمحمد ديب وهي في المقهى، وبابا فكران فقد كانت ما تزال بصدد النشر في فرنسا، كما أن لمحمد ديب ديوان شعر بعنوان الظل الحارس، لقد بدأ حياته شاعرا قبل أن يختار القصة ميدانا لنشاطه الأدبي، أما ثقافته فهي فرنسية حيث درس في تلمسان التعليم الابتدائي والثانوي، ومن ثمة كانت كتاباته كلها بالفرنسية.
نشأ محمد ديب في مدينة عريقة هي تلمسان ولكنه عاش طفولة بائسة. أثناء دراسته الابتدائية وقع له حادث وهو مشاهدة طفل فقير في حاجة إلى قطعة خبز، فحز ذلك في نفسه، فأسقط خبزا بالقرب منه وذهب في حال سبيله حتى لا يجرح شعور الطفل بمناولته الخبز، كانت طفولة محمد ديب تعبر عن طفولة كل الأطفال الجزائريين الذين عاشوا حياة البؤس، لذلك فإن الكبار يجدون في روايات محمد ديب ماضيهم وصورة لأنفسهم، وقد واصل ديب تعليمه الثانوي وهو من القلائل الذين أسعفهم الحظ بالدراسة في هذا المستوى، واكتشف وهو في هذه السن اهتمامه بالأدب، فأخذ يقرأ لنوابغ الأدب الفرنسي وغيرهم، واعترف ديب أنه تأثر بروايات (فرجينيا وولف) وبقي تحت تأثيرها إلى بلوغه سن العشرين، وفي الخامسة والعشرين حرر نفسه من تأثير هذه الكاتبة الانجليزية ليستقل بأسلوبه الخاص وبأفكاره، وكان هواه الأول أن يكون شاعرا موهوبا، فأخرج ديوانه (الظل الخارس)، ولكنه تحول من الشعر إلى النثر وخصوصا القصة، فكان (البيت الكبير) أول عمل له في هذا الميدان، ثم واصل نشر أعماله الروائية تباعا بعد أن اكتشف نفسه واكتشف فيه النقاد روائيا موهوبا أيضا (1).
كانت مجلة (الليترير فرنسيز) قد طرحت على محمد ديب أسئلة عن قضايا متعددة مثل الحب والمرأة ومستقبل الأدب الجزائري بالفرنسية، فقال عن الحب: إنه بالمعنى الغربي قوة غامضة تمتلك في الإنسان كل جوارحه وهو بهذا
(1) لويس عوض، الأهرام، 16 أغسطس، 1963.
المعنى عاطفة غريبة عن الجزائريين، ولكنها عاطفة بدأت تنبث في تربة بلادهم منذ بدأوا كفاحهم من أجل وطنهم، فكأن ديب بذلك يربط بين الحب والحرية ويجعل بينهما علاقة طردية، حسب تعبير لويس عوضى، إن الرجل الذي يستعبد المرأة هو في نفس الوقت غير حر، ويقول ديب إنه بمجرد ما اشتد الكفاح الوطني ولدت روايات الحب الحقيقية في الحياة
…
فالنساء بدأ وجودهن عنده منذ اشتراكهن في المعركة.
وقارن ديب بين شعوره وشعور زملائه الأدباء في موضوع الحب والمرأة. فقال إن كاتب ياسين استشعر (هو وبعض الروائيين الآخرين) موجة دور المرأة قبل حدوثها، أما هو (محمد ديب) ومولود معمري ومولود فرعون فقد كان من المستحيل عليهم التفكير في كتابة رواية غرامية أو التفكير في الكلام عن عاطفة الحب
…
وهو لا يرى في أدب الحب المتوارث منذ قرون تعبيرا صادقا على حد تعبير لويس عوض، فهو مجرد صيغ بلاغية عن الحب والمحبين، ويرى ديب أن شخصية المرأة قوية رغم ما يحيط بها من ظروف تمنع انطلاقها، وأن شخصيتها لا تقل قوة عن شخصية الرجل، بل قد تفوقه، ويبقى ديب يربط دائما بين المرأة ودورها في الكفاح، ويذهب إلى أن الحجاب أعد المرأة الجزائرية إعدادا مسبقا لحياة المقاومة السرية، ولا شك أن بعض الآراء حول الحب والمرأة تمثل هنا وجهة نظر الناقد وليس الكاتب.
أما بالنسبة إلى الأدب الجزائري بالفرنسية فيذهب محمد ديب إلى أنه بعد مرحلة التحرر والدخول في معركة البناء لم يعد أمام هذا الأدب سوى اقتحام مواقع الأدب العالمي، ومن رأيه أن صوت الكاتب سيخفت بعد الاستقلال ولن يبقى هو لسان الحال المعبر لأن الإقبال سيكون على ترتيب البيت وإعادة البناء، وهذه أمور سوف لا تسمح للكاتب بأن يصرخ كما كان يصرخ أغلب كتاب الجزائر، إنهم سيدخلون مرحلة يهتمون فيها بترسيخ وتعميق موضوعات أكثر إنسانية وفردية وستتقلص عندهم الإقليمية، وسيدخل الأدب الجزائري في حركة الفكر العالمي، ومنه الرؤى التي رصدها محمد
ديب قد تحقق الكثير منها بعد الاستقلال، وقد ثنى على رأيه لويس عوض مستشهدا بحركة التاريخ، ذلك أن محمد ديب وأصحابه يعترفون أن أدبهم هو أدب معركة وأدب إقليمي يتعرض لأوضاع لها ما يبررها في زمن معين من أجل إثارة الضمير الإنساني، لكن كتاب الجزائر بالفرنسية - في رأيه - لن يستمروا على هذا المنوال، بل سيصبحون كتابا تهيم أرواحهم بدون جسد تسكته، أي كتابا عالميين بحكم اللغة التي يكتبون بها (1).
والحقيقة أنه لم يستمر في الكتابة بعد الاستقلال إلا محمد ديب وكاتب ياسين وآسيا جبار، ولكن جيلا جديدا من الكتاب بالفرنسية أخذ في الظهور بعد 1962 أيضا، فإلى أي حد اقتحموا مواقع الأدب العالمي؟ وإلى أي حد ساهموا في ترتيب البيت الداخلي؟ الواقع أنهم وقعوا في حيرة أكبر من التي كانوا فيها بحكم ارتباطهم بالعالمية، فقد ازداد بعضهم بعدا عن شعبهم، وحاول آخرون الاقتراب منه عن طريق العيش داخله كما فعل كاتب ياسين حين استعمل اللغة الدارجة كوسيلة اتصال.
وعلى ذكر الجيل الجديد من الكتاب نشير إلى أن محمد ديب قال عبارة حيرت بعض النقاد، وهي (نحن الجيل الأخير) أي هو وزملاؤه من كتاب اللغة الفرنسية، أما لويس عوض فقد علق على هذه المقولة بأن صاحبها متشائم لأنه يعبر ربما عن موقف أناني، وقال إن هؤلاء الكتاب لن يكونوا الجيل الأخير إلا إذا عزلوا أنفسهم عن بيئتهم وقوميتهم واقتلعوا بأيديهم جذورهم، وفروا من معركة الحياة الجديدة، بعد أن صمدوا ضد أخطر عدو للحياة وهو الاستعمار.
والحق أن دراسة مصير جيل محمد ديب تفيد الكثير هنا، فهم قد اضطربوا ووهنت قواهم بعد استقلال بلادهم، وبدلوا آراءهم أو عزلوا أنفسهم عن مجتمعهم، فقد أحس بعضهم أن دوره قد انتهى بعد أن أطلق آخر صيحة.
(1) لويس عوض، مرجع سابق.