الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حالة الشعر والشعراء عشية الثورة
يمكن القول إن ساحة الشعر كانت خالية من الفرسان عشية الثورة، فقد أدى شعراء ما بين الحربين دورهم وانتهوا بالانطواء على أنفسهم، فلم نعد نقرأ لمحمد العيد وجيله سوى قطع في مناسبات محدودة ينشرونها في البصائر أو المنار أو النجاح أو هنا الجزائر وأمثالها من الصحف القليلة ذات المشارب المختلفة.
وخلت الساحة من أبي اليقظان (إبراهيم بن عيسى) ومحمد اللقاني والعمودي، بل حتى من الهادي السنوسي ومفدي زكرياء وأمثالهم ممن ضمهم كتاب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر)، كانت القضايا التي ناضلوا من أجلها قد نضجت وبدأت تأتي أكلها في الأحزاب السياسية والجمعيات الوطنية ودخلت في صراع غير متكافى مع الاستعمار منذ الحرب العالمية الثانية، وهو الصراع الذي انتهى بمجزرة الثامن مايو التي أذهلت كل شاعر وكل مثقف وكل سياسي.
لم يكن جيل الشعراء الذين ظهروا بين 1945 - 1954 متفرغا للشعر. كان يعيش الحركة الوطنية في أبعادها المختلفة، بل لقد توزع في اتجاهاته بين الطرفية والوطنية والرومانسية، لم يكن كله من أنصار هذا التيار أو ذاك، كما برد الحماس للسياسة الحزبية لأنها لم تنتج قيادة مقنعة ولم تعبر عن طموحات الشعب أو تحقق الآمال التي وعدت بها، فسكت مفدي زكرياء شاعر حزب الشعب واشتغل بالتجارة، وانزوى محمد العيد مرددا:
وجنحت للحرم الذي فارقته
…
زمنا جنوح الطير للأوكار
وفضل أحمد سحنون أداء رسالته في شعر الوعظ والإرشاد وتوجيه. الشباب الجديد، فكان يخاطب المعلم بهذه الأبيات الحية المتفائلة بمستقبل الوطن والأمة:
هات من نشء الحمى خير عتاد
…
وادخرهم لغد جند جهاد
هات نشئا صالحا يبنى العلا
…
ويفك الضاد من أسر الأعادي
هاته جندا قريا باسلا
…
إن دجى خطب يكن أول فاد
حطه بالإسلام من كل أذى
…
واحمه بالخلق من كل فساد
اهده بالعلم فالعلم سنى
…
ومن القرآن زوده بزاد
صغه للإسلام سيفا صارما
…
ومثالا من ذكاء واجتهاد
قد إلى العلياء أشبال الحمى
…
وإلى تحريرهم كن خير حاد
لا تقل شمس بني الضاد اختفت
…
وطوت أيامهم سود عواد
إن ذوى النبت فإن البذر في
…
باطن الأرض لينمو في ازدياد
لا تضق ذرعا ولا تهلك أسى
…
أمة الضاد ستحظى بالمراد
وبنفس اللهجة المتفائلة خاطب أحمد سحنون التلميذ الذي رمز به إلى الجيل الجديد، الجيل الذي رفع راية الجهاد في النهاية وقاد الثورة، فهو يخاطب التلميذ قائلا:
لك في كل حشا نبع وداد
…
يا رجاء الضاد يا ذخر البلاد
شعبك الموثق لم يبق له
…
من عتاد فلتكن خير عتاد
لج الاستعمار في طغيانه
…
كل يوم منه ألوان اضطهاد
لغة الضاد التي ما برحت
…
لغة الإعجاز سيمت بكساد
دينك الإسلام في أوطانه
…
ناله المكروه من أيدي الأعادي
وليكن حاديك تحرير الحمى
…
إن تحرير الحمى للحر حاد (1).
ولم يستطع شعر عبد الكريم العقون ولا شعر الربيع بوشامة ولا شعر أبي بكر بن رحمون أن يخرج عن نموذج شعراء الإصلاح في باكورته خلال
(1) من لوحة خطية عنوانها - هدية البصائر للمدارس العربية -، في الجانب الأيمن من اللوحة قصيدة إلى المعلم، وفي الجانب الأيسر قصيدة إلى التلميذ، واللوحة تقع داخل إطار أخضر اللون برسوم وزخرفة عرية جميلة، وفي أسفلها اسم الشاعر: أحمد سحنون بخط نسخ متفنن.
الثلاثينات رغم تداعيات الأحداث في الجزائر والبلاد العربية.
ولكن تيارا موازيا بدأ يظهر في الضفة الأخرى معبرا عن هموم المشاعر العاطفية والدينية والاجتماعية، وقد تمثل هذا التيار في الشعراء الذين احتضنتهم مجلة (هنا الجزائر) أمثال الأخضر السائحي والطاهر البوشوشي وأحمد الأكحل، والواقع أن هذا التيار قد استمر في تموجاته وعطائه حتى خلال الثورة.
لم يظهر أي أثر لنقد الشعر قبل الثورة، إذا استثنينا ملاحظات الإعجاب التي كان يبديها بعض الشيوخ عند سماعهم لقصيدة نظمها زميلهم الشاعر أو المعلم، لذلك كان الميدان خاليا من أصوات النقاد ومن محاسبة الشاعر على إنتاجه، فهو في ذلك ينظم الشعر في منتهى الحرية دون مراعاة الناقدين والمتذوقين.
عاش الشعراء الأزمة السياسية التي عرفتها البلاد عشية الثورة كما عرفها السياسيون، فقد أحسوا أن الجزائر قد فاتها ركب الثورة في تونس ومراكش وأن عليها اللحاق به، وكانوا غير راضين عن تصرف القادة مما جعلهم ينزعون ثقتهم منهم ويدعون إلى الوحدة الوطنية وتجاوز الأزمة، كما دعوا إلى عدم التحزب وتقديم المصلحة العليا للبلاد، ظهر ذلك في الشعر الذي قيل في جبهة الدفاع عن الحرية واحترامها (1951) على لسان محمد العيد مثل قصيدة (يا قوم هبوا) وقصيدة الصادق نساخ (اجمعوا الشعب)، كما ظهر في الشعر الذي نظم حول الاستفتاء على الوحدة الذي نظمته جريدة المنار سنة 1953 والذي اشترك فيه الشعراء والكتاب والسياسيون والعلماء، لقد كان الشعراء يحسون ربما أكثر من غيرهم بجمود الوضع، لذلك كانوا يتحدثون عن البديل ويبشرون بغد جميل، كما في شعر أحمد سحنون سابق الذكر، ولمحمد العيد بالذات رأي مكتوب نثرا حول الوحدة المنشودة، ومن الملاحظ أن مفدي زكرياء لم يشارك في هذا الاستفتاء.