الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانحرف بعضهم فأصبحوا من دعاة الإقليمية الضيقة والمحلية الجغرافية أو اللغوية وحتى العرقية، وهام بعضهم على وجهه بحثا عن العالمية صعبة الدروب والأشواك، واختفى فرعون لأنه كان ضحية الجرائم الأخيرة للاستعمار، وتأكد مالك حداد بأنه أصبح غريبا في وطنه منفيا في لغة أجنبية فألقى السلاح، ونشط ياسين فترة في معمعة الشيوعية ولكنه اجتهد واستعان بنخبة بلاده اليسارية إلى أن احترق واختفى، واختار محمد ديب المنفي العالمي فكان ربما الوحيد الصادق مع نفسه حين أعلن أنه يمثل الجيل الأخير، أما مولود معمري فقد ارتمى في حبائل الحاقدين على وحدة الجزائر فعزف معهم سمفونية الفصل العرقي واللغوي بين العرب والقبائل، وتحول من أدب رقيق إلى داعية ثقافتينفي الجزائر الواحدة وداس على التراث الإسلامي واللغة العربية وحضارة الأجداد من أجل اللغة والثقافة الفرنسية (العالمية).
كاتب ياسين
لعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا إن كاتب ياسين يأتي في الدرجة الثانية في الأهمية الأدبية بعد محمد ديب، رغم أن بعض المعجبين به وأنصاره الإيديولوجيين قد يجعلونه في الدرجة الأولى، فهو في الحقيقة الثاني ظهورا والثاني سنا والثاني سمعة، ولكن الأديبين (ديب وياسين) يلتقيان في الفترة الزمنية (الخمسينات) التي تعتبر فترة اليقظة والثورة والتحرر، وكلاهما تخرج من المدرسة الفرنسية، ونبت في مدينة عريقة من مدن الجزائر التاريخية: محمد ديب من تلمسان عاصمة بني زيان وكاتب ياسين من قسنطينة العاصمة العلمية والمركز السياسي لبني حفص، لكن ديب درس فيما يبدو دراسة منتظمة ونشأ في أسرة مستقرة ولو لم تكن مترفة، بينما ياسين عاش في حالة اضطراب دراسي وشهد وهو فتى أحداث الناس مايو 1945 التي جرت قريبا من مدينته، وتأثر بالمدرسة اليسارية التي يبدو أن ديب لم يتأثر بها كثيرا، ولكن كليهما كان ناقما على الاستعمار الذي جاء بالتمييز العنصري وبالفقر
والجهل لهما ولمواطنيهم، ولذلك اجتمع الاثنان على الثورة ضد الاستعمار ولكن طريقتهما في ذلك كانت مختلفة، فكان ديب يخاطب العقل والضمير الإنساني ويستعمل طريقة الإيحاء بينما استعمل ياسين العاطفة المشبوبة ولغة الشعر والرمز والأسطورة، وقد حافظ كل منهما على مكانته في المدرسة الأدبية الجزائرية ذات التعبير الفرنسي.
ولد ياسين في السمندو القريبة من مدينة قسنطينة سنة 1929، وبعد الدراسة في هذه المدينة شارك مبكرا في النضال السياسي وعانى من أحداث الثامن مايو، وبدأ نشاطه الأدبي كزميله بالشعر أيضا، وقد نشر في البداية عملا نثريا عن حياة الأمير عبد القادر عبر فيه عن ميوله الوطنية والأدبية المبكرة، ثم نشرت له تمثيلية بعنوان (الجثة المطوقة) أو المحاصرة، ولكنه لم يلفت نظر النقاد والرأي العام الأدبي إلا بروايته الغريبة (نجمة) التي نشرت في فرنسا سنة 1956، فقد اعتبرها النقاد أحسن شاهد على ميلاد الجزائر الجديدة التي كانت تخوض معركة التحرر، ويبدو أن ثقافة ياسين اللغوية كانت محدودة، ولذلك قيل إن محمد ديب هو الذي قرأ نص نجمة وهو الذي صحح لغته المتوترة قبل أن يرى النور في شكل رواية، ومهما كان الأمر فإن النقاد اعتبروا كاتب ياسين عندئذ أحسن من يمثل أدباء شمال إفريقيا من غير الأوروبيين، وكان قد سبقه إلى هذه الشهرة محمد ديب، ومولود معمري، ومولود فرعون ومالك حداد، لقد فهم النقاد أن (نجمة) الهاربة أبدا هي بطلة الرواية الخيالية، وهي تمثل الجزائر المكافحة نفسها كما تصورها ياسين، فهي ابنة امرأة فرنسية وأب جزائري مجهول.
ولنا أن نفهم من هذه الشخصية الغريبة التي اختارها ياسين بطلة لروايته أن ياسين قد تصور الجزائر على غير حقيقتها، فهي ليست امرأة فرنسية إلا إذا اعتبرنا ما كان يشاع من باب التهكم السياسي والدعابة الاجتماعية أن الجزائر (ابنة فرنسا)، وأن مدينة الجزائر هي (باريس الضغرى،) وهل نعتبر إذن الاستعمار هو أبو الجزائر؟ من هنا يظهر أن تصور ياسين للجزائر - إذا صح أنه
كان يعنيها بروايته - تصور خاطى من أساسه، وهو تصور يخلخل حقيقة الجزائر التي هي عند السياسيين الوطنيين والمصلحين معلومة الأم والأب ومعروفة الهوية وأن ميلادها لم يبدأ من الاستعمار الفرنسي بل هي أمة قائمة الذات منذ حقب التاريخ، وأن يد الاستعمار قد عملت بالعكس على تشويهها وليس على إعطائها هوية:(أما) فرنسية وأبا جزائريا مجهولين، وقد سئل ياسين نفسه في إحدى المقابلات عن مغزى روايته (نجمة) فأجاب بأنها هي روح الجزائر الممزقة منذ البداية بشتى التوترات الداخلية، فإذا صح هذا النقل عنه فإنه يكون قد تبنى تصور فرحات عباس للأمة الجزائرية حين قال إنه بحث عنها في التاريخ ولم يجدها، أما كاتب ياسين فقد وجدها ولكنها كانت ممزقة ومتوترة ومشوهة لا تكاد تعرف نفسها أو يهتدي إليها الناس.
وقد خاض النقاد في رواية نجمة وتفسير حضورها وغيابها، وفي الأبطال الذين يبحثون عنها فتمرق من بينهم دون أن يظفروا بها، إن الأبطال الأربعة (الأخضر ورشيد ومصطفى ومراد) كانوا يطاردونها فتنفلت منهم، وكانوا يخوضون من أجلها المغامرات للبحث عنها وهي المغامرات التي تشكل إطار الرواية، وبالإضافة إلى الحديث عن هؤلاء وعن نجمة هناك حديث عن الظلم السياسي والاقتصادي في الجزائر ووصف لمعاناة الشعب، ويلوم ياسين الفرنسيين وكذلك أهل بلاده على مصير الجزائر، وقد قلنا إن الرواية كتبت شعرا منثورا، وقد قيل إن كاتب ياسين دخل بذلك إلى مدرسة القصة الجديدة أمثال ناثالي ساروت وميشيل بوثور
…
وتناول الباحث جورج جوايو طريقة ياسين في كتابة الرواية قائلا إنها طريقة ويليام فولكنر الذي اشتهر بالعودة إلى الماضي بصفة متتابعة، اهتماما منه بالمنابع الأولى للإنسان، كما نقل جوايو رأي الناقد الفرنسي موريس نادو الذي سنعود إليه.
ويذهب جوايو أيضا إلى أن أصل الرواية عربي، ويظهر ذلك عنده في مواجهة الإنسان للزمن، أي اختلاط الأزمنة، فالمستقبل يختلط مع الماضي في ديمومة الحاضر، وفي الرواية قدر كبير من الخطابية العربية رغم أن ياسين
يستعمل اللغة الفرنسية كأداة للتعبير، وهو، كما يقول جوايو، يتحدث العربية في حياته اليومية، وهذه إحدى خصائص هذا الأدب الجديد في إفريقيا الشمالية، وقد أوضح جوايو المشكلة الأساسية التي كان يعاني منها أدباء العهد الاستعماري في فرنسا والمتمثلة في كونهم يعيشون في عالمين (العالم الفرنسي والعالم العربي)، لا يريدان أن يفترقا وفي نفس الوقت لا يقران تعاملهما معاملة السيد والعبد، كما أنهم يبحثون على الاعتراف بأدبهم وبشخصيتهم، ويعتبرون أدبهم أدب معاناة لأصحابه لأنهم لا يريدون الانفصال عن العالم الغربي (الفرنسي)(1).
ومن جهتها نشرت مجلة الآداب البيروتية مقالة ترجمتها عن مجلة (إيسبري) الفرنسية، تذهب إلى أن كاتب ياسين جذب إليه الأنظار بنشر تمثيليته (الجثة المحاصرة)، فهو أديب شاب مسلم (جزائري) اقتحم عالم النشر والأدب سنة 1956، ثم نشرت له رواية بعنوان (نجمة) أثارت اهتماما كبيرا ورشحت صاحبها للجوائز الأدبية، سيما وهو يكتب باللغة الفرنسية، ولكنه يختلف عن الكتاب الفرنسيين في تقاليدهم الأدبية، فهو لا يلتقي معهم إلا بوسيلة التعبير ماعدا ذلك، كالأسلوب والإيديولوجية وطريقة علاج القصة فكلها تفصله عنهم، وهو يعرف أنه قدم عملا يتميز به عن غيره من كتاب إفريقيا الشمالية، حتى أنه قال عندما سئل بأنه من الخطأ أن يجمع النقاد هؤلاء الكتاب تحت سقف واحد، فالكتاب الفرنسيون أمثال: ألبير كامو وإمانويل روبليس، وجول روى، يختلفون عن مولود معمري ومولود فرعون ومحمد ديب ومالك واري لأن هؤلاء (الجزائريين) يعبرون بالفرنسية عن مشاعرهم وأفكارهم العربية.
ومن رأي الناقد موريس نادو، أن ياسين قد أدخل قارى نجمة في عالم لا عهد للكتاب الجزائريين بدخوله، إنه عالم غريب وغامض، لذلك يجد فيه
(1) جورج جوايو في كتابنا دراسات في الأدب الجزائري الحديث، مرجع سابق.
القارى الغربي صعوبة كبيرة في الفهم والمتابعة، لأن الرواية تخلو من علاقة الزمان بالمكان، وليس لها شخصيات محددة تعود إلى القصة الموحدة في نهاية المطاف، لقد أهمل ياسين أصول الرواية وجاء بطريقة مغايرة، وإليك الصورة التي رأى (نادو) أن ياسين قد بنى عليها روايته، فهو قد بنى عالما كوكبيا أقام في وسطه شمسا هي نجمة يدور حولها عدد من الكواكب الكبيرة والصغيرة، ولكل منها نجمه الخاص، ولئن كانت الشمس ثابتة وكانت تلتمع دائما بالكثافة نفسها فنحن لا نعرفها إلا بانعكاساتها على الكواكب التي تحيط بها والتي تبعدها حركتها أو تقربها من نورها، وكذلك الأمر في شأن النجوم، ولما كانت هذه الكواكب سجينة الحركة نفسها التي تجعلها حاضرة، فإنه ينتج عن ذلك اختلاط تام بين الماضي والحاضر والمستقبل، فهل ذلك هو فعلا ما أراده الكاتب أو هو فقط ما تخليه الناقد؟ وقد رأينا أن إجابة ياسين عندما سئل عن عالمه لا تضيف توضيحا ولا تحدد إطارا حين قال إن نجمة تمثل روح الجزائر (1).
لقد رسمت نجمة على أنها فتاة ثابتة لا تتحرك وإنما تبدو ذات شعر ناري وجمال فتان ونسب خفي أو مجهول، ثم إنها تمثل الأهمية السعيدة أو المنحوسة التي يعلقها عليها الأشخاص الذين يطاردونها، إن الأشخاص الآخرين يمرون بجميع أطوار الحياة، من شباب إلى شيخوخة، ومن طفولة إلى بلوغ، ولكن أربعة من هؤلاء الأشخاص ينتمون إلى جيل واحد، ويعيشون تجارب مختلفة ولكن حبهم لنجمة يجمع بينهم، وهم يطوفون أنحاء الجزائر، وقد جمعتهم المدرسة، ثم طردوا منها وسقطوا في الدرك الأسفل الاجتماعي، ومارسوا الأعمال اليدوية، كما عانوا من التسكع ثم التقوا كعمال في ورشة كان يديرها فرنسي، وكان هذا يهينهم فانتقموا منه، وقتلوا فرنسيا آخر كان يتولى وكالة نقل لأنه أيضا كان يهين المسلمين (الجزائريين) ويتلذذ برؤيتهم يتعذبون.
(1) الآداب، مارس 1957، ص 240، نقلا عن جريدة فرانس أوبسيرفاتور.