الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الديموقراطيين الأحرار والرأي العام الديموقراطي في فرنسا، ومن الخطأ في نظره المساواة بين الأوروبيين في هذا المجال، ولا سيما اليهود الذين حاولت الوثيقة فصلهم عن بقية الفرنسيين مطمئنا لهم بأن مكانهم محفوظ في الجزائر المستقلة، واعتبر ضعف المشاركة (حسب دعواه) في النزاع العربي اليهودي فضيلة يمكن للثورة أن تستفيد منها، وألح على أن الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية القادمة لن تقصي أحدا وأنها تضمن المساواة للجميع (والإشارة هنا للأوروبيين بمن فيهم اليهود)، وهكذا يمكن أن نخرج بخلاصة وهي أن الخطاب العربي والهوية الثقافية يكاد يكون غائبا في برنامج مؤتمر الصومام (1).
الثقافة والحكومة المؤقتة
منذ تأسست الحكومة المؤقتة هيكلت نفسها على التعامل باللغة الفرنسية، فكانت إدارتها كالإدارة الفرنسية، هذا بناء على الأرشيف الصادر عنها والموجود اليوم، حتى الوزراء المحسوبين على اللغة العربية كان عليهم أن يتعاملوا بالفرنسية مثل أحمد توفيق المدني وعبد الحميد مهري، وكل المراسلات التي كانت تصل إلى مقر الحكومة بالعربية كانت تترجم إلى الفرنسية وليس العكس كالرسالة التي تتحدث عن الدخل المالي من الفريق الرياضي في المشرق، لكي يصب في حساب الداخلية (2).
لم يتعرض بيان الحكومة المؤقتة الأول إلى مشكلة الثقافة في الجزائر بطريقة مباشرة، ولم يجعل منها قضية في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال، وكان تعيين الرئيس فرحات عباس نفسه على رأس الحكومة برهانا آخر على عدم الاهتمام بالثقافة والهوية، فالرجل - رغم أنه سياسي ماهر وغير متنطع - معروف بأنه صاحب ثقافة غربية (فرنسية) وشديد الحماس لها، وكان برنامج حزبه وبعض تصريحاته قبل الثورة تصب في خدمة اللغة العربية وثقافتها بل وتعتز
(1) النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق.
(2)
الأرشيف الوطني علبه 21 - 50.
بالثقافة الإسلامية للجزائر، ولكن ذلك ليس برنامجا مشروطا لسياسة فرحات عباس أو منهاجا يسير عليه في التعامل مع السلطة الفرنسية، شأن جمعية العلماء أو الأحزاب المحافظة في البلدان الأخرى مثل حزب الاستقلال في المغرب وحزب الدستور القديم في تونس، ولا ندري ما النقاش الذي دار في المجلس الوطني ولجنة التنسيق والتنفيذ عندما تقرر تعيين السيد فرحات عباس على رأس الحكومة المؤقتة: من اقترحه، ومن عارض تعيينه، وعلى أي أساس؟ ومهما كان الأمر فإن الأصداء التي بلغتنا عندئذ ونحن طلاب تقول بأن فرحات عباس قد اختير للحكومة إفحاما لفرنسا والغرب بأن الثورة ليست معادية للحضارة الغربية ولا للثقافة الفرنسية بدليل أن عباس من المعجبين بهذه الحضارة ومن المعتدلين وغير شيوعي، كما أنه شخصية سياسية معروفة. ومهما كان الأمر فلا شك أن ردود الفعل في محافل الثورة والرأي العام الجزائري كانت متنوعة، وكان بعضها يتساءل عن مصير الثقافة في الجزائر إذا كان فرحات عباس هو قائد سفينتها وهو رمزها، وقد يؤخذ ذلك على أن الثورة عندئذ لم يكن يهمها الشأن الثقافي على الإطلاق، وإنما الذي كان يهمها هو الشأن السياسي والعسكري، أما الثقافة فقد أسندت إلى الشيخ أحمد توفيق المدني، وهو من جمعية العلماء في الطيف الفكري الذي انبثق عن مؤتمر الصومام، وبالإضافة إلى ذلك فالشيخ المدني من جامع الزيتونة ومن المدرسة الخلدونية حيث ازدهرت الثقافة العربية والعلوم الإسلامية، فما الذي يمنعه من بناء الثقافة الوطنية في عهد الثورة على قاعدة صلبة طابعها ويسمها بميسم الأصالة والتقدم؟ ولكن هناك موانع ومثبطات. فبالرغم من عمق قناعة الشيخ المدني بالانتماء العربي الإسلامي للجزائر وحرارة إيمانه بتاريخها ولغتها فإن شخصيته وماضيه لا تجعلان منه ذلك المدافع الصامد عن هذا الاتجاه، فقد كان هناك من ينظر إليه على أنه (تونسي) منفي في الجزائر، وبهذه الصفة كان عليه أن ينفذ ما يتفق عليه لا أن يبادر أو يفرض رأيه في الشأن الثقافي الجزائري، وقد دأب الجزائريون عامة أيام الثورة على
إسناد الشؤون الثقافية إلى رجل متكون في المعاهد العربية الإسلامية مما قد يفهم منه احترام الانتماء الثقافي أو يفهم منه عدم الاهتمام أصلا بقضية الثقافة، وهكذا فحين تجددت الحكومة المؤقتة عين السيد عبد الحميد مهري وزيرا للشؤون الثقافية، وهو رجل متخرج من جامع الزيتونة وعميق الإيمان بالثقافة العربية كما أنه من عائلة متدينة، وأذكر أن فروع اتحاد الطلبة في الخارج كانت تسند النشاط الثقافي أيضا إلى أحد الطلاب المتخرجين من معهد عربي إسلامي، كلما أمكن ذلك. ويخبرنا أحمد توفيق المدني في مذكراته أن المصريين كانوا يعارضون تعيين فرحات عباس على رأس الحكومة المؤقتة، لأنهم كانوا لا يثقون فيه، كما أنه كان لا يثق فيهم، فهم يرون الذين قاموا بالثورة أول مرة أحق منه بهذه المهمة، وينظرون إليه على أنه مندس من أجل تحويل مسار الثورة نحو الغرب وليس نحو المشرق والعروبة، ومن رأي المدني أن المصريين قد أخفقوا في معارضتهم تعيين فرحات عباس. قام المدني نفسه بتعريب بيان الحكومة المؤقتة يوم 19 ستمبر 1958 ووزعه على الصحفيين العرب والغارات العربية والسلطات المصرية، واعترفت الجمهورية العربية المتحدة والعراق وباكستان وليبيا واليمن بالحكومة المؤقتة، ولا يتحدث البيان الحكومي عن هوية الجزائر على الإطلاق، وهو أمر يثير الدهشة بالنسبة لثورة تكافح من أجل استعادة الاستقلال الذي يعني استعادة الأصالة والهوية الوطنية، ثم وجه فرحات عباس إلى جمال عبد الناصر رسالة خاصة قام المدني بتعريبها أيضا، كما وجه عباس رسائل أخرى إلى رؤساء وملوك العرب، وكانت الرسالة مرفقة بمذكرة قانونية صاغها القانوني محمد البجاوي مع قائمة بأسماء الوزراء، وقد جاءت في هذه الرسالة عبارات غامضة مثل إن استقلال الجزائر سيكون عامل استقرار في المغرب العربي وفي البلدان العربية كلها (التي نعتبرها وحدة لا تتجزأ)، وفي هذه الرسالة طلب أو رجاء أن تكون الجمهورية العربية المتحدة أول من يعرف بهذه الجمهورية (الجزائرية)
الفتية التي نشأت في الجهاد وآمنت بمستقبل العروبة الخالد، كما آمنت باستقلال الشعوب وبالسلام العالمي)، وكل هذه عبارات سياسية ودبلوماسية لا شأن للغة المشتركة فيها ولا خيار الجزائر الثقافي وسط المد الثوري الذي تصنعه حركات التحرير في العالم. وعند أول اجتماع للحكومة المؤقتة (20/ 09/ 1958) طالب أحمد توفيق المدني بوقف إضراب الطلبة عن الدروس في جامعة الجزائر لأن الجبهة هي التي أمرت به وأن الاتحاد صادق عليه، وأن الجبهة هي التي أمرت الطلبة بالالتحاق بجيش التحرير، وبعد المناقشة وافقت الحكومة على دعوة طلبة جامعة الجزائر لاستئناف دراستهم (1) وربما يعتبر ذلك من أهم قرارات الحكومة المؤقتة بشأن مظهر من مظاهر الثقافة وهو التعليم (2).
أعلنت الحكومة المؤقتة في أول تصريح بعض توجهاتها الفكرية وتحدثت عن الروابط الحضارية بين الجزائر والشعوب العربية، كان التصريح واضحا هذه المرة في أنه يؤسس لعلاقات جديدة ويذكر بعلاقات قديمة، فمن حيث البناء الإيديولوجي قال التصريح إن الشعب الجزائري يريد إقامة جمهورية ديموقراطية واجتماعية تأسيسا على ما جاء في بيان أول نوفمبر، وعن شعوب تونس والمغرب والجزائر قال إن لها مصيرا مشتركا عبر العصور وإن الجزائر جزء لا يتجزأ من المغرب العربي
…
وهي تتقاسم مع شعوبه (التراث الرائع للحضارة العربية الإسلامية).
. وأضاف التصريح أن الشعب الجزائري (المتعلق بحضارته ينتمي إلى الوطن العربي، فهذا الوطن واحد ومن الخطأ السياسي محاولة تقسيمه،) وأضاف أن التضامن العربي ليس كلمة جوفاء، ونوه بفضل الشعوب الشقيقة وحكوماتها وما قامت به نحو الشعب الجزائري حتى أصبح
(1) بعد أن كان طلبة الثانويات والجامعات الفرنسية الأخرى قد استأنفوها في أكتوبر 1957 بأمر من لجنة التنسيق والتنفيذ.
(2)
أحمد توفيق المدني، حياة كفاح، ج 3، الجزائر، 403، 405.
قريبا من بلوغ هدفه .. ومن ثمة فإن الشعب الجزائري يعترف بدينه الكبير لجميل الشعوب العربية
…
ونحن إذا تأملنا في النصوص المختلفة التي تحدثت عن الثقافة والروابط الحضارية ربما نجد النص الذي أوردناه الآن أكثر النصوص صراحة ووضوحا (1).
وفي رسالة وجهتها الجبهة إلى الفرنسيين قالت إن الثورة ليست حربا دينية بل هي ثورة تحريرية، وتحدثت بلغة دبلوماسية عن أن فرنسا يمكنها الاحتفاظ في العالم الإسلامي بسمعة طيبة إذا ما تخلت عن سياسة القوة في الجزائر، إن على فرنسا أن تنضم إلى سياسة الصداقة والتعاون الحر .. انطلاقا من شرارة الاتصال بين حضارتين .. تلك هي (وجهة المغرب العربي كهمزة وصل بين ثقافتين وبين عالمين)، ووعدت الرسالة بأن الجزائر المستقلة ستقيم (علاقات ودية مع القطرين الآخرين في المغرب العربي ومع بلدان المشرق الشقيقة للشعب الجزائري في تقاليده العربية الإسلامية)، ونحن هنا أمام التزامات واضحة بتعاون الحضارات وتفاهمها بدل تصادمها، كما أننا أمام مشروع يجعل المغرب العربي صلة وصل بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط كما أنه يفعل ذلك بالتكاتف أيضا مع أشقائه في المشرق العربي الذي ينتمي وإياه لحضارة واحدة هي الحضارة العربية الإسلامية (2).
في افتتاح المؤتمر الرابع للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي عقد في بئر الباي بتونس سنة 1960، ألقى السيد فرحات عباس كلمة الحكومة المؤقتة وعرج فيها على قضايا ثقافية توضح فكر الثورة وهي في معمعانها، فقد رجع بالطلبة إلى سنوات العشرينات من القرن الماضي عندما كان طالبا ولم يسمح لهم كجزائريين بتكوين اتحاد خاص بهم، وروى أنه ترأس سنة 1926
(1) النصوص السياسية لجبهة التحرير .. نقلا عن المجاهد، 10، أكتوبر 1958، ص 139.
(2)
النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق.
جمعية (ودادية) الجزائريين وساهم في تحويلها إلى (جمعية الطلبة المسلمين)، كما شارك في تأسيس جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بباريس، وقال إنهم واجهوا عندئذ مشاكل عديدة مثل (مشكلة المحافظة على الثقافة واللغة العربية)، وأضاف أن الاستعمار قد بذل كل جهوده للقضاء على ثقافتنا القومية قصد إحلال الثقافة واللغة الفرنسية محلها من الناحية النظرية، لأن الاستعمار في الواقع منع الجزائريين من تعلم لغتهم دون أن يعلمهم لغته، والذي يرجع إلى أدبيات العهد الذي يتحدث عنه فرحات عباس يدرك أن المعركة الثقافية كانت تثشكل جوهر القضية الوطنية سواء بالنسبة لمن درسوا بالفرنسية أو من درسوا بالعربية، فالسؤال كان دائما: كيف يسترد الشعب الجزائري هويته العربية الإسلامية (1).
وفي نفس المؤتمر ألقى وزير الثقافة عندئذ السيد عبد الحميد مهري كلمة وزارته وتحدث عن المسألة الثقافية أيضا، ومن رأيه أن المثقفين بالثقافة العربية متصلون بالأمة والتراث ولكنهم مفصولون عن العصر، وأن الطلبة المثقفين باللغات الأجنبية متصلون بالعصر ولكنهم مفصولون عن الأمة وتراثها، وهذه معادلة صعبة، فمن هو الأقرب إلى تمثيل هوية الشعب الجزائري: من تمثل حضارته أو من تمثل حاجة العصر؟ لقد وجد الطبيب الشيوعي الصادق هجريس نصف الجواب عندما أطلق على الصف الأول في المعادلة (حراس الظل) أي حماة التراث العلمي والديني للحضارة العربية الإسلامية (2)، ولا نظن أن هناك اختبارا لهذا الصنف أو ذاك لأن فلاسفة الاحتلال قطعوا المدد عن الاثنين فلم يتركوا الصنف الأول ليطور تراثه ولم يفسحوا المجال للصنف الثاني ليوظف مواهبه، ومهما كان الأمر فإن الوزير مهري قد حث هؤلاء وأولئك على استكمال النقص عند كل منهم، ورأى في المؤتمر بادرة لتدارك ذلك النقص، فهو مؤتمر جمع بين طلبة من بلد واحد ويدرسون في بلاد مختلفة، ولكنهم سيصبحون قادة
(1) المجاهد، 74، 8 أغسطس، 1960.
(2)
انظر سابقا.