الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيما يلي سنتحدث باختصار عن هذه الأحزاب وقادتها، وسنركز على حزب الشعب (حركة الانتصار) باعتباره المخطط للثورة وكون القيادات الأولى برزت من صفوفه، ثم نركز على جمعية العلماء باعتبارها جمعية ثقافية أعدت الجماهير روحيا ودينيا لتحتضن الثورة، وباعتبار عملنا هذا يتناول الجانب الثقافي.
جبهة الدفاع عن الحرية ومسألة الاتحاد
عندما أصبح تزوير الانتخابات مسألة مكشوفة تمارسها الإدارة دون وجه حق ولا غطاء شرعي، وعندما تكاثرت الاعتداءات على الحريات المدنية والسياسية بالاعتقال ومصادرة الصحف وإغلاق المدارس تجاوبت الأحزاب المذكورة، بالإضافة إلى جمعية العلماء والشخصيات المستقلة والتأمت في العاصمة لتكوين (جبهة للدفاع عن الحرية واحترامها)، هكذا ولدت هذه الجبهة في أغسطس 1951 على يد زعماء الأحزاب وجمعية العلماء، ورغم الخطب والإعلان عن برنامج جذاب وفي الصميم فإن الجبهة سرعان ما تفتتت وتخلت عن مواصلة الاجتماعات والعمل المشترك، وبذلك انتصرت الإدارة التي واصلت سياستها القمعية وانتخاباتها المزورة.
وقد طرحت بعد ذلك جريدة (المنار) استفتاء على الاتحاد، وتعني به اتحاد القوى الوطنية لمواجهة الإدارة الماضية في سياستها القمعية فاستجاب الكتاب لفكرة الاتحاد قادة وأتباعا، سياسيين ومثقفين من كل الفئات، فكانت حملة إعلامية، ملأت الفراغ بعض الوقت بعد أن أصبح عامة الناس متضايقين منه أمام فشل الأحزاب في تحقيق الآمال الوطنية، بل وانشغال بعض الأحزاب بانشقاقات داخلية.
انشقاق في حزب الشعب
من هذه الأحزاب التى كانت تعاني الانشقاق في وقت عصيب حزب
الشعب الذي كان بزعامة مصالي الحاج، هذا الحزب الذي تأسس سنة 1937 ظل هو العمود الفقري في سياسة المطالبة باستقلال الجزائر والعمل على تحقيق ذلك بكافة الوسائل ومنها السلاح، وفي مرحلة قريبة من بداية الثورة جرى داخل الحزب بعض الخلاف حول الطرق المؤدية للاستقلال: هل هي مقاطعة العمل السياسي داخل النظام أو التعامل مع النظام بوجهين: وجه ظاهري تمثله المشاركة في الانتخابات ووجه باطني أو سري وهو الإعداد لثورة مسلحة، وقد استقر الرأي على ذلك المنهج فأصبحت (حركة الانصار) هي الوجه السياسي الظاهري و (المنظمة الخاصة) هي النواة لتحضير الثورة في السرية، بينما بقي حزب الشعب الذي حلته السلطة الفرنسية واعتبرته خطرا على أمن الدولة ومصير الجزائر الفرنسية، هو التنظيم الذي يغطي الاثنين وهو المرجع في السياسة وفي العمل المسلح.
ولابد من القول إن الحزب قد تضخم وتجدد ودخلته عناصر مثقفة، مارست السياسة وحركتها الحياة في السجون، وأصبحت لها آراؤها في وضع الإستراتيجية المناسبة للمرحلة، لذلك برزت شخصيات قائدة في كل تنظيم سواء في المنظمة الخاصة أو حركة الانصار، وأصبح هناك قادة عسكريون وقادة سياسيون، وفيهم النواب في الجزائر وفرنسا، وفيهم الصحفيون والصيادلة والأطباء والمعلمون، وقد حدث انشقاق بين (الحرس) القديم والقيادة الجديدة، أو بين المحافظين على زعامة الحزب كما هي بقيادة مصالي الحاج وبين (اللجنة المركزية) التي أصبحت بالتدرج تضم جيلا جديدا من السياسيين الميدانيين، وقد ظهرت التسمية الجديدة بعد قطع الجسر بين أنصار مصالي وخصومه داخل الحزب، وبعد أن فشلت جهود التوفيق بينهما على يد بعض العناصر من المنظمة الخاصة.
لماذا لم يعد مصالي الحاج محل ثقة أعضاء الحزب؟ إن مصالي ظل يملأ الساحة السياسية لحزبه وأنصاره منذ 1927، فهو المرجع السياسي الوطني عندما كان العمل السياسي مرتكزا في فرنسا، وهو كذلك المرجع عند ما انتقل
العمل السياسي إلى الجزائر وانتشرت خلايا الحزب في مختلف جهات الوطن، بنى مصالي الحاج شخصية ذات هالة (كاريزمتية) عند أتباعه، وحتى على المستوى الشعبي، فكان له مظهر الزعيم ممسكا بزمام الحزب، رغم أن خصومه ينتقدون مستواه الفكري وقدرته في الذكاء، وكان يقال إن عقيدته كانت وطنية يسارية (ماركسية) لتأثره بمبادى الحزب الشيوعي الفرنسي ولكون زوجته الفرنسية كانت شيوعية صريحة، ولكن عقيدته تحولت إلى عربية إسلامية تبعا للتيار القومي والإسلامي الذي كان ينشط في المشرق خلال الثلاثينات، كان البعض من أتباعه قد اتهمه بالفردية والاستبداد بالرأي ونشر (عبادة) الفرد، وهذا ما أخذته عليه اللجنة المركزية عشية الثورة حين بلغ الخلاف بينهما أشده، وأقصى كل منهما الآخر، وكان من نتيجة هذا الخلاف تأخير إعلان الثورة حوالي سنتين، ومن نتائجه أيضا أن الثورة قد أعلنت بدون مصالي وبدون خصومه المركزيين، فقد أعلنها فريق ثالث من الحزب ذاته منبثق عن المنظمة الخاصة ليجعل المتخاصمين أمام الأمر الواقع ويجبرهما على الانضمام إلى الثورة بدل الجدال العقيم حول الزعامة.
ولعل من المأساة أن يعيش المرء عيشة مصالي، فقد ظل فترة طويلة في السجون الفرنسية (في الجزائر، وفرنسا، وإفريقيا) بينما كان الحزب ينمو ويكبر عددا وفكرا، ومع السن والمسافة لم يعد مصالي قادرا على متابعة الأحداث وفهم ذهنية الأجيال إلا بواسطة وذلك لا يكفي، فالاستعمار الفرنسي يقتل بعض الزعماء قتلا بطيئا بينما يصنع الفرص لآخرين حتى ينتفخوا ويصيروا زعماء، ورغم شهرته فإن مصالي لم يخرج عن فرنسا وسويسرا (أو أدغال إفريقيا) ولم يزر المشرق العربي سوى مرة واحدة عندما أدى فريضة الحج، ولم يمر على تونس أو ليبيا أو سوريا لأن الرخصة التي أعطيت له للحج صيف 1951 اشترطت عليه السفر جوا.
ومع ذلك فإن مصالي نزل مصر بعد أداء الحج، وكانت له فيها أنشطة شملت الأزهر والجامعة العربية ومكتب المغرب العربي، ويبدو أنه أقام في مصر
بضع أسابيع ظهر فيها محل تقدير وتكريم، فنحن نجده في إحدى الصور بلباسه الأوروبي مع الطربوش واللحية الطويلة وهو يتبادل الحديث مع بعض الأعيان كالدكتور منصور فهمي والشيخ عبد اللطيف دراز شيخ الأزهر، ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، ورئيس الجمعية الملكية الفلاحية فؤاد أباظة، ويبدو من المؤكد أنه التقى عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية، وفي هذه الأثناء اتخذت اللجنة السياسية للجامعة العربية قرارا برفع القضية المراكشية إلى هيئة الأمم المتحدة، وقد ذكرت جريدة (منبر الشرق) نبذة عن حياة مصالي وأفكاره السياسية ونشاطه في جنيف مع صديقه علي الغاياتي وغيره، وصرح للصحفي عبد الكريم محمد الذي يعرفه من قديم بأن البلاد العربية المسلمة لن ينقذها إلا العودة إلى تعاليم الإسلام ووحدة العرب والمسلمين حول الإسلام (1).
ويبدو أن أتباع مصالي في الجزائر وفرنسا كانوا يعتقدون أنه سيغتنم فرصة وجوده في المشرق لأول مرة ويوسع من دائرة التعريف بالقضية الجزائر وربما نصحوه بأن يختار الإقامة هناك، كما فعل الأمير الخطابي وغيره، بدل البقاء في السجون الفرنسية، ولكن مصالي فاجأ الجميع بالرجوع إلى أوروبا، والحلول بسويسرا بدعوى التعريف بالقضية الجزائرية في الأمم المتحف التي كان مقرها عندئذ في جنيف، وقد أقام مصالي مأدبة في أوائل ديسمبر 1951 للوفود العربية والإسلامية بهيئة الأمم في جنيف، ومن الذين حضروا المأدبة عبد الرحمن عزام وأحمد الشقيري ورؤساء وفود الدول العربية والإسلامية (2).
ومما يلفت النظر أن مصالي ألقى فيهم خطابا نوه فيه بالكرم الذي حظي به لدى الحكومات والشعوب العربية والإسلامية أيام إقامته في المملكة العربية السعودية ومصر، ووعدهم بأن الشعب الجزائري سيحقق آمالهم، وبعد حوالي شهرين ونصف قامت السلطات الفرنسية باعتقال مصالي وهو متجه إلى بوردو
(1) المنار، 15، 22 أكتوير 1951.
(2)
المنار، 11، 8 ديسمبر 1951