الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلمنا من مصادر شفوية أن الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي مقدم الطريقة القادرية في سوف قد أهدى محلات يملكها في تونس إلى جبهة التحرير الوطني، ومنها قصر جعلت فيه مكاتبها، والشيخ عبد العزيز بن الهاشمي هو الذي كان قد (تمرد) على فرنسا سنة 1938 في سوف ورحب بوفد جمعية العلماء برئاسة ابن باديس، وأعلن انضمامه إلى هذه الجمعية، فألقت السلطات الفرنسية القبض عليه وعلى من سانده من العلماء وزجت بهم في سجن الكدية بقسنطينة، وقد توفي الشيخ عبد العزيز في تونس بعد الاستقلال.
الأوقاف الإسلامية
أشرنا في البداية إلى أن استيلاء إدارة الاحتلال على الأوقاف الإسلامية بقي مشكلة حية في ذاكرة الجزائريين طيلة العهد الاستعماري، وقد كتبت جريدة البصائر بتاريخ يونيو 1955 خلاصة عن الوقف المعروف بوقف عبد الرحمن القينعي الذي يرجع إلى 1864، والقينعي من المحسنين الجزائريين الأثرياء، ترك للمكتب الخيري الإسلامي وقفا لفائدة الفقراء المسلمين في مدينة الجزائر الذين مسهم الضر بعد مصادرة الفرنسيين للأوقاف الإسلامية، وكان مبلغ الوقف أربعة ملايين فرنك سنويا، وهو مع ذلك غير كاف لأن عدد الفقراء كان يتجاوز العشرين ألفا في العاصمة وحدها، وكان للأوروبيين أوقافهم ومكتبهم الخيري أيضا، وكانوا يفرضون ضريبة على الملاهي لفائدة هذا المكتب بينما لا يستفيد المسلمون من هذه الضريبة شيئا رغم أنهم كانوا يدفعون القسط الأكبر منها بحكم دخولهم للملاهي، وتقدر الضريبة بخمسة وتسعين مليون فرنك ونصف المليون، فطالب المسلمون بتقسيم ضريبة الملاهي بينهم وبين الأوروبيين خصوصا وأنه لا يكاد يوجد عند هؤلاء فقراء، ولكن المسألة جاءت معكوسة فقد كان الأوروبيون هم الذين يطالبون بدمج وقف القينعي في رصيدهم الخيري ليستفيدوا أيضا منه، وقد اتهم المسلمون إدارة بلدية العاصمة بأنها تريد
= وقدمها في ملتقى: دور الزوايا والطرق الصوفية أثناء الثورة، وهران، مايو 2005.
الاستيلاء على ما بقي من الأوقاف الإسلامية في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بإرجاعها كلها إلى جماعة المسلمين، وفي الوقت الذي أعلن فيه الحاكم العام أن إدارته سترجعها إليهم حسب دستور سنة 1947.
وبعد مشادات بين عمر بوضربة رئيس المكتب الخيري الإسلامي والحكومة. وبعد تدخل أطراف فرنسية، رضيت الحكومة بمنح قسط من الضريبة إلى المكتب الخيري الإسلامي، لكن الإدارة الاستعمارية طبقت سياسة التمييز فمنحت المكتب الإسلامي الثلث فقط من تلك الضريبة، أي ثلاثين في المائة من المبلغ المذكور بينما المكتب الأوروبي الذي لا يكاد يوجد له فقراء يأخذ منها سبعين في المائة، وقد علقت البصائر على ذلك بقولها: لو قسمت الضريبة مناصفة بين المكتبين لنال المسلمين منها 47 مليونا بدل أربعة (1).
أما مقالة نور الدين عبد القادر عن أصل وقف القينعي فقد نشرت سنة 1960 واحتوت على معلومات هامة لم نكن قد اطلعنا عليها عندما كتبنا عن الأوقاف في كتابنا السابق، اعتمد نور الدين على عدة وثائق وعلى ثلاثة معاصرين ممن عرفوا القينعي شخصيا وكانوا من المتقدمين في السن.
ولد القينعي - بناء على أغلب التقدير - في مدينة البليدة في عهد الداي مصطفى باشا (أوائل القرن التاسع عشر) وهو من قبيلة (بني قينع) القاطنة بين بوينان وتابلاط، وبعد رشده اشتغل بالتجارة، قبل الاحتلال، وكان يتردد على العاصمة، فتكفل بعد الاحتلال بصنع السراويل والبرانيس والشواشي للجند الفرنسي - وهي بضاعة عادة تصنع من الملف الملون المطرز، كما تكفل لهم بصنع المصنوعات الجلدية التي يحتاجها فرسانهم ومشاتهم، فوظف القينعي عمالا وراجت تجارته وكثرت أملاكه وماله، واشترى الأراضي في متيجة كما اشترى العقارات، وكان يتعامل بالربا، ويتابع من يستدين منه أو يتأخر في الرد. على يد الحاكم، وكان حريصا كل الحرص على المال، وحين وفاته لم يمش
(1) البصائر 324، و 2 يونيو 1955.
في جنازته إلا عدد قليل، وقد سموا عليه شارعا في حارة الجبل بالعاصمة.
كان القينعي يلبس قفطانا، ولا يهتم باللباس إلا في حالات نادرة، ولكنه كان دائما نقي اللباس، وقد أصبح صاحب ثروة ضخمة، وينزل عند صديقه قائد الشمع في البليدة، وكان متواضعا يعيش عيشة بسيطة، ويتصدق على المحتاجين بلا رياء، وكان هدفه هو فعل الخير، وفي كل خميس يذهب إلى ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي ويحضر قراءة بعض الأحزاب، ويعطي لكل قارى مالا وهو ما يسمى (بحزب القينعي) الذي ما يزال منتظما إلى سنة 1960، كما كان يزور ضريح سيدي أحمد الكبير في البليدة.
أوقف القينعي أملاكه على فقراء المسلمين بمقتضى رسم مسجل بالمحكمة المالكية بالجزائر بتاريخ 29 مارس 1860، وبناء عليه فان كل أملاك القينعي وما سيملكه من عقار ودور ومصوغ وأثاث ينتفع به مادام على قيد الحياة، وبعده يؤول إلى فقراء مدينة الجزائر، وقد أوصى لابنه الوحيد الحاج محمود القينعي بمائة وخمسين فرنكا كل شهر وبالسكنى بلا كراء، كما أوصى لأخته الشقيقة عائشة بخمسة وسبعين فرنكا وبالسكنى بلا كراء في دار قرب جامع سفير، وأخيرا أوصى لزوجته عائشة بنت إسماعيل بخمسة وسبعين فرنكا شهريا، وتكفلت (دار الصدقة) بهذا الوقف عوضا عن مفتي وقاضي المالكية، وكلاهما مذكور في رسم الوقف (1).
وهناك معلومات إضافية أوردها نور الدين عن حياة السيد القينعي، منها أنه كان يسكن في زقاق قرب (ضريح) ابن ميمون بحارة الجبل بالجزائر، وأنه توفي في البليدة يوم 9 يناير 1868 وهو في الخامسة والتسعين، وربما كان عمره أقل من ذلك، حسب نور الدين، أما ابنه الحاج محمود فقد توفي قبله بسنوات، وفي سنة 1934 جدد قبر القينعي وأحيت (دار الصدقة) ذكراه بهذه المناسبة.
(1) دار الصدقة مؤسسة خيرية أنشئت سنة 1857 في عهد نابليون الثالث، أنظر عنها كتابنا التاريخ الثقافي، ج 3.
وبناء على استنتاج الشيخ نور الدين فإن القينعي كان رجلا حكيما بحيث لم يترك ثروته تتبدد وتضيع في أيدي الورثة، وكانت له خبرة بأمور الدنيا والدين، وهو الذي بنى حمام سيدي عبد الله، وجعل له دكاكين للكراء، وهو الحمام الذي ما يزال موجودا إلى عهد الكاتب نور الدين (1).
وقد اشتركت جريدة المقاومة الجزائرية وجريدة المجاهد - بالفرنسية - في نقد سياسة الاستعمار إزاء الأوقاف الإسلامية أيضا، فالجريدة الأولى قالت إنه إلى سنة 1954 كانت فرنسا تستحوذ على المؤسسات الدينية وتتصرف في رجال الدين وتستولي على الأحباس (الأوقاف)(2).
أما المجاهد فقد نشرت مقالة مطولة استعرضت فيها تاريخ الأوقاف خلال الاحتلال وجعلت عنوان المقالة ملفتا للتظر وهو (استغلال الأحباس (أملاك الحبس) من قبل الاستعمار الفرنسي)، بدأت ذلك من تاريخ تشريع الوقف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة وصولا إلى أوقاف مكة والمدينة في الجزائر، وأوقاف المساجد، مستشهدة بأقوال المستشرق الفرنسي شيربونو وسوتيرا Sautayra، الفقيه فرنسي الذي عمل في الجزائر طويلا، عن أعمال الخير التي يخدمها الوقف مثل المستشفيات والملاجى والأضرحة وبيوت الغرباء والسابلة، والمؤسسات الدينية كالمساجد والزوايا والمدارس القرآنية، وأشارت المجاهد أيضا في الجانب التاريخي إلى قرار الحاكم العام كلوزيل في السابع من ديسمبر 1830، وهو القرار الذي وضع أملاك الوقف تحت نظر الدولة المحتلة (الدومين)، ثم ما تلاه من قوانين حول هذا الموضوع، مثل قانون 9 ديسمبر 1905 في فرنسا الذي قضى بفصل الدين عن الدولة والذي طبق في الجزائر على الديانتين اليهودية والمسيحية فقط واستثنيت منه الديانة الإسلامية.
(1) هنا الجزائر 87، مايو 1960.
(2)
المقاومة الجزائرية، عدد 8، 11 مارس 1957.
واستعرض صاحب المقال موقف المقاومة الوطنية من إبقاء الأوقاف في أيدي الفرنسيين، حتى وصل إلى القانون المعروف بقانون ميشيل (سنة 1933) الذي سحب دور المساجد من الديانة الإسلامية في العاصمة وأعطى رئاسة المجلس الاستشاري الإسلامي في الولاية إلى أحد الفرنسيين، لقد ظل الجزائريون يطالبون بحقهم في الأوقاف إلى سنة 1947 حين صدر ما يعرف (بدستور الجزائر) الذي لم يجب على مسألة الوقف بأسلوب واضح أيضا، فقد نصت مادته رقم 56 على أن المجلس الجزائري (البرلمان المحلي) هو المخول للنظر والإعلان عن إدارة الأوقاف وتطبيق مبدأ استقلال الديانة الإسلامية عن الدولة، ولكن الحكومة والمجلس عملا على تأخير البت في هذا الموضوع إلى اندلاع الثورة.
ومن رأي صاحب المقال أيضا أن جمعية العلماء تقدمت منذ 1950 إلى المجلس بمشروع لفصل شؤون الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية يعكس تصورها، وقدمت للمشروع بمقدمة تاريخية، واقترحت الجمعية تكوين مجلس إسلامي مؤقت مهمته الاتصال بالإدارة إلى أن تتخلى عن أملاك الوقف للمسلمين، لكن المشروع لم يلفت نظر أعضاء المجلس الجزائري لتعارض ذلك مع رغبة الإدارة الاستعمارية ومع (رغبة الشيوخ المأجورين) عندها ورؤساء الزوايا المتعاملين معها إقطاعيا، وأوضح صاحب المقال أن كل الجزائريين متفقون على عدم المساس بمؤسساتهم الخاصة، كما أنهم عازمون على المحافظة عليها بقوة روحهم الوطنية، إن (استعادة أملاك الأوقاف أصبحت من المطالب المبدئية للثورة الجزائرية التي ستسمح للشعب الجزائري، وقد تحرر وطنه، من اختيار مؤسساته).
ويلاحظ الباحث أن المقال انتهى بالربط بين الثورة والأوقاف ولكن لم يقل كيف سينتهي الأمر هل باستعادة العمل بالوقف أو بإلغائه في سبيل الاشتراكية كما حدث في السنوات الأولى للاستقلال؟ لقد ترك صاحب المقال الباب مفتوحا للاجتهاد والتفكير، كما أن اللحظة لم تكن مواتية للحديث عن