الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
سطوح الجزائر، وهي لوحة تمثل مجموعة من النساء على أحد سطوح القصبة، وتظهر في الصورة الصوامع والمرسى، بينما النسوة يشربن الشاي في حالة استرخاء وحديث هادى، ومن حولهن قناني الماء والمزهريات، وليس هناك أطفال ولكن هناك قطة تضفي الأنس والهدوء على الجلسة.
وفي المقال إشادة بلوحات أشرنا إليها وهي: سفن حربية جزائرية. ومدينة الجزائر، وفي حديقة إحدى الفيلات، وخير الدين بربروس (مؤسس الدولة الجزائرية)، وقد ضمت النسخة الفرنسية من المقال تفاصيل وعناوين لم تشملها الخلاصة العربية (1).
لا ندري ما الذي فعل أو حدث لمحمد راسم بعد 1955، وقد بلغ الستين سنة تقريبا، ولا ما إذا تركت الثورة بصماتها على لوحة من لوحاته، سواء أثناءها أو بعدها، فقد عاش إلى السبعينات على ما نعرف، ومات موتة عنيفة لا يستحقها فنان وشيخ طاعن في السن مثله، فقد قيل إن لصوصا مختصين قدموا من أوروبا واعتدوا عليه وعلى زوجته العجوز أيضا، وسرقوا مجموعة من لوحاته، وهربوا، ما الذي حدث بالضبط؟ وما مصير القضية؟ لقد اختفت آثار الجريمة، فمتى تظهر الحقيقة؟ ولم يكن محمد راسم وحده في عدم وجود آثار الثورة في إنتاجه المعروف حتى الآن، فكثير من الفناتين عاشوا في الجزائر أو في فرنسا ومع ذلك لم نجد له التزاما نحوها، رغم أن المرحلة كانت مرحلة الفن والأدب الملتزمين، ومع ذلك عاد بعضهم إلى الجزائر من الخارج وظهروا بصفة الأبطال والمناضلين.
عمر راسم
أما عمر راسم فقد اكتسب سمعة وطنية عالية ولكنه لم يكتسب شهرة أخيه العالمية، كان عمر وفيا أيضا لتراث الأسرة الجزائر، ولكن في مجال
(1) هنا الجزائر 34، أفريل 1955، ص 25 - 30، القسم الفرنسي.
مختلف عن مجال أخيه، فترك ثروة من الدراسات عن الرسم والموسيقى والخط، وله دروس في نشأة الصحافة العربية الوطنية، وترك تلاميذ وتأثيرا واسعا، وإذا كان محمد قد التصق اسمه بأوروبا وفنانيها وجوائزها ومعارضها، فإن عمر ترك بصماته على العالم الفني الجزائري بما رسم من لوحات ودبج من مقالات عن الموسيقى وخطط من كتب وعزف من ألحان، وقد كنا ترجمنا له، أو بالأحرى عرفنا به في كتابنا السابق (الجزء 5)، ونود هتا أن نضيف بعض المعلومات عنه مما أتيح لنا الإطلاع عليه بعد طبع كتابنا بما قدم بين 1954 و 1959، فقد ظل يسهم في الحياة الأدبية والفتية إلى آخر لحظة من حياته.
أبنته مجلة (هنا الجزائر) التي كان أحد كتابها فقالت إنه توفي في 13 فبراير 1959، عن 75 سنة، ودفن في مقبرة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، وإنه من عباقرة فن الرسم والخط العربي والخط الأندلسي والخط الكوفي، وهو وأخوه محمد يعتبران فارسي رهان في ميدان الفنون الجميلة، فحين أنشأت إدارة الفنون الجميلة بالولاية العامة، (سنة 1931) مدرسة لتعليم فن التصوير (الرسم) والزخرفة العربية الشرقية في العاصمة اختارت الأخوين الفنانين محمد راسم وعمر راسم، للتدريس فيها فن الخط العربي والزخرفة الشرقية، وقد باشرا التعليم فيها، وتخرجت على أيديهما نخبة من الشباب
…
لم يتخرج عمر من مدرسة فنية معينة ولكنه بالموهبة والمثابرة والتتلمذ على والده، علي بن سعيد راسم، استطاع عمر أن يشق طريقه وسط المبدعين والتابعين في الفن والزخرفة، وقد ابتكر أشياء جميلة أدت إلى إقبال دور النشر عليه لطلب زخرفة مطبوعاتها، وكان عمر أديبا ذواقة أيضا وكاتبا ناقدا، وكان من قدماء المحاضرين والمقرئين في محطة الإذاعة، وكان يلقي حديثه الأسبوعي بنفسه في الإذاعة في موضوع فن الرسم والتصوير والموسيقى، ونشرت له مجلة (هنا الجزائر) مقالات في الفنون التي اختارها، ولعمر راسم اطلاع واسع ومهارة في فن الموسيقى العربية الأندلسية، ويعتبر من المحافظين على تراثها، وقد كتب عنها مقالات نشرت في هنا الجزائر وفي دوريات أخرى.
لقد بدأ عمر حياته في مجال الصحافة العربية، فأصدر أوائل القرن الماضي مجلة (الجزائر) وجريدة (ذو الفقار)، وكان يقوم برسم الصور بنفسه، ومن آثاره كتابات أسماء شوارع القصبة القديمة في مدينة الجزائر على لافتات باللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية، وهي كتابات بلون أبيض على أرضية زرقاء بحروف تبدو لنا اليوم معقدة ومتداخلة، كما كان يضع تحت كل اسم ما يوضح مسماه وتاريخه أو الحدث الملتصق به (1).
وقبل أن نتحدث عن رأي عمر راسم في الموسيقى، نشير إلى مقاله (التقليد والفن) الذي كتبه سنة 1957 والذي ربما كان أحد أحاديثه الإذاعية أيضا، في هذا المقال نقد لاذع للتقليد في الفن وهجوم كبير على المقلدين لأنهم بالتقليد يفقدون في نظره شخصيتهم، وفي هذا المقال كلام عام عن الفرق بين المبدع والمقلد، والموهوب في نظره هو الذي يتفرغ لفنه لأنه يحبه ويلتزم به، (أما المقلد (فهو) كالطماع والمحتكر الذي يريد أن ينال الأرباح الطائلة من دون تعب، إن ناسخ الكتب لا يعد مؤلفا، ولا الملحن شاعرا، ولا الراوي محدثا) (2).
رغم أن الأخوين محمد وعمر راسم قد أسهما في الثقافة الجزائرية إسهاما كبيرا بالموهبة والإبداع فإنهما كانا متوسطي الثقافة فيما يبدو من آثارهما، ونقصد هنا الثقافة الأكاديمية أو المنتظمة، وقد رأينا أن محمد راسم قد حيل بينه وبين مواصلة دراسته الثانوية فاكتشف الفن وظهرت موهبته فيه فتفرغ لإنتاجه يشبع رغبته في الإبدع في فن المنمنمات، ولم يكمل قاعدته الثقافية إلا بطريقة شخصية، ويبدو أن محمدا كان محافظا في ثقافته لأننا وجدنا له اطلاعا واسعا على التاريخ والآثار والحياة الاجتماعية لبلاده كما تظهرها لوحاته، ذلك أن موضوعاته جزائرية إسلامية عربية، ترجع إلى أعماق التاريخ، كما أنه كفنان كان
(1) هنا الجزائر 74، مارس 1959، أنظر أيضا ما كتبناه عنه في مجال الصحافة في التاريخ الثقافي، ج 282/ 5.
(2)
هنا الجزائر 59، نوفمبر 1957.
يستمد من البيئة والأسرة والقصبة التي يبدو أنه من مواليدها، وهي آخر حصن من حصون الثقافة الوطنية الباقية في العاصمة بعد أن كادت تزول جميع معالم الثقافة الأخرى على يد الاستعمار، كما عرفنا أنه زار وتأثر تأثرا عظيما بمعالم الأندلس وتراثها الحضاري، ولا نعلم أنه زار الشرق أو أدى فريضة الحج.
وقد لاحظنا أن محمد راسم كان كذلك يوقع دائما لوحاته بالحروف العربية حتى تلك التي كانت تعرض في أوربا أو تنشر في الكتب المتعلقة بالإسلام وثقافته لمؤلفين أوروبيين، ومن جهة أخرى نلاحظ أن المرأة كانت أيضا من موضوعاته الرئيسية، ولا ندري بأي إيعاز كان يفعل ذلك، والغالب أنه إيعاز ذاتي أي أنه كان يرى المرأة جزءا من حياة القصبة ورمزا للجزائر التي بقيت وراء الجدران العالية لهذا الحصن، فالمرأة في الحديقة والشرفة، وهي في المقصورات الوثيرة الأثاث والسطوح الشفافة، وهي العروس المخضبة بالحناء في ثياب الزفاف، وهي تشرب الشاي وتتحدث إلى صويحباتها، وهي طربة نشوانة، وهي تتزين بالأزياء التقليدية .. كل ذلك يتمثل في لوحاته الجميلة المليئة بالرموز التاريخية والاجتماعية.
أما أخوه عمر راسم فنعلم أنه بدأ بالاهتمام بالسياسة فأصدر الصحف بمعاناة شديدة، عندما كان الإعلام الوطني في درجة الصفر، ثم سافر إلى المشرق، وشاهد التيارات الموالية والرافضة للتبعية العثمانية والنهضة الإسلامية، وعرف الحركات الساخطة على الاستعمار والمنادية بالوطنية، واعتنق المذهب الاشتراكي في صورته المثالية الإنسانية، وكان رائدا في التحذير من التغلغل الصهيوني، وكان من المعجبين بحركة الأمير خالد، ثم خاب أمله في بعض الرموز الوطنية التي كانت تطفو ثم يغرقها الاستعمار بأدواته المعهودة، وعاد عمر إلى الرسم والخط والموسيقى، وكان يعيش عيشة ربما يجوز أن