الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكنيسة وبعض السياسيين الذين كانوا يريدون أن يحتفظوا لهم بمكانة في المجتمع والسياسة، وأخيرا صدرت أخبار التعذيب عن بعض المحامين عن جزائريين وجزائريات في المعتقلات والمحاكم، وبعض المثقفين الذين دفعهم وخز الضمير الإنساني إلى التصريح والاستنكار، وسنذكر بعض هذه المؤلفات والتصريحات التي حاولت الحكومة الفرنسية إخفاءها والسكوت عنها في أول الأمر.
الجرح المتعفن
صدر كتاب سنة 1959 بعنوان (الجرح المتعفن) في باريس احتوى على سرد وقائع التعذيب للطلبة الجزائريين، وقد وصف الكتاب عمليات التعذيب (أنظر سابقا) بدقة، وهي العمليات التي قامت بها الشرطة الفرنسية، وهناك أربعة طلاب هم الذين شهدوا بمحتوى هذا الكتاب، وكانوا من بين الطلبة الذين أوقفتهم الشرطة في ديسمبر 1958 في باريس، بتهمة المساس بأمن الدولة وهم: البشير بومعزة وموسى قبائلي وابن عيسى سواحي، ومصطفى فرنسيس شقيق أحمد فرنسيس السياسي المعروف، وقامت السلطات بمصادرة الكتاب بعد ظهوره بدعوى أنه يسيء إلى سمعة الشرطة باتهام غير ثابت، وهو الأمر الذي لم يقنع الصحافة الفرنسية فكتبت عنه تعاليق، وقد ظلت المجاهد تنشر تعاليق الصحف الفرنسية حول الكتاب وموقف السلطة منه، على أساس أن التعذيب لا يضر بالمعذب فقط ولكن بالفاعل أيضا، وأشارت إلى أن بومعزة قد نقل إلى سجن مجهول، وفي عدد لاحق أوردت شهادة من بعض الطلبة تؤكد
استعمال وسائل التعذيب كما نص عليها الكتاب (1).
وتحت عنوان (وحشية المتمدنين) نقلت المجاهد مقالة لأحد الأطباء الجزائريين كان قد نشرها بالفرنسية في جريدة (الطليعة) المغربية، صور الطبيب
(1) المجاهد 45، 29 يونيو، 1959، و 46، 13 يوليو 1959، و 48، 15 أغسطس 1959، و 50، 21 سبتمبر 1959، و 51، 21 سبتمبر 1959.
كيف يعذب الفرنسيون المثقفين وغير المثقفين في المعتقلات التي أقاموها لهم، أما المثقف فقد كان يدعى إلى التعاون معهم والبحث له عن مبررات، وبذلك يصبح مجبرا على أداء أحد دورين: التخلي عن الوطنية ومهاجمة قناعاته الفكرية، ويكون المطلوب منه التحدث (بحرية) مع المعارضين للوطنية وتقديم أبحاث عن إنجازات فرنسا وفضائل الاستعمار، وفي هذه الحالة يحيطونه بضباط الشؤون الأهلية (المخابرات) والنفسانيين المختصين، أما الدور الثاني فهو مساءلة أطروحة الثورة والتنكر لوجود أمة جزائرية أو شعب جزائري، وكذلك التنكر للوطنية، ومن ثمة يصبح الثوار أناسا مجرمين في نظره.
بذلك يصبح المثقف أداة في يد السلطة الاستعمارية تستعملها لصالحها ويصبح المثقفون ممثلين مسرحيين بطريقة مقنعة، كما على المثقف في هذه الحالة أن يبرهن بأبحاثه على طريقة مقنعة أيضا، وهو لا يترك وحده بل يكون محاطا بالمستشارين الذين يعطونه نقاطا على أبحاثه وأهميتها، ولا يترك في عزلة بل يكون دائما في جماعة، وقد يعدونه بالخروج من المعتقل إذا أحسن التعامل معهم، ولكنه يواجه وخز الضمير ويصبح متوجسا من نفسه ومن الآخرين: ماذا سيقول عنه إخوانه الذين سيتركهم وراءه يعانون وهو طليق، وقد تراوده أفكار أخرى: ماذا لو التحق بعد ذلك بالمجاهدين، من سيصدقه منهم؟ وما الوصمة التي سيصمونه بها، وهل قام بدور حقيقي أو كان مجرد ممثل؟ (1).
كانت وسائل إعلام جبهة التحرير دائمة الحديث عن تعذيب واغتيال المثقفين العاملين في صفوفها، من ذلك ما حدث للمحامي علي بومنجل، والأديب أحمد رضا حوحو، والشيخ العربي التبسي نائب رئيس جمعية العلماء، كما تحدثت عن بلاغات لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين حول مسائل سياسية ونقابية تتعلق باضطهاد الطلبة. وكان اغتيال الدكتور ابن عودة بن زرجب حادثا بارزا في تاريخ اغتيال
(1) المجاهد 81، أول يناير، 1960.
المثقفين مما جعل (البصائر) تقدم العزاء فيه وتنشر الخبر باهتمام كبير وتعلق عليه وتشارك أهالي تلمسان حزنهم عليه، وتشيد بموقفه الوطني، وقد روت ذلك بلهجة متأثرة ومؤثرة فقالت: اغتيل ابن زرجب قريبا من قرية سبدو، حسبما جاء في جريدة (لوموند)، وكان يداوي جرحى الثوار ويمدهم بالأدوية والضمادات، وكان قد اشترى آلة نسخ، ورفضت الرواية الرسمية التي تقول إنه قتل لأنه حاول الفرار واعتبرت ذلك حديث خرافة (1).
وفي العدد الموالي رجعت البصائر إلى الموضوع ففندت نفس الرواية الرسمية وقالت إنه رجل ضعيف الجسم وضعيف النظر ولا يكاد يرى الأوراق من وراء نظاراته السميكة، ولا يسير في الطريق إلا بمشقة لإصابته في حادث سيارة في عهد قريب، فكيف يفلت من قبضة ثلاثة من الدرك ويفر حتى يقتلونه؟ (2).
وبعد فترة أصبحنا نملك معلومات وافية عن الطبيب ابن زرجب لم تكن متوفرة عند اغتياله، فهو من مواليد تلمسان في 9 فبراير سنة 1921، ومن عائلة غنية، وكان والده يتاجر في السجائر، وتحصل الابن على الثانوية العامة (الباكلوريا)، وعلى شهادة عليا في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، ثم التحق بجامعة الجزائر، ثم بجامعة مونبلييه لدراسة الطب، بدأ نشاطه السياسي الوطني في باريس، عندما أصبح كاتبا عاما لجمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا التي كان مقرها 15 شارع سان ميشال، سنة 1942 - 1943، كما ناضل في اللجنة الفلسطينية العربية، وفي سنة 1945 رجع إلى الجزائر ولكنه لم يلبث أن عاد إلى فرنسا سنة 1948 ليواصل نشاطه الدراسي والسياسي، وقد حصل في نفس السنة على الدكتوراه في الطب في تخصص سرطان الدم، وفتح عيادته في تلمسان.
وبعد اندلاع الثورة انخرط في جبهة التحرير الوطني، فكان يجمع الأدوية
(1) البصائر 351، 27 يناير، 1956.
(2)
البصائر، 352، 3 فبراير، 1956.
ويرسلها إلى الثوار، وكان يداوي المرضى ليلا في الجبال المجاورة، وخلال النهار كان يقوم بعلاج مرضاه العاديين في عيادته، وكذلك جرحى الثوار، جرى اتصال بينه وبين هواري بومدين عندما كان هذا مسؤولا على الولاية الخامسة، واتفقا على شراء آلة نسخ (رونيو) بتكليف من جبهة التحرير من أجل طباعة الإعلانات والبلاغات، وكان شراء هذه الآلة ممنوعا إلا برخصة خاصة من الشرطة.
وقدم ابن زرجب وصلا مزيفا بالثمن إلى البائع بوهران ورجعا (هو وبومدين) إلى تلمسان، وافترقا في الرمشي التي تبعد حوالي 25 ك، م شمال تلمسان، كان ذلك يوم 13 يناير 1956، ومنذ ذلك الحين اختفت أخباره، فقد قبض عليه بعد أن وشى به البائع الفرنسي، ثم أطلق سراحه لمعرفة الجهة التي يتعامل معها، وكان تحت الرقابة المشددة، ورافقه ضابطان إلى عيادته، وقد زاره أحد المناضلين (وهو قويدر دالي يوسف) في عيادته وأخبره بالموضوع واستحالة الهروب، لقد أخضعوه للتعذيب فأقر بأن الآلة موجودة في سبدو فنقلوه على متن سيارة (جيب)، وعندما وصلوا إلى دوار ولد حليمة الذي يبعد 4 ك، م من سبدو، حاول الهرب فأطلقت عليه الشرطة النار في 17 يناير 1956، وعندما شاع خبر اغتياله ضج الناس في تلمسان وخرجوا في جنازته بالآلاف (12 ألف حسب التقرير)، فكان لحادث اغتياله رد فعل شعبي منقطع النظير، فأفاد الثورة شهيدا كما أفادها طبيبا (1).
أما ولد عودية (واسمه مقران أومقران) فقد تلقى تهديدا بالقتل لأنه كان يحامي على أعضاء جبهة التحرير في فرنسا، وبعد تسعة أيام من اتصاله بالتهديد جرى اغتياله فعلا في باريس في 13 مايو 1959، وقد اتهمت المجاهد منظمة فرنسية إرهابية بقتله لأن القاتل ينتمي إليها، وهذه المنظمة مستعدة في رأيها لاغتيال كل من يحامي على أعضاء الجبهة سواء كانوا جزائريين أو فرنسيين.
(1) أنظر مجلة الراصد، العدد الأول، يناير - فبراير، 2002، ص 33.
وقد غطت (المجاهد) حادثة اغتيال ولد عودية وجاءت بأخبار مفصلة عن التعذيب أيضا.
كان ولد عودية عندئذ يحامي على مجموعة من الطلبة اعتقلتهم السلطات الفرنسية (وعددهم خمسة عشر) بتهمة الإضرار بأمن الدولة الخارجي وببعث تنظيم منحل، وكانت محاكمتهم مقررة يوم 23 مايو 1959 في باريس، وعشية المحاكمة وجد المحامي ولد عودية مقتولا عند باب مكتبه، وقد تأجلت المحاكمة شهرا ولكن لم يطلق سراح الطلبة (1).
وقد أخطرت اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (UGEMA) المنظمات الطلابية في العالم، فكان للخبر ردود فعل حاضرة مما جعل السلطات الفرنسية تأخذ بعين الاعتبار هذه الاحتجاجات، وقد أوردت (المجاهد) أسماء عدد من هذه المنظمات الطلابية الدولية.
ويمثل اغتيال علي بومنحل ومقران ولد عودية والدكتور ابن زرجب وأمثالهم صفحة من عمليات التصفيات الجسدية التي قامت بها تنظيمات إرهابية أو أجهزة الشرطة والمخابرات الخاصة الفرنسية ضد عناصر المثقفين الجزائريين، وقد أشارت المجاهد (بالفرنسية) في مقالة طويلة إلى ظروف اغتيال ولد عودية وآيت الحسن في بون (ألمانيا)، وظروف اغتيال علي بومنجل في مدينة الجزائر، ولكنها لم تشر - حسب علمنا - إلى اغتيال الشيخ العربي التبسي ولا أحمد رضا حوحو ولا عبد الكريم العقون ولا الربيع بوشامة وأمثالهم. ولكنها هاجمت الصحافة الفرنسية والطريقة التي عالجت بها موضوع الاغتيالات مثل تسمية ولد عودية بـ (محامي جبهة التحرير)، وفي نفس الوقت أشارت المجاهد إلى جميلة بوحيرد وإلى محاميها فيرجيس وإلى المحامية جيزيل حليمي التي حامت عن جميلة بوباشا، وإلى موريس أودان الذي قتل تحت التعذيب لتقديمه خدمات إلى الثورة حسب قناعته الإيديولوجية (الشيوعية). كما
(1) المجاهد 43، أول يونيو، 1959، و 48، 10 أغسطس 1959.