الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحرير، وقد تقابل مع بشير حاج علي عدة مرات سنة 1956 وقابلا معا رمضان عبان وابن خدة للحديث عن وضع الشيوعيين في الثورة وسبيل دمجهم في جيش التحرير، وقبل ذلك كان هجرس رئيسا (لجمعية الطلبة المسلمين الشمال إفريقيين) وهي تنظيم سبق اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين (لوجيما)، كما كان هجرس عضوا في الكشافة الإسلامية (1).
ولا نرى حاجة الآن إلى الحديث عن عودة الأدباء والشعراء والفنانين إلى حضن المجتمع وإثراء الثقافة بإنتاجهم، ذلك أن الطلبة مثلا سرعان ما سرت فيهم روح الثورة وعبروا بأدبهم عن انشغالاتهم الوطنية مثل بوعلام طايبي (الصديق) الذي كان يدرس الأدب في جامعة الجزائر قبل التحاقه بالثورة ويصبح مسؤولا على الإعلام في الولاية الثالثة، ففد نظم قصيدة في الحرية التي كان جيش التحرير يكافح لاسترجاعها، لقد اختلط الطلبة المثقفون مع الريفيين، أي مع الأجواد رموز الفروسية والنخوة والأصالة، بعد أن درسوا في فرنسا وانقطعوا عن الجذور وعن استعمال اللغة العربية فترة من الزمن، ومن جهته جاء الطالب إلى عالم الريف بالأفكار التقدمية وحاول المواءمة بينها وبين العادات والتقاليد الشعبية، إن كره المثقفين للاستعمار هو الذي جعلهم يختارون النصر أو الاستشهاد، لقد اكتشفوا مجتمعهم الحقيقي في الثورة (2).
حالة فرانز فانون
سبق القول عن فانون في رأي مالك بن نبي، والآن نتناول فانون نفسه في رأي المعجبين به وخصوصا جريدة المجاهد، فقد كتبت عن حياته وعن تركته
(1) هجرس: الثقافة والاستقلال
…
1980، ص 12، انظر أيضا فصل التنظيمات الطلابية من كتابنا هذا، ومما يذكر أن الرجلين بشير حاج علي والصادق هجرس قد وضعا أثناء الفترة الانتقالية - ربيع 1962 - برنامج حزبهما في الجزائر المستقلة، وهو برنامج ثري بالأفكار، وقد ترجم من الفرنسية إلى الإنجليزية، ولا ندري إن كان قد ترجم إلى العربية أيضا.
(2)
هلال، نشاط، ص 121 - 130.
الفكرية حول الجزائر التي اتخذها نموذجا للتحرر، كان الرجل قد فرض نفسه على الأحداث زمن الثورة، فهو قد ثار على الاستعمار واكتشف ذاته في الثورة الجزائرية، كما اكتشف أصوله وجذور الهوية الإفريقية التي كادت أن تضيع، ومنها الهوية الجزائرية، كما فرض فانون نفسه يوم اندمج في الثورة فعالج مرضاها، ودرس شعبها وراقب تطور حركتها الوطنية، كان فانون جزءا من النظام الثوري فجرد قلمه للتعريف بالثورة وبرجالها وبقاعدتها الشعبية، وتبنى الجزائر وطنا وأصبحت الجذور الإفريقية ممثلة عنده في الهوية الجزائرية وأصبحت هزيمة الاستعمار في الجزائر تعني عنده هزيمة الاستعمار في إفريقيا وعودة الأمل إلى ملايين الزنوج الذين شتتهم السفن الأوروبية في شتى أنحاء العالم وجعلت منهم عبيدا وعمالا في بيئات مختلفة عن بيئاتهم الأصلية.
حين توفي فانون كتبت عنه (المجاهد) مقالا لخصت فيه حياته وفكره وقدمته لقرائها على أنه ابن الجزائر بالتبني وأنه خدمها كما خدمها أحد أبنائها البررة، فقد توفي دون الأربعين سنة من عمره بسبب مرض استعصى علاجه على الأطباء، ورسمت صورته ولكنها لم تذكر تاريخ الوفاة ولا مكانها، ووعدت بالرجوع إليه وإلى تفكيره الثوري، كما وعدت بنشر ترجمة لبعض الفصول من كتابه (معذبو الأرض)، وقد وفت بذلك.
ولد فانون في المارتنيك الخاضعة للاستعمار الفرنسي، وعاش في مدينة ليون الفرنسية، وهو من أب فرنسي وأم مارتنيكية، وتعلم في فرنسا وتخصص في علم النفس وتخرج طبيبا نفسانيا، وقد لاحظ الفرق بين فرنسي وفرنسي نتيجة لونه وأصله، وآمن بالعنف كوسيلة للتخلص من الاستعمار، رغم أن مظهره الهادى لا يدل على اعتناقه مبدأ العنف، وهو - شخص - كما قيل - حساس مرهف المشاعر، وكان يعتقد أن الثورة الجزائرية ليست ثورة محلية وإنما هي ثورة لتحرير الإنسان أينما كان من الاستعمار، كما آمن بالاشتراكية كوسيلة للعدالة الاجتماعية، وبالوحدة الإفريقية، كان فانون هادى المزاج أنيق اللباس يتمتع بوظيفة رفيعة قارة، وكان يمكنه أن يعيش عيشة راضية لو أراد، ولكنه
اختار حياة النضال من أجل الإنسان وتحرير الأرض، ورفض الزيف والعنصرية، على حد تعبير جريدة جبهة التحرير.
خدم فانون الثورة الجزائرية بقلمه وبلسانه وبعلمه الواسع، وكان يقيم ويعالج في مدينة البليدة حيث كان مديرا لمستشفى الأمراض العقلية، كما عمل مع مناضلي جبهة التحرير في مداواة الجرحى وحملة السلاح، آوى قادة الجبهة عند تنقلهم، وعمل محررا في جريدة (المقاومة الجزائرية) التي سبقت المجاهد، كما رأس بعثة الحكومة المؤقتة في أكرا عاصمة غانا، ومن أعظم الأعمال التي قدمها فانون للثورة الجزائرية هو التعريف بها في الأوساط الفكرية العالمية، فقد وهبه الله قلما ميالا وفكرا متحررا فقدم خدمة جليلة للثورة في ميدان الإعلام والفكر، وقد أصبح كتابه (السنة الخامسة للثورة الجزائرية) مرجعا لحركات التحرير في العالم، وأما كتابه الثاني (معذبو الأرض) فهو وإن لم يصل إلى درجة الأول في الأهمية إلا أنه كان الكتاب الذي حمل أيديولوجية فانون التي أصبحت ملتصقة باسمه كمثور للشعوب المستعمرة ومزلزل للأرض تحت أقدام المستعمرين (1).
اهتمت بكتاب (السنة الخامسة للثورة الجزائرية) دوائر المثقفين وترجم إلى عدة لغات، وكان المرجع للمثقفين اليساريين في العالم ولقادة حركات التحرير الذين انبهروا بأفكار فانون فيه، ومن الجدير بالذكر هنا أننا عندما كنا طلابا في أمريكا خلال الستينات كنا نقرأ في المجلات ونسمع في الندوات الفكرية والطلابية الإشادة بكتاب فانون والاستشهاد بنصوص منه حول ثورة الجزائر التي كانت النموذج لثورات العالم الثالث، وقد تبنته النخبة الإفريقية بالخصوص سواء كانت تعيش في إفريقيا أو كانت متحدرة من أصول إفريقية، وقد عرف الناس عن الثورة الجزائرية من خلال كتابات فانون عنها أكثر ربما من
(1) المجاهد، 110، 11 ديسمبر 1961، أثناء حياة فانون ظهر كتابه الأول ط، ماسبيرو، باريس، 1959، وسنعود إلى كتابيه في الفصل الخاص بالكتب والكتابات.
جولات وإعلام وفود جبهة التحرير في العالم، لأن الكتاب استطاع أن يغزو المكتبات وموائد المناقشات في الجامعات وغيرها من المراكز البحثية والنخب السياسية ولا سيما حركات الود وحركات التحرير.
ومن جهتها قامت المجاهد بالتعريف بالكتاب وتحليل محتواه وامتدحت صاحبه، ففي مقال لها تناولت العلاقة التي طرأت على المجتمع الجزائري كما حللها فانون في كتابه، ومنها علاقة الابن الأكبر بالأب، ونقرأ من عناوين المقال الفرعية: التناقضات داخل الأسرة والأمة، وأول نوفمبر 1954، والابن والأب، والعلاقة بين الأسرة والثورة، ومسألة المرأة في العهد الثوري، وتطور المجتمع الجزائري نتيجة الثورة، والبنت دائما خلف الولد .. وفي تحليلها قالت المجاهد إن المجتمع الجزائري مثل كل المجتمعات التي تقوم على خدمة الأرض يصبح فيها ميلاد الولد أكثر أهمية من ميلاد البنت، فالأب يرى الطفل رفيقا له في خدمة الأرض وخليفة له على الأرض العائلية، وعندما يموت الأب يصبح الابن هو الحامي (والولي) على أمه وأخواته، أما البنت فتبقى ثانوية لأخيها، وهذا التحليل النفسي للواقع الجزائري سنة 1959 هو الواقع المتولد عن الثورة، ويظهر أن المجاهد نشرت من الكتاب بعض الصفحات عشية صدوره، وهي صفحات تتعلق بالعائلات الجزائرية وهي في أتون الكفاح (1).
وبعد أقل من سنة توفي فانون وترك كتابه الثاني (معذبو الأرض) وهو الكتاب الذي أسمته المجاهد (الكادحون في الأرض)، وقد ترجمت منه فصولا ولم تنته منه رغم أنها أعلنت أنها صاحبة الحق في ترجمته، ونعت المؤلف بأنه (فقيدنا العظيم) واصفة مقولته (هيا بنا يا إخواني، يجب أن نخلق إنسانا جديدا) بأنها حديث (ضمنه كل حرارة إيمانه الملتهب وعمق فكره النفاذ وسمو روحه المشرقة وغزارة تجربته الثورية الفذة).
(1) المجاهد - بالفرنسية - عدد 53 - 54، أول نوفمبر 1954.
كان فانون يعرف - حسب الجريدة - منذ أكثر من عام أن الموت يترصده. وكان يشعر أن رسالته الثورية، لن تكتمل إلا إذا توجها بعمل فكري خالد يجمع خلاصة دراساته وتجاربه في ميدان الكفاح الثوري وبناء المجتمع الجديد، فكتب كتابه (معذبو الأرض)، وعبرت الجريدة على لسان الجزائريين إنهم فقدوا فيه أخا ورفيقا ومناضلا ومفكرا عظيما، إن هذه الثروة الفكرية الثمينة ستضيء الدرب للإنسانية الجديدة في العالم الثالث، وتخليدا له قررت ترجمة كتابه (معذبو الأرض) إلى العربية، وهو الكتاب الذي أحدث دويا في أوروبا لم يحدثه كتاب آخر - حسب الجريدة - منذ بيان ماركس وإنجلز، وبالفعل تولت أسرة المجاهد ترجمته، واعتبرت نفسها أول من ترجم الكتاب إلى اللغة العربية، كما تعهدت بترجمته إلى أهم اللغات الأخرى في العالم الثالث الذي عاش فانون حياته النضالية والفكرية من أجل أبنائه، وقد افتتحت الترجمة بمقدمة للكتاب كتبها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.
لكن بعد نشر المقدمة والفصل الأول في الأعداد التالية بدأت بنشر الفصل الثاني، ثم توقفت الجريدة عن نشر الترجمة الموعودة، ولا ندري إن كانت قد ظهرت في مكان آخر، ذلك أن آخر عدد ظهرت فيه الترجمة هو 30 أبريل 1962، وظهرت عبارة (يتبع) في نهاية المكتوب ولكنه لم يتبع بأي شيء، فهل كان لتوقيع اتفاقيات إيفيان (18 مارس 1962) تأثير على مواصلة نشر بقية الكتاب؟ إن أسرة تحرير المجاهد هي التي لديها الخبر اليقين (1).
وبعد أن انتهينا من تحرير هذه الفقرة من الفصل اطلعنا على ما كتبه محمد الميلي، وهو يضيء هذه النقطة، فقد قال إن وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة محمد يزيد، قد كلفه بإصدار المجاهد بالجزائر، كما كلف رضا مالك ومصطفى الأشرف بإصدارها بالفرنسية بالجزائر أيضا، على إثر وقف إطلاق النار، أي خلال شهر أفريل 1962، ويضيف الميلي أنه كان الوحيد الذي دخل الجزائر من
(1) المجاهد، 25 ديسبر، 1961، 30 أبريل، 1962.