الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تجارب في القصة
والواقع أن الشعور بالحاجة إلى أدب قصصي له مقوماته قد ظهر مبكرا. ربما قبل الثورة نفسها، وقد كتبت شخصيا تجربة قصصية بعنوان (سعفة خضراء)، وأعلنت أن أدب القصة فن جديد وأنه مفقود في بلادنا وأنه قد آن الأوان لطرقه.
وقد رحب النقاد بهذه التجربة، ومنهم الركيبي نفسه، ولا شك أن غيري ربما قد حاول ذلك أيضا دون أن ينشره، ولكن قصة واحدة لا تدل على تيار أو على ظاهرة كاملة (1).
أما عمار النجار فقد تقدم خطوة أخرى حين أعلن سنة 1956 أن في الجزائر (بذور قصصية في مقالات) بعد أن قرأ (جناية أب) لزهور ونيسي و (مشروع في مقهى) لمحمد شهرة، (فقد لاحظ أن كلا العملين يحتوي على (بذور) القصة ولكنهما كتبا في شكل مقال رغم أنهما يمثلان قصة قصيرة، دعا السيد عمار النجار، مستفيدا من كتابة حسين مروة اللبناني الذي عالج خصائص القصة القصيرة وتحدث عن أشخاصها، فقال إنهم يتحركون ويتحدثون معنا وأمام أعيننا وأن الكتابة الجيدة تجعلنا نحس كأن هؤلاء الأشخاص هم جزء منا ويتعايشون معنا، لذلك دعا النجار إلى الاهتمام بالقصة في الجزائر وبأشخاصها وفنياتها، أما ما قرأه النجار في هذا الشأن بالجزائر فلا يعدو أن يكون مقالات قصصية، وقد خاب ظنه حين اعتقد أنه سيجد في المقالين المذكورين قصتين لهما خصائصهما الفنية (2).
زهور ونيسي ورصيفها النائم
توفر لزهور ونيسي ما لم يتوفر لغيرها من النساء والرجال، فهي بنت حاضرة قسنطينة محتدا وثقافة ومعاصرة، ولدت فيها سنة 1936، في حي من
(1) انظر قصة سعفة خضراء في البصائر 21 مايو، 1954.
(2)
البصائر 351، 27 يناير 1956.
أحياءها الفقيرة ولكنه حي غني بالتقاليد والإرث الحضاري العربي الإسلامي. كان بزوغ نجمها أيام شروق شمس ابن باديس وحركة الإصلاح في قلب قسنطينة، فكان تعلمها حسب هذه الشحنات التي تلقتها وهي صغيرة فصادفت قلبا فارغا فتمكنت وظلت معها إلى اليوم، وما كادت تبلغ الرابعة حتى أفلت شمس ابن باديس، وركعت فرنسا على ركبتيها أمام النازية، وعندما أخذت تعي أوليات الحياة جرت بإقليم قسنطينة حوادث الثامن مايو فتركت ندوبا في كل بيت، وقد وجدتها الثورة بنتا في مرحلة المراهقة، ومع ذلك ظهر قلمها مبكرا على جريدة البصائر التابعة لجمعية العلماء.
بدأت زهور ونيسي تكتب في هذه الجريدة مقالات اجتماعية وصورا قصصية من واقع الحياة الذي كانت تعيشه أو تشاهده في الشارع والمدرسة والسوق وبيوت الفقراء والأغنياء على السواء، وكانت قسنطينة أوائل الخمسينات تعيش حركة ثقافية وتعليمية لم تشهدها مدينة أخرى في الجزائر، ففيها مدرسة التربية والتعليم، ومعهد ابن باديس، والمعهد الكتاني، والمدرسة الفرنسية - الإسلامية، وفيها صحيفة (النجاح) و (الشعلة)، إلى جانب عدد من الصحف والمدارس والنوادي الأوروبية، وفي قسنطينة أيضا كان هناك نادي الاتحاد الإسلامي باتجاهه الوطني الإصلاحي، ونادي صالح باي العتيق، وجمعية المزهر القسنطيني بقيادة أحمد رضا حوحو
…
وكل هذه المراكز قد أثرت على الفتاة زهور ونيسي، وهي تستقبل ربيع الحياة وربيع الثورة والحرية. وكان عملها (الرسمي) هو التعليم الذي صعدت منه إلى الكتابة وإلى المجتمع ثم إلى السياسة والقيادة.
بعد الاستقلال جمعت ما عندها من قصص وقدمتها للنشر، فكانت أول امرأة تشق طريقها، وبخطى سريعة، نحو النشر ومزاحمة الرجال في إنتاج القصة والرواية والمذكرات، فصدر لها الرصيف النائم، وعلى الشاطى الآخر، ومن يوميات مدرسة حرة، وغيرها، كما زاحمت الرجال في الوزارة والنيابة في البرلمان، وعضوية اتحاد الكتاب وغير ذلك من المناصب العليا، دون الحديث
عن الاتحاد النسائي وإدارة مجلة المرأة الجزائرية، وحين نشرت بعض أعمالها الأدبية وجدت من قدما لها تقديما يليق بها كامرأة جزائرية دخلت ميدانا خاليا من النساء، فقد نوهت بأعمالها الدكتورة سهير القلماوني الأكاديمية المصرية المعروفة، وتلميذه طه حسين المدللة، ونوهت بها كذلك الدكتورة بنت الشاطى (فاطمة عبد الرحمن) المؤلفة والأستاذة المصرية المعروفة أيضا، فكان هناك نوع من الحلف النسائي الجزائري - المصري وراء ظهور الرجال، ولعل الأستاذتين المصريتين كان في ذهنيهما أن زهور ونيسي هي هدى شعراوي الجزائرية، أما الرجل الذي دخل على الخط وقدم زهور ونيسي إلى القراء فهو الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذي أشاد بمذكراتها كمعلمة في إحدى المدارس الحرة أيام الثورة، وما قامت به من خدمة للجزائر وآدابها وحركتها الوطنية (1).
دعنا نستعر هنا ما كتبناه عن مجموعة (الرصيف النائم) سنة 1968، فمنذ البداية ذكرت زهور ونسي أنها لا تريد إعطاء تعريف للقصة، وكأنها كانت تتهرب من ذلك لتترك الأمر للنقاد والدارسين، وقد اعترفت أنها بدأت الكتابة بالمقالة قبل القصة، كان ذلك نتيجة علاقتها بالتربية والتعليم ومعرفة النفس البشرية، وهكذا تسلحت ثم بدأت تخوض الميدان، وهي لا تكتم القارى أنها بنت محيطها الاجتماعي والثقافي وأنها متأثرة بمبادى الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية، كما أنها تعلمت من الثورة النشاط ومشاركة الآخر، وكيف تكون - مع كل تلك المعطيات - مع المتمسكين بالتقاليد أو المؤمنين بالبرجوازية، وهي تعيش عصرا جديدا تميز بالإيثار والعمل الجماعي لتحرير الوطن.
أما عن قصصها فتصفها بالبسيطة بساطة الشعب، وأنها (قطع نابضة وصور حية تبرز بعض جوانب ملحمة الثورة .. وتجسمها بكل ما فيها من أبعاد وإعجاز وأساطير)، وتصف قصتها (عقيدة الإيمان) بأنها (أول محاولة لي
(1) من يوميات مدرسة حرة، سنيد، الجزائر 1978.