الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وختم نائب الرئيس مكتوبين بالفرنسية (1).
ومنذ سنة 1956، أي بعد مؤتمر الصومام أرسل رمضان عبان، باسم لجنة التنسيق والتنفيذ، رسالة إلى (الإخوان في تونس) مؤرخة في 21 نوفمبر تقول إن اللجنة اتصلت من سي إبراهيم مزهودي برسالة مكتوبة بالعربية، وطلب منهم (وهم علي محساس، وإبراهيم مزهودي نفسه، ومصطفى بن عودة، ومولود قائد المعروف رشيد) أن يكتبوا مستقبلا رسائلهم وتقاريرهم بالفرنسية تفاديا لطلب ترجمة أسرارنا إلى مترجم) (2).
إن المبرر الذي استند عليه رمضان عبان غير مقنع طبعا، لأن نفس المبرر ينطبق أيضا على اللغة الفرنسية بالنسبة لمن لا يعرفها وأيضا على اللغات الأخرى التي قد ترد بها المراسلات، ثم إنه مبرر يتجاهل تماما مسألة الهوية الثقافية الوطنية، بالعكس فقد كان المقاومون القدماء يموهون على العدو بالكتابة بلغتهم العربية التي لا يعرفها الفرنسيون إلا عن طريق الترجمة (3).
الثقافة في برنامج طرابلس
برنامج طرابلس يشار به إلى آخر وثيقة أصدرتها الثورة الجزائرية قبل أن يدخل قادتها إلى بلادهم بعد سنين من العيش خارجها، والوثيقة صادرة عن الدورة الرابعة للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (البرلمان)، وهو أعلى مؤسسة مخولة للثورة الذي انعقد في طرابلس بليبيا، وكان جدول الأعمال في هذه الدورة يتألف من نقطتين أساسيتين:
- صياغة برنامج أو منهج عمل فكري (إيديولوجي) تسير عليه الجزائر المستقلة.
- انتخاب هيئة أو مكتب سياسي على رأس جبهة التحرير الوطني التي ستصبح
(1) الأرشيف الوطني، علبة 21 - 50.
(2)
رسالة مزهودي تاريخها 16 نوفمبر، ورسالة عبان موقعة فقط باسم - رمضان - وهو اسم رمضان عبان، أنظر مبروك بلحسين، بريد الجزائر - القاهرة 1954 - 1956، ص 206.
(3)
فيما يتعلق بالترجمة انظر الأجزاء السابقة من تاريخ الجزائر الثقافي.
هي الحزب السياسي الوحيد الذي بيده السلطة في الجزائر.
قبل الاجتماع ببضعة أشهر كانت الحكومة المؤقتة قد عهدت إلى لجنة من المثقفين الخبراء بوضع برنامج يقدم إلى مجلس الثورة عند اجتماعه المتوقع في طرابلس، كانت هذه اللجنة تتألف في أغلبها من عناصر معروفة باتجاهها الاشتراكي الماركسي والعلماني المفتوح ولكنها عناصر مناضلة ساهمت في الثورة في المجالات المحددة لها من الإعلام إلى الديبلوماسية إلى الاتصالات
…
والأعضاء هم: مصطفى الأشرف ومحمد حربي ومحمد الصديق بن يحيى ورضا مالك، كان الأشرف كاتبا اجتماعيا ومؤرخا للحركة الوطنية وكان من المخطوفين في الطائرة المغربية مع بعض قادة الثورة سنة 1956، وسبق لحربي أن عمل في جهاز الحكومة المؤقة بالقاهرة، وشارك محمد بن يحيى في نفس الجهاز وفي المفاوضات مع الفرنسيين آخرها كانت إيفيان، وكان رضا مالك مسؤولا على جريدة المجاهد بنسختيها العربية والفرنسية في تونس، أما الميلي فكان من مدرسة جمعية العلماء، وكان عندئذ مسؤولا على تحرير الطبعة العربية من المجاهد، وجميعهم تقريبا مارسوا الديبلوماسية قبل اجتماعهم في اللجنة، ومن تشكيلة اللجنة نتوقع ماذا سيصدر عنها من أفكار بشأن تفسيرها للثقافة الجزائرية ورصد مستقبلها.
وبعد عدة أسابيع خرجت اللجنة بمسودة الوثيقة التي أصبحت تسمى (بعد الموافقة عليها من المجلس) ببرنامج طرابلس، وتكاد المصادر تجمع على أن البرنامج لم يكن محل نقاش في المجلس بل تمت الموافقة عليه بسرعة وبالإجماع، أما النقطة التي أثارت الجدل والخلافات الحادة بل والانشقاق فهي تشكيل المكتب السياسي، فهذه المسألة هي التي فجرت الاجتماع وأفاضت الكأس لأن الرفقاء انفضوا دون اتفاق نهائي مما جعلهم يدخلون الجزائر مشتتين لا موحدين، وهكذا بقي البرنامج موحدا والقيادة ممزقة، وهذا فصل من تاريخ الجزائر لا يعنينا هنا.
إنما الذي يعنينا هو المحتوى الثقافي للبرنامج وسرعة الموافقة عليه: هل
كان ذلك دليلا على صحة محتواه أو عدم الاهتمام به أصلا؟ يبدو أن ذلك يشمل الاثنين معا، أولا نلاحظ أن أعضاء اللجنة قد توزعوا المهام فمنهم من كتب الديباجة وتناول الخط التاريخي والفلسفي للمشروع، ومنهم من كتب له الرؤية الاقتصادية، ومنهم من كتب عن الرؤية المستقبلية للثقافة، ثانيا نلاحظ أنه ليس كل أعضاء المجلس كانوا قادرين على فهم ومناقشة وثيقة عميقة الفكر تتحدث عن التجارب المعاصرة في الاقتصاد والفكر وتحيل على مراجع أوروبية قديمة وحديثة، ثالثا ليس كل الأعضاء كانوا مهتمين بالمسقبل بقدر اهتمامهم بالحاضر، كيف سيدخلون الجزائر وما موقعهم في التركيبة السياسية الجديدة، ولذلك فإن الموافقة السريعة على البرنامج ليس دليلا على التوافق والرضا، فمعظم الحاضرين لم يعطوا البرنامج الاهتمام الجدير به، وهكذا بقي البرنامج لا يلزم بالأساس حتى الذين وضعوه.
تحدث البرنامج على التوجه الثقافي للجزائر المستقلة ولكن مرجعيته كانت أوروبية لا عربية إسلامية، فإذا ذكرت الحضارة الإسلامية فإن محرري البرنامج يسارعون إلى وضع النعوت والتحديدات لها حتى لا تفهم على إطلاقها أو أنهم يتبنونها لتسيير الجزائر المستقلة، أما الذي ركز عليه البرنامج بالتعريف والتحليل فهو الميزات الثلاث للثقافة الجزائرية الجديدة وهي الوطنية والعلمية والثورية، وقد تكرر وصف العلمية أكثر من مرة مما يفهم منه أن الاشتراكية المبشر بها هي اشتراكية علمية، أي الماركسية رغم أن محرري الوثيقة لا يكتبونها صراحة، ولعل هذا ما جعل ابن خدة يصف أصحاب هذه الاشتراكية بحسن النية، وهو الذي رأى أن الاشتراكية المتفق عليها في طرابلس والتي تبناها مؤتمر الجزائر (سنة 1964) قد تحولت في ميثاق سنة 1976 إلى اشتراكية علمية، أي ماركسية - لينينية، وهي في نظره تختلف تماما عن الإسلام لأنها نظرية مادية محض وتدعو صراحة إلى صراع الطبقات (1).
(1) ابن خدة، مرجع سابقا، ص 162.
تقول ديباجة برنامج طرابلس في شيء من الادعاء والزهو الفكري إنه من الضروري خلق فكر سياسي واجتماعي تغذيه مبادى علمية لتحميه من ترهات الفكر، والغالب أن المقصود بهذه الترهات هو الخرافات المنسوبة عادة إلى الفكر الإسلامي في العصور الوسطى، وتلح الديباجة أيضا على أنه من الأهمية بمكان إحداث تصور جديد للثقافة الجزائرية وهو أن تكون وطنية وثورية وعلمية: فهي وطينة باعتبارها تمثل (مرحلة أولى في إعطاء اللغة العربية المعبرة الحقيقية عن القيم الثقافية لبلادنا كرامتها ونجاعتها كلغة حضارة،) فهذه اللغة هي التي ستعيد بناء التراث الوطني وتقييمه والتعريف بإنسانيته المزدوجة القديمة والحديثة لإدخالها في الحياة الفكرية وتربية الشعور الوطني، وهي التي ستحارب الهيمنة الثقافية والتأثير الغربي (الفرنسي) اللذين ساهما في تلقين الكثير من الجزائريين احتقار لغتهم وقيمهم الوطنية.
أما بصفتها ثورية فستعمل الثقافة على تحرير شعب يعمل على التخلص من مخلفات الإقطاع والخرافات والعادات الفكرية والتقليدية، إنها ليست ثقافة فئة تسد أبوابها عن التقدم وليست ترفا فكريا، بل هي ثقافة تساعد على تطوير الوعي الثوري في الجماهير.
وأما بصفتها ثقافة علمية فيجب أن يظهر في وسائلها وأبعادها، ومعنى العلمية هنا هو أنها (ثقافة عقلية ذات تجهيزات تقنية)، فهي تشجع على روح البحث المنهجي وتسير على هداه في جميع المستويات، بما في ذلك المستوى اللغوي، لأن (اللغة العربية، باعتبارها وسيلة ثقافية علمية وعصرية، قد تخلفت، ويجب ترقيتها حتى تقوم بدورها في المستقبل بأساليب علمية ومهذبة جدا)، وهذا الشرط لتأهيل اللغة العربية قد استمر استعماله إلى الوقت الحاضر، فكلما دعا الداعي إلى استعمال اللغة العربية واجهه أنصار هذا الرأي بهذا الشرط التعجيزي رغم أنهم يدركون أن من شروط ترقية اللغة علميا استعمالها في الميدان.
ومن جهة أخرى ألح البرنامج على نشر التعليم بين الجميع حتى تشيع روح العمل ويرتفع الإنتاج
…
وخاطب الطليعة الثورية بأن عليها إعطاء المثل للشعب، ومن ثمة يجب التنديد بشدة بنزعة جحود المجهود الفكري وعدم تقدير الكفاءات، والتنديد كذلك بالدعوة إلى معاداة المثقفين التي تظهر من وقت إلى آخر.
وقد استدرك البرنامج، كما كان متوقعا، فحذر مما أسماه أخلاقيات البرجوازية الصغيرة ومن توظيف الإسلام لأغراض ديماغوجية، معترفا بالانتماء حقا للحضارة الإسلامية التي أثرت في تاريخ البشرية، لكننا سنسيء إلى هذه الحضارة في نظر واضعي البرنامج، إذا نحن اعتقدنا أن النهوض بها يخضع لصيغ ذاتية بسيطة في السلوك العام وفي ممارسة الشعائر الدينية، ويبدو أن أصحاب البرنامج لم يفرقوا في هذا الصدد بين الإسلام كعقيدة وممارسات ذاتية وبين الحضارة الإسلامية كإنتاج جماعي وإبداع فكري مشترك (1).
ومما يلاحظ أن البرنامج كرر أيضا عبارات الطليعة والطليعة الثورية، وأعطى لها حجما كبيرا في سياق العمل لبناء الجزائر الجديدة، فهي التي ستقود البلاد (عن طريق حزب طليعي) وتضع العقائد وتمهد الطريق أمام العامة، وهي التي ستعلم الفلاحين، وهي التي ستعطي المثل لرفع المستوى الثقافي للمواطن، وتطور الإسلام (كذا) وتخرجه من المفاهيم البالية، وتندد باستعمال الإسلام لأغراض ديماغوجية، موضحة أن الحضارة الإسلامية في الماضي كانت نتاج فكر وعمل، أي ثقافة واقتصاد، وكان في هذه الحضارة استعمال لمنهج البحث العلمي وانفتاح عقلي على الثقافات الأجنبية وعالمية العصر (وهو شعور مبكر بالعولمة)، وكان بينها وبين الحضارات الأخرى تبادل خصب.
وقد ندد البرنامج بالحنين إلى الماضي المرادف في نظر محرريه للعجز والبلبلة، والمقصود هنا في أغلب الظن هم دعاة التمسك بالتراث والمحافظة
(1) نصوص أساسية لجبهة التحرير الوطني، مرجع سابق، ص 41.
عليه لذاته، ومن جهة أخرى دعا محررو البرنامج إلى تخليص الإسلام مما أسموه بالبدع والأوهام التي كبلته ومست جوهره لكي يظهر على حقيقته في الثقافة والشخصية الوطنية، وهي الشخصية المرتبطة بالثقافة الوطنية الثورية والعلمية، تلك الشخصية التي صقلها وأبرزها الكفاح التحريري بعد أن كانت مجهولة والتي ستتقوى مع الأيام لقدرة الشعب الجزائري على (مسايرة العصر دون قطع الصلة بماضيه).
ويبدو أن محرري برنامج طرابلس قد أحسوا بالفراغ العقائدي للثورة، وهو الفراغ الذي كان المثقفون يشيرون إليه عادة في البيئات الخارجية، فأرادوا إبراز هذا الجانب الآن وتبرير الفراغ المشار إليه أثناء الثورة فقالوا إن طابع الثورة كعملية تحرير قد تغلب على الثورة كمشرع عقائدي أيام الكفاح، أي أن العملي قد سبق النظري، أو أن التحرير قد سبق التفكير (كما أشيع فيما بعد) وهو ما يؤكد ما ذهب إليه أكثر من واحد من أن الثورة كانت تسير بدون إيديولوجية، وها قد أراد محررو البرنامج تدارك الأمر بعد الاستقلال وبعد اعترافهم بالفراغ السابق، ومع ذلك فإن كلمة الثورة في نظرهم، كانت تغذي حماس الجماهير وأن هذه الجماهير هي التي أعطتها بالفطرة معنى يتجاوز حرب التحرير نفسها، واعترفوا أيضا أن ما كان ينقص الثورة في الماضي وما يزال ينقصها في الحاضر هو الخط العقائدي الذي لا بد منه، أما الآن وقد توقفت حرب التحرير واستعاد الشعب الاستقلال فإنه لا بد من استمرارية الحرب ولكن على الصعيد العقائدي (إن الكفاح المسلح يجب أن يترك مكانه اليوم للمعركة العقائدية التي تعني الثورة الديموقراطية الشعبية
…
التي تعني التشييد الواعي للبلاد في إطار المبادى الاشتراكية)، وبذلك حاول محررو برنامج طرابلس تفسير ما جاء به بيان أول نوفمبر حول (إقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادى الإسلامية)(1).
(1) ملفات وثائقية، 24، نصوص أساسية لجبهة التحرير الوطني 1954 - 1962، أغسطس 1976، وزارة الإعلام والثقافة، الجزائر، ص 39.
ولعل هذا الاختيار الاشتراكي الواضح هو الذي جعل رجلا مثل ابن خدة يعترف ولكن بعد عقود بأن برنامج طرابلس كان في الأساس يتنافى مع الإسلام رغم أن التصويت عليه في المجلس كان بالإجماع، ومعترفا أيضا أنه قد صوت لصالحه (عن حسن نية؟) رغم أن البرنامج كان يدور حول محورين هما الاختيار الاشتراكي والحزب الواحد (1).
ولكن برنامج طرابلس لم يهمل الإشارة إلى أن الشعب كان (قبل الثورة متعلقا بالقيم الوطنية التي صيغت في إطار الحضارة العربية الإسلامية)، والدليل على ذلك تأسيسه المدارس العربية الحرة وصيانتها رغم معارضة الإدارة الاستعمارية، كما أشار إلى أمر جديد وهو أن الولايات خلال الثورة بذلت جهودا كبيرة لتجعل الثقافة الوطنية في متناول الشعب، وهذا ينسجم تماما مع ما درسناه من أن جيش التحرير جسد مظاهر عديدة من هذه الثقافة في القضاء والتعليم وممارسة الطقوس الدينية ونحوها.
أما بعد الاستقلال فقد أراد البرنامج الاسمترار في جعل الثقافة في متناول الشعب ولكن في أسلوب جديد، فبعد التحفظات على الممارسات القديمة للثقافة ألح على (استعادة الثقافة الوطنية والتعريب التدريجي للتعليم اعتمادا على أسس علمية)، وهي مهمة تتطلب توفير (وسائل عصرية لا يمكن تحقيقها بالتسرع دون خطر الضحية بأجيال كاملة) وهذه التحفظات (2) هي كلها عقبات ليس من السهل تجاوزها، ولكن البرنامج كان واضحا في الدعوة إلى المحافظة على التراث الوطني أو الثقافة الشعبية، وهي إشارة فيما يبدو إلى الثروة الفولكلورية للهجات المحلية والتقاليد الشعبية، كما كان واضحا في الدعوة إلى
(1) ابن خدة، شهادات ومواقف، مرجع سابق، ص 153 - 154.
(2)
اللجوء إلى التدرج وانتظار الوسائل العصرية والتحذير من التسرع الذي قد يؤدي إلى التضحية بالأجيال، واشتراط العلمية في التعرب
…
تعميم وإجبارية التعليم وجزأرة البرامج لتتكيف مع واقع البلاد، واستعمال مختلف الوسائل للتخلص من الأمية في أقرب الآجال (1).
(1) النصوص الأساسة لجبهة التحرير، الوطني، مرجع سابق، ص 92، وكذلك التعليم والثقافة في الجزائر، Enseignement et culture en Algérie، وزارة الأخبار، الجزائر، 1963.