الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هجرس وابن زين
كان المثقفون باللغة العربية يعيشون وضعا خاصا زمن الاستعمار، فهم يعرفون أن ثقافتهم لها أصول ولها فروع، أما الأصول فهي الثقافة العربية القائمة على اللغة العربية والوعاء الحضاري الإسلامي، ولذلك فإن بقايا المثقفين بالعربية كانوا يعتقدون أنهم هم أصحاب البلاد، فهم الذين حافظوا على التركة الماضية من الاندماج والذوبان في ثقافة الغير، كانوا يعتقدون رغم شعورهم بالموقف الدفاعي - أنهم هم الحصن الذي يحمي الهوية والتراث وأن ثقافة المحتل لا يمكنها أن تمحو ثقافة البلاد المستعمرة مادام هناك تواصل للأجيال داخل الثقافة الأصيلة، ولذلك حرصوا على استمرار تعليم القرآن بدون فهم وحفظ التراث بدون تطوير والتشبث بالماضي اعتمادا على معطيات المستقبل، فالهزيمة وقعت ولكن الانقراض لن يحدث.
أما المثقفون بالفرنسية فقد تقبلوا الواقع واحتملوا التاريخ ورأوا أن الاستعمار له مزايا كما له مساوى، فقد حطم القيم الروحية والكيان السياسي والاقتصادي للجزائر، هذا صحيح، ولكنه فتح أعين البعض على حقيقة التقدم والتخلف، وأنشأ جيلا من العقلانيين والمتعلمين بلغته المنفتحين على الحضارة الأوروبية، مما فتح المجال أمام الاتصال بالآخر، ومعرفة مدى تقدمه والعمل على مشاركته ومعايشته، صحيح أن هناك صراعا بين الأجيال، بين المتعلم بالفرنسية والمتعلم بالعربية، وقد تطور هذا النزاع أثناء حرب التحرير، فقد كانت الضرورة والمعركة الحاسمة ضد الاستعمار قد حتمت لقاء الأجيال على خط واحد وبذلك تحقق تركيب مدهش على الأرض، وقد استسلم الكبار للأمر وفهموا أن الشباب في العهد الجديد لهم الحق في الذهاب إلى الأمام، وهو يكن احتراما كبيرا للقيم القديمة، والحقيقة أن المرء لا يتوقع أكثر من ذلك بين ثقافة فرنسية وثقافة تقليدية، إن الثقافة التقليدية يرجع إليها الفضل في تحصين الجزائر ضد الجهود الاستعمارية لطمس الهوية عند نشر الثقافة الفرنسية بدلها، كما أن عقلانية الثقافة الفرنسية أدت إلى هدم ما كان في ثقافتنا التقليدية من مضادة للعلوم (؟).
هكذا ذهب الصادق هجرس وهو يحلل تطور الوضع الثقافي داخل التجربة الاستعمارية وبالخصوص منذ حرب التحرير، ولكن الأمر لم يبق كما كان سابقا، ذلك أن التطور شمل مسألة اللغة أيضا، وبناء على رأي هذا المناضل الشيوعي فإن هناك مشكلا لغويا من نوع آخر في الجزائر، وهو تعدد استعمال المجال اللغوي، فهناك أطفال لا يتكلمون سوى القبائلية في عائلاتهم، يعبرون بالعربية عندما يخرجون للشارع، ويتعلمون الفرنسية في المدارس، وبعضهم نشر الجرائد بالعربية الفصحى لسان حال منظمات وطنية، والوثائق الرسمية للحكومة المؤقتة كانت بهذه اللغة، ثم إن العربية الدارجة هي في الغالب المستعملة في المسرح والإذاعة رغم أن الفرنسية هي اللغة العلمية التي تربط الجزائريين بالثقافة العالمية.
هذا هو الوضع اللغوي في الجزائر كما صوره الصادق هجرس في الخمسينات، وكان عليه أن يضيف أن اللهجات العربية الدارجة ليست واحدة، كما أن اللهجات البربرية ليست واحدة، وأن الفصحى العصرية هي الوسيلة الوحيدة للحديث الراقي والأدب الرسمي المدون الذي ستفيد منه الأجيال، وهي لغة الكتب والجرائد والخطب والوثائق الرسمية، وأن الفرنسية ليست سوى وسيلة للاتصال بالخارخ على مستوى معين ولكنها ليست اللغة العالمية الوحيدة، كما أن وسائل الاتصال الحديثة جعلت العربية لا تقل أهمية كأداة اتصال عن الفرنسية.
إن التناقض اللغوي الذي كان عليه الوضع في الجزائر أثناء الثورة قد خلقه الاستعمار وتعكسه اجتماعات جيش التحرير على مستوى القيادات العليا، فهذه الاجتماعات كانت تجري بالفرنسية بينما الرتب العسكرية وبعض المصطلحات التقنية كانت بالعربية الفصحى وكذلك كانت الاجتماعات على مستوى القيادات الولائية وما دونها بالعربية الفصحى أو الدارجة، وربما كانت تجري ببعض اللهجات المحلية أيضا، أما المداولات والتعاليق السياسية والمناقشات مع القاعدة فقد كانت تجري بالعربية الدارجة، أو بالقبائلية أو غيرهما، وأحيانا
بالفرنسية أيضا (1).
وشبيه بهذا التحليل للوضع اللغوي والثقافي جاء على لسان عبد الحميد بن زين، وهو مثل زميله هجرس في النضال الشيوعي وقت الثورة، فهو الذي كتب المدخل لكتاب هجرس، وفيه مقالتان الأولى نشرها سنة 1960 في عدد يناير من مجلة إيديولوجية تسمى النقد الجديد la nouvelle critique، ويصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي، فهذه المجلة أصدرت عددا خاصا بالثقافة الجزائرية تضمن مقالات هامة حول الأدب والتاريخ والشعر والموسيقى والمسرح في الجزائر، وقد نقح الكتاب بمناسبة الذكرى الـ 25 للثورة ونشر المقالة القديمة مع مقالة أخرى كتبها سنة 1980.
قال ابن زين إن الشيوعيين انتقدوا (ديجول) في مقدمة العدد الخاص من المجلة على نفيه وحدة وسيادة الشعب الجزائري، وإن زميله هجرس قد رجع بأفكاره إلى سنة 1880، وشبه ابن زين المدارس القرآنية والإسلام واللغة العربية واللغة البربرية (بحراس الظل) والحصون الواقية للثقافة الوطنية، فقد حافظت على الشخصية الجزائرية ضد المحتل، بل إن اللغة الفرنسية (العدوة) أصبحت ذراعا ضد الإمبريالية الفرنسية، وفي نظره أن تلك العناصر الثقافية (حراس الظل) أصبحت عناصر بائدة أو عتيقة ومع ذلك فإن لها دورا إيجابيا عبر تاريخ الاستعمار.
كان لهجرس ثلاثون سنة فقط عندما كتب مقالته السابقة، ففي سنة 1955 غادر مختبر البحث الجامعي وتخلى عن الطب الذي مارسه في الحراش حيث يكثر العمال ودخل عالم السرية حيث بقى ست سنوات ونصف داخل الوطن، وقد اشترك عندئذ مع البشير حاج علي وغيره من الشيوعيين الراسخي العقيدة في إدارة المعركة السياسية والعسكرية والمنخرطين في الحرب إلى جانب جبهة
(1) الصادق هجرس، الثقافة والاستقلال والثورة في الجزائر، باريس/ الجزائر، 1980، ص 54 - 55.