الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يستغرب المرء قيام جزائريين، وفي سنة 1955، بتمثيل موضوعات على هذه الشاكلة وأمام جمهور فرنسي وبلغة فرنسية، هل من هدف؟ قد ينظر الناظر إلى شهرزاد على أنها كانت تؤدي وظيفة الجزائر عندئذ التي اخترع لها كاتب ياسين (نجمة) في نفس الفترة، فبينما كان الشبان الأربعة يصارعون - حسب رؤية ياسين - من أجل الظفر بنجمة كان شهريار - ولنقل إنه الاستعمار الفرنسي - يعمل على الفوز بشهرزاد (الجزائر) بمختلف حيله وقواه، ولكن ما الهدف من وراء (أمفيتريون) وخيانة الجميع حتى الإله جوبيتر .. والقائد الذي يبحث عن المجد في الجزائر التي تهرب من بين أصابع الاستعمار؟ لا ندري إن كان هذا التحليل مناسبا، ولكن من الأكيد أن تمثيل هذه المشاهد سنة 1955 كان غير مناسب، ولذلك سنجد طائفة من الممثلين يغادرون الجزائر ليبحثوا لهم عن المجد في ظل الوطنية وعن نجمة في غمرة الملحمة الثورية الحقيقية.
من نشاط الفرقة الوطنية الفنية
بمناسبة عرض مسرحية (أبناء القصبة) سجلت المجاهد (بالفرنسية) الحديث التالي مع رئيس الفرقة الفنية، مصطفى كاتب ومؤلف المسرحية عبد الحليم رايس، وقبل أن نلم بالحديث نقول إننا سنتكلم على الفرقة الجديدة التي أنشئت في تونس خلال الثورة، وعن بعض أعضائها، ولكننا الآن نريد أن نعرف أن تجربة باش تارزي مع المسرح إلى منتصف الخمسينات قد تطورت على يد مصطفى كاتب إلى لون آخر من المشاركة العملية الفنية في الثورة، أو كما قال صاحب الحديث إن المسرح أصبح واقعيا وملتزما، فهو مسرح الشعب ومسرح جبهة التحرير في موضوعه ولغته وأدائه، دعنا الآن نتابع الحديث الذي جرى في إحدى الفيلات بضواحي تونس العاصمة، خلال شهر مايو 1959، وقد حضره بالإضافة إلى كاتب ورايس، أعضاء الفرقة الفنية الجديدة.
كتبت مسرحية أبناء القصبة (أحيانا تسمى أطفال القصبة) في ظرف خمسة عشر يوما، وقامت الفرقة بالتدرب عليها بحماس، وهي التي اختارت لها
الديكور المناسب من الطاولة الرئيسية إلى الفوارة داخل البيت الجزائري ذي الطراز الأندلسي، والمدخل الممتد للمنزل، كما مثلت قصة القنبلة التي عاشها اثنان من أعضاء الفرقة والتي أبطل مفعولها طالب (هل هو طالب عبد الرحمن؟) نفسه قبل خمس دقائق من انفجارها، إن كل ما في المسرحية تقريبا عاشه أفرادها في الجزائر، ولم يكن الهدف من كتابتها وإخراجها على ذلك النحو وتمثيلها للدعاية أو الكتابة حسب الطلب، كما قد يظن البعض، بل لقد كتبت المسرحية نفسها بنفسها، إن المؤلف قد أعطى نبذة عن نشاط الثورة في القصبة آخر 1956 وأوائل 1957، وهي في الواقع تصدق على كل قصة في الجزائر، وبالإضافة إلى ذلك هناك قصة عائلية داخل الثورة، فهناك إذن تداخل بين القصبة والثورة والعائلة.
لقد أعطت المسرحية أهمية خاصة للمرأة المكافحة، فشخصية ميمي كانت تعبر عن صلة الوصل مع الثوار، إنها شخصية هادئة ودقيقة، إنها تمثل (جميلة بوحيرد) كما عرفها المتحدث أثناء العمل، وكذلك الفتاة مريم والأم يمينة، فكلهن عرفهن المؤلف، وهن بمثلن في المسرحية آلاف النساء الجزائريات، أما أدوار الرجال فقد قام بها الشاب عمر المنحرف الذي أصبح مكافحا، ثم توفيق الذي كان مسؤولا وبقي لا يحب الظهور، وكان ذلك يجري وسط الفرنسيين الذين يمثلون مختلف الشرائح: الزواف، والمخبرين، والمرتزقة.
بالنسبة للغة لاحظ مصطفى كاتب أنهم استعملوا دارجة القصبة باعتبار المسرحية في نظره واقعية، والواقع يفرض ذلك، إنها لغة الشعب في الشوارع والأسواق، لقد اختاروا الواقعية في الشكل، أي لغة أهل العاصمة بكل نبراتها الخاصة وتعبيراتها، إن العائلة التي تتحدث عنها المسرحية من الشعب فهي تتكلم لغة الشعب، بينما الفرنسيون في المسرحية يتحدثون لغتهم، وليس من الواقعية في شيء - في نظره - استعمال العربية الفصحى (الكلاسيكية - حسب تعبيره)، ولو تكلم الممثلون بالفصحى لنزعوا عن المسرحية نكهتها.
وعندما سئل عن محدودية الجمهور عند استعمال اللغة الواقعية إذ تفقد مثلا جمهور البلاد العربية، اعترف كاتب بأن ذلك حق، لأن هذه المسرحية لا يمكن فهمها إلا من الرباط إلى بني غازي، ورأى أنه إذا كان لابد من توجه المسرحية إلى جمهور أبعد من هذه الرقعة فيجب أن يكون هناك كتاب يحتوي على النص العربي الفصيح، واعترف بأن ذلك من مشاكل المسرح الجزائري منذ نشأته، (بل هي من مشاكل المسرح العربي في جميع الأقطار) أما هو شخصيا فهو يفضل استعمال لغة الأم ولغة (سوق الخضرة)، وتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه استعمال العربية الفصحى ممكنا، أما الآن فالذي يهم هو أن يكون هناك جمهور يفهم ويشارك، ولكي يتحقق ذلك لا بد من استعمال اللغة المتداولة، لأن استعمال العربية الفصحى يفقدنا جمهورا عريضا، وفي نظره أن اللغة العربية الفصحى تصلح للتراجيديات.
ثم إن مشكل المسرح لا يتمثل في اللغة وحدها ولكن في الموضوع أيضا، إن (أبناء القصبة) لا تمثل توجيها جديدا وإنما تمثل تطورا، فمنذ ظهور المسرح الجزائري رسم الطريق، وهو طريق الواقعية، ولكي يعيش المسرح الجزائري ويخاطب الجمهور يجب معالجة الموضوعات التي تهم الشعب سواء في حياته مع الاستعمار أو في حياته الإنسانية العامة، فقبل الثورة كانوا يستعملون لغة الرموز ويقومون بأدوار ملتوية للهروب من الرقابة سواء بالنسبة للمسرح أو للإذاعة، ولكن المتفرجين كانوا يفهمون المقصود ويتابعون الممثلين، ويبدو أن مواضيع الحياة الاجتماعية هي التي كان يفضلها الشعب فقلد المؤلفون، وأحيانا اقتبسوا، مسرحيات أجنبية تنسجم مع هذا الذوق، فمثلا مسرحية (البرجوازي المهذب) حولوها إلى (أغنياء السوق السوداء) مع عدد من الشخصيات المناسبة، لقد كان المسرح الجزائري دائما واقعيا بل رائدا في الواقعية ولكنه كان أحيانا رمزيا موجها إلى جمهور محدود بينما الفنانون يريدون جمهورا عريضا، وهكذا مثلت (أبناء القصبة) خطوة إلى الأمام في تطور المسرح، ذلك أن الممثلين لم يهاجموا الاستعمار وإنما أصبحوا يتحدثون عن
الشعب في حاضره، فكان المسرح هو وسيلة الفنانين في المقاومة، فهو مسرح ملتزم، مسرح شعب في حرب، مسرح جبهة التحرير، واعترف مصطفى كاتب بأن الاستقلال سيأتي بمشاكل جديدة للمسرح وعليه أن يواجهها، ومنها المواضيع الجديدة والطرق الجديدة للتعبير، وبالفعل عاش مصطفى كاتب نفسه بعد الاستقلال وتولى شؤون المسرح في وزارة الثقافة والإعلام وواجه هذا التحدي الجديد (1).
أما الفرقة الفنية الجزائرية الجديدة فقد ظهرت سنة 1958 في تونس، ومثلت في 24 مايو أمام الجمهور التونسي والجزائري لوحات من الغناء والرقص مما يمثل واقع الجزائر في مختلف المناطق كما يمثل آمال الشعب، ثم مثلت الفرقة أيضا مسرحية ألفها أحدهم وهو (زينات) بعنوان (آخر القومية goumier) خلال شهري، يونيو ويوليو 1958، واستمرت إلى سبتمبر في تقديم عروض عن (التضحية) ومسرحية بعنوان (مونتسيرا) مثلتها في تونس أيضا، ثم مثلت منظرين الأول أمام صحفية أمريكية، والثاني أمام صحفي ألماني جاء من أجل تأليف قطعة موسيقية، بالتعاون مع طلبة جزائريين كانوا يدرسون في ألمانيا، كما مثلت في ليبيا مسرحية بعنوان (نحو النور) في أكتوبر ونوفمبر من نفس السنة، وابتداء من 13 ديسمبر 1958 توجهت الفرقة إلى يوغسلافيا حيث استقبلت بحفاوة كبيرة وزارت جمهوريات (كرواتيا، والبوسنة وصربيا، ومقدونيا)، ثم رجعت إلى تونس، في 6 يناير 1959 واستقرت في مقرها الجديد.
وفي هذه الأثناء وجه السيد مصطفى كاتب مذكرة إلى ممثل الحكومة المؤقتة في مدريد حول المسرح الجزائري، فقد وجدنا هذه المذكرة عند السيد بوقادوم بوزارة الخارجية الذي قام بتحويلها إلى وزير الداخلية، من القاهرة بتاريخ 7 مايو، 1959، إن نص المذكرة مفقود، ولكن الإشارة إليها موجودة
(1) المجاهد - بالفرنسية - 42، 25 مايو 1959.