الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرمل، والرمل ماية، ورصد الديل، والغريب، والزيدان، والمجنبة، إن كل مقام من هذه المقامات يشتمل على (النوبة) وهي قطعة أو مجموعة من القطع تعزف وتغنى، إنها نوع من السنفونية المشتملة على عدة حركات متناغمة (1).
رأي عمر راسم في الموسيقى
من الذين اهتموا بالموسيقى عن دراية وعلم عمر راسم، فقد عاصرها ومارسها وكتب عنها، وهو يعتبر عمدة فيها، وكان يحب الموسيقى ويغار عليها بحكم أنه فنان من جهة وبحكم أنه باحث في أصولها وتطورها من جهة أخرى، وقد كنا عرضنا لبعض آرائه وكتاباته في كتابنا الثقافي، وها نحن نختم بما قاله عنها في آخر حياته، وإذا كان أخوه محمد راسم قد ختم حياته وهو غارق في متحف الرسم والمنمنمات فإن عمر راسم قد ختم حياته وهو يدافع عن الموسيقى الأندلسية الأصيلة.
في شهر الثورة (نوفمبر) كتب عمر راسم مقالة عنوانها (الموسيقى الأندلسية: صفحة من تاريخها بالجزائر) تحدث فيها عن أصول هذه الموسيقى في مدينة الجزائر وعن شيوخها وميزاتها وبعض تاريخها إلى زمنه، بدأ مقالته بتعريف الموسيقى وكونها مؤثرة في الإنسان وأنها من علامات الرقي الحضاري، وضرب لذلك مثلا بـ (أمة الأندلس العربية) التي نبغت في هذا الفن مما جعل ملوك أوروبا، في نظره، يتنافسون على ألحانها أو على ملحن عربي أندلسي يزين مجالسهم، ثم هاجرت الأمة الأندلسية إلى بلاد المغرب، ومنها الجزائر، فانتشرت الموسيقى في هذه الأقطار وحدث للموسيقى في موطنها الجديد ما ليس منه بد، فحرفت نغماتها وتغيرت تراتيبها ونظامها، أي تغلب عليها ما يسميه هو (الطابع الملي البلدي)، وهذه الظاهرة نجدها بالخصوص في تونس والمغرب، ومن ثمة تغيرت طرق الأداء الفني الموسيقي، وضرب لذلك مثلا
(1) هنا الجزائر 26، يوليو 1957، ص 12 - 13، أنظر أيضا ما كتبناه في التاريخ الثقافي عن نفس الموضوع، ج / 5 410 - 468، ج 485/ 8.
وهو تغير الموسيقى في مصر والعراق بتداخل الألحان البدوية فيها ثم الألحان الأوروبية والأمريكية.
ويقف عمر راسم ضد التقليد ولذلك تعوذ من (الهجانة والمسخ!) والغريب أنه يقول إن الموسيقى الأندلسية هذه لم يطرأ عليها تغيير في الجزائر فلم تنحرف عن طابعها الأصيل، وهو رأي مخالف إلى حد كبير لرأي باربيس السابق، ذلك أن أهل الجزائر العاصمة بالذات كانوا ولوعين (بالتقليد للفن تقليدا دينيا)، فلم يتغير - كما قال - من الموسيقى حرف واحد ولا صوت واحد مما ورثته عن المهاجرين الأندلسيين بل نقلت عنهم ألحانهم ونغماتهم وأناشيدهم نقلا دقيقا، كما رويت أسانيد الحديث، لقد كانت الجزائر أيام شبابها وعزها - في نظره - هي غرناطة إفريقيا الشمالية، ولذلك قال عمر راسم إن ما بقي من الموسيقى، على قلته، ما هو إلا صورة صادقة مما كانت تتغنى به غرناطة وأشبيلية ومالقة وطليطلة وغيرها من المدن الأندلسية، وذلك عن طريق التواتر الصحيح.
نلاحظ مما سبق إصرار عمر راسم على عذرية الموسيقى الأندلسية في الجزائر - وهو يربط عذريتها بأيام العز التي لم يحددها، فهل كان ذلك زمن المرابطين أو زمن الموحدين، أو العثمانيين الذي شهد هجرة الموسيقى الأندلسية من موطنها إلى مهجرها الحصين؟ ولماذا تغيرت في تونس والمغرب، وهما جناحا المغرب العربي وموطنا الحضارة فيه، ثم تبقى الجزائر (الوسطى) محافظة على الموسيقى بدون تحريف؟ كما نلاحظ الربط عنده بين تطور الموسيقى وتطور ووصول الحديث الشريف، فهو يتكلم هنا عن التواتر، وللتذكير نقول إن عمر راسم كان من القراء المشهورين في الجامع الكبير، ومن ثمة كانت صلته بالموسيقى الأندلسية والقرآن الكريم والحديث الشريف وإنشاد المدائح.
كما نلاحظ إصراره على أنه هو نفسه شاهد على ثبات الموسيقى مدة
خمسين سنة (انظر رأي باربيس، سابقا) على أمر واحد، فلم يشاهد أو يسمع طيلة المدة المذكورة، ولم يقف على فرق، فيما سمع، ولو في مد أو قصر بين من عرفت من معلم ومتعلم، ومن أخطأ في نداء أو زاد نصف نقطة في غير محلها عد عليه نقص يسفه به عند أهل الفن، فالموسيقى الأندلسية مبنية على قواعد علمية، وعلى الأصوات المطلقة والممتزجة، فهي مركبة من (نوبات) ومرتبة على قواعد الإنشاء، وهي: الاستهلال فمقصود ثم خاتمة، والنوبة تبدأ بالتوشية ضربا من دون غناء، وكرسي مثلها، وهما مغفتاحا الآلة، ويكونان على نقر الوتر، ثم يجهر بالمصدر ثقيلا، ويليه البطاحي أثقل منه في الغالب، ثم يليهما الدرج وهو أخف منهما، ثم يأتي الانصراف خفيفا، ثم الخلاص أخف، وقد يزيدون على ذلك الانقلابات (النقلبات؟) واحدها الانقلاب، وهو يتبع الصياح دائما، أو الاستخبار المناسب لصناعة النوبة، فإن كانت نوبة الزيدان يصيحون زيدانا أو يستخبرون سيكة، وهكذا، ولكل صناعة نوبة أو نوبات، ويقال إن الشيخ محمد المنيمش أستاذ السيد محمد سفينجة كان يعرف في الصنعة الواحدة عشرات النوبات بأصواتها.
وبعد هذه المعلومات الفنية والعملية يقدم عمر راسم معلومات تاريخية. فهو لا يستغرب مما روي عن الشيخ المنيمش مثلا، لأنه رأي بنفسه ديوانا بخط إمام الجامع الكبير الشيخ عبد الرحمن بن الأمين، جد شيخه قدور الأمين إمام مسجد سيدي عبد الرحمن الثعالبي، فإذا في هذا الديوان أربع وعشرون صناعة أو لحنا، ولكل صناعة نوبات كثيرة منها ما يزيد عدد مصدراتها على العشرين. وكان الشخ عبد الرحمن بن الأمين يتقن الفن (الموسيقى) ويحسن تلك النوبات كلها، وكان في عصره هو رئيس القصادين، (باش قصاد)، وهي وظيفة تشريفية، كان يتقلدها من يتقن الفن ويحسن تأدية تلك النوبات كلها، ويتولى بها إدارة جماعة من القصادين أو الفنانين الذين يتغنون بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم بالأناشيد أيام المولد النبوي في المساجد والأضرحة والزوايا، ويأسف الشيخ عمر راسم على أن الديوان الذي سبق أن رآه قد ضاع، كما ضاع في الجزائر كل
ما كان ينبغي أن تفاخر به
…
ولم يبق لأهلها في هذا الباب إلاقليل، لكن هذا القليل الذي بقي يعتبر أصح في نظره مما بقي عند المغاربة والتوانسة
…
وكذلك اللبنانيين لأن في نطقهم رقة تضعف قيمة اللحن الفنية، كما أنهم اخترعوا زيادة على الأصل أنفاسا غير موافقة لميزان الصنعة ونسبة الأصوات في الغالب.
وهكذا اهتمت الجزائر بالمحافظة على الموسيقى الأندلسية، كما اهتم أهل الحديث بصحة الرواية، فكان أعيانها وعلماؤها يتنافسون في حفظها في الصدور وإتقانها
…
وأشدهم حفاظا على ذلك الشعراء العلماء الذين تنافسوا في إنشاد (المولديات) وقياسها على نظام الأنغام الأندلسية، ويكفي دليلا على ذلك أن الذي أدخل الألحان الموسيقية، ثقيلها وخفيفها، حسب القواعد العلمية في الأناشيد والموشحات هو الشاعر أحمد بن عمار
…
(1).
وكان يشارك ابن عمار في الإنشاد الأئمة والفقهاء، وقد سار الكثير منهم على منواله من بعده، ومنهم أحمد بن القبطان إمام الجامع الجديد، وآخر فنان من ذلك السلف هو الشيخ محمد سفينجة المتوفى عام 1908، وهو تلميذ الشيخ محمد المنيمش.
لقد كان سفينجة حسن الصوت (وهذا مما يقل وجوده في الفنانين في الجزائر)، وبهذه المناسبة ذكر عمر راسم قصة جرت عند زيارة الشيخ محمد عبده للجزائر (1903)، فقد أقام له الأعيان وليمة حضرها الشيخ سفينجة فأراد الشيخ مصطفى الكمال أن يعتذر للشيخ عبده عن لحن المغني وتحريفه للعربية فأجاب الشيخ عبده (بأن جميع المغنين يلحنون)، وأضاف أنه يستحسن نظام موسيقى الجزائر وأثنى على الشيخ سفينجة، وقال إن غناء الجزائر يشبه غناء
(1) انظر عن أحمد بن عمار ما كتبناه عنه في تاريخ الجزائر الثقافي، ج 2، وكذلك بحث محمد الحاج صادق عنه بعنوان المولد عند ابن عمار.