الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظهر في فرنسا سنة 1962 معلومات قانونية هامة أثناء الصراع مع الإدارة الفرنسية الاسعمارية.
العدل عند جبهة التحرير الوطني
يذهب السيد سعيد بن عبد الله إلى أن الشريعة الإسلامية هي القاعدة الأساسية للإجراءات القانونية بين الجزائريين، إشارة إلى دور الدين الإسلامي في القضاء في عهد الثورة، فالشريعة تتناول حياة الإنسان من المهد إلى اللحد بكل تفاصيلها الاجتماعية والمدنية والعائلية والمعاملات، وكل هذه المسائل لها حلولها، ويوجد في النصوص القرآنية ما يجيب على مختلف التساؤلات والإجراءات، ومن الصعب عند المسلم الفصل بين الروحي والزمني، (إن الإسلام يكون الإنسان الثوري)، وكان الواجب الأول للمناضل في جبهة التحرير هو تطبيق الإسلام لأنه هو الذي يعلمه الإيمان والانضباط، ثم إن النضال يعني الجهاد، ومن ثمة يصبح المناضل مجاهدا كما أن الإسلام هو الذي يجند الشعب الجزائري وراء الثورة، وهو المكون الأساسي للحضارة الجزائرية (1).
لقد أنشأ جيش التحرير جهازا قضائيا داخل البلاد، فأخذ القضاء مجراه بالتوازي مع الشؤون العسكرية والسياسية للثورة، وقد انتظم ذلك وعمم بعد مؤتمر الصومام 1956، وبذلك تخلى الشعب الجزائري تدريجيا عن اللجوء إلى القضاء الفرنسي وفضل عليه القضاء الإسلامي الذي تطبقه الجبهة، حتى في داخل السجون والمحتشدات، كما كان من عواقب إحداث ذلك الجهاز المحافظة والتمسك بالشخصية العربية الإسلامية للجزائر، ومع ذلك فقد واجه القضاء في عهد الثورة صعوبة في التوثيق لأنه كان يجري في ظروف خاصة وسرية، وكان تاريخه هو تاريخ المناضلين أنفسهم، ذلك أن المداولات لم تسجل إلا نادرا، وكانت الوثائق أحيانا تتعرض للتلف تفاديا للمتابعة، ولا يستطيع أي باحث معرفة حقيقة ما جرى إلا بالرجوع إلى الشهادات الشيخصية
(1) سعيد بن عبد الله، العدل عند جبهة التحرير الوطني، ص 72 - 74.
وإلى بعض الوثائق التي قد تكون قد بقيت في حوزة بعض المناضلين (1).
كان تنظيم القضاء خاضعا لسلم الجبهة في الإيديولوجية والمستوى والممارسة، فقد كان خاضعا للوصايا العشر التي يعتمد عليها جيش التحرير، وذلك يعني حل الجزائريين مشاكلهم بأنفسهم، وعليهم مقاطعة المؤسسات الاستعمارية وعلى رأسها مؤمة القضاء، وقد أنشأ مؤتمر الصومام المجالس الشعبية لتحل النوازل القضائية، وكانت الثورة دائما خاضعة لمبدأ العمل الجماعي، وكان الإخلاص والنفاد من سمات هذه الإيديولوجية، كما أن تطبيق العدالة يجب أن يكون على كل المستويات دون استثناء طبقا للتفصيل التنظيمي الإداري وطبقا للسلم الذي وضعته الجبهة، كما أن إسناد القضاء إلى ذوي الكفاءة والقدرة كان من سمات هذا العهد، أما مصدر هذا القضاء فهو الشريعة الإسلامية ومصلحة الثورة (2).
حددت الجبهة أنواع العقوبات على الجرائم التي يعاقب عليها القانون، وهي عقوبات متدرجة حسب الجرم، فالأخطاء إما بسيطة وإما خطيرة وإما خطيرة فادحة، ومن الأخطاء البسيطة: عدم دفع الاشتراك، وعدم الاستجابة لدعوة جبهة وجيش التحرير، وقطع الأشجار بدون رخصة، وعدم إبلاغ الجبهة والجيش عن الزواج والميلاد والوفاة، والاستماع إلى صوت البلاد (الإذاعة الفرنسية الموجهة) والتدخين، إلخ، ومن الأخطاء الكبيرة أو الخطيرة: محاولة القتل، وإشعال النيران، والكذب، وتقديم شهادة مزورة، ورفض تقديم المساعدة، والتنقل بدون إذن مسبق من الجبهة أو الجيش، والتغيب عن الاجتماع، والسرقة، والاغتصاب، والزنى، واللواط، والسكر، إلخ، أما الأخطاء الفادحة فمنها الخيانة، وإقامة علاقة مع العدو، والتمرد والعصيان.
(1) نفس المرجع، الجزائر، 1981، ص 14 - 15.
(2)
نفس المرجع: من الوصايا العشر لجيش التحرير، ص 64، وكذلك برنامج طرابلس في المجاهد.
وعدم الانضباط، والجهوية (الفتنة)، وإشاعة روح الهزيمة، والفرار من الزحف، وترك الخدمة، وإفشاء الأسرار، والتخريب المقصود للمعدات، إلخ (1).
هناك نوعان من المناشير: منشور أساسي لا يحتمل التأخير، فهو منشور عام ودائم كالذي يتعلق بالخيانة، ومنشور ظرفي كمنع التدخين سنوات 1955، 1956، 1957 لأن التدخين يجلب الربح للعدو، (نفسه ص 65)، ويصف أحمد توفيق المدني القضاء في عهد الثورة (وقد كان يكتب عنه سنة 1956) بأنه يتولاه أحد الشيوخ (العلماء أو الطلبة) حسب أهمية السكان ليحكم بين الناس بما أنزل الله، وكان القاضي غالبا ممن تخرج من المدارس الحرة، والغالب هو اختفاء المنازعات لأن الناس اندمجوا في الثورة وتركوا الشجار، وإذا حدث شجار فالقاضي يحله بالإقناع والتراضي (2).
ومن ثمة يظهر أن الجبهة أسست قضاء شرعيا وطنيا لأنه جزء من الشخصية ومقدمة للسيادة المتتظرة، لقد كان الشعب الجزائري حريصا بنفسه على العمل بالشريعة واللجوء إلى العدالة الحقة لأنه عانى من الظلم والجبروت الاستعماري، وكان القضاء شفافا ومعروفا للجميع ومحل احترام من الجميع، بما في ذلك احترام اللغة والعرض، وكان اهتمام الناس بالقضاء المدني أكثر من الجنائي لحاجتهم الماسة إلى القضاء الأول، إن القضاء في وقت الثورة كان أيضا مدرسة للتربية الوطنية ومدرسة لتربية المناضين وترقية الحياة الاجتماعية بين المواطنين، وأهمها المساواة بين الجميع أمام القانون (3).
وقد استفدنا من تجارب المناطلين ودراسات المختصين أن القضاء في وقت الثورة كان قائما أيضا - (بالإطافة إلى تعليمات الشريعة الإسلامية وممارسات القضاة في دولة الأمير عبد القادر، ومعاملات الفرنسيين) - على
(1) نفس المرجع، ص 71.
(2)
أحمد توفيق المدني: هذه هي الجزائر، ص 226.
(3)
المدني، مرجع سابق، ص 37، 55، أنظر أيضا مداخلة الصادق مزهود في ملتقى قسنطيتنة، مارس 2005.
الترغيب والترهيب، إن القاضي كان يعين من قبل المسؤول السياسي ويخضع له، وكان يقوم بعدة وظائف كالتوثيق والتعليم والتفتيش وإصلاح ذات البين والإمامة والإفتاء والتوعية وجمع الزكاة
…
وفي التطبيق لم يكن هناك مصطلح واحد معتمد، فهناك مصطلح لجنة العدل في بعض الولايات، ولجنة العدالة، واللجنة الشرعية، والمجلس الخماسي
…
فكل ولاية كانت تتصرف حسب إمكاناتها واجتهاداتها في هذا الميدان، بل وحسب العرف والقضية المطروحة، ولكن ما يميز القضاء هو السرعة في تنفيذ الأحكام خلافا للقضاء الاستعماري الذي كان يترك القضية تنام سنوات طويلة في أدراج المحاكم، وقد رجع القبائل إلى حكم الشريعة بدل العرف، كما منع الحبس لأن الشريعة لا تلجأ إليه لعرمانه رب العائلة من أداء مهمته.
كان القضاء في البداية في شكل تعليمات وأوامر تصدر عن جيش التحرير ولكن مؤتمر الصومام هو الذي أسس قواعد للقضاء وأعطاه بعدا وطنيا شاملا، بينما يرى البعض أن سنة 1958 (بداية الحكومة الؤقتة) هي سنة تأسيس القضاء. وكان القاضي يعين من بين المتخرجين من جامعي الزيتونة والقرويين ومن معهد ابن باديس وبعض الزوايا (والقاضي هو الذي يشرف على الأحوال الشخصية أيضا)، ومما يذكر أنه كان يوجد أكثر من 150 متخرجا من كلية الحقوق، ومع ذلك لم يول أي منهم على القضاء، ومما يذكر أن الولاية الأولى هي التي بدأت تتعامل بالقضاء سنة 1958 حسب (تعليمة)، وكانت تقيم المجالس القضائية ذات الخمسة أعضاء: فمجلس القسمة من خمسة، ومجلس المنطقة من خمسة، ومجلس الناحية من خمسة، ومجلس الولاية من خمسة، والخامس هو دائما القاضي نفسه، وهو رجل مدني، وكانت العقوبات تتمثل في الغرامات المالية، والتعزير وحتى الجلد، وليس هناك طعن في الأحكام، ومن الناحية الإحصائية فقد ذكر أن حوالي 300 شخص حكم عليهم بالقتل، وقد ذكر الباحثون أن بعض التجاوزات في الأحكام قد وقعت (1).
(1) الصادق مزهود، مداخلة ملتقى قسنطينة، مرجع سابق، ويبدو أن عدد 150 من خريجي كلية الحقوق عدد مبالغ فيه إذا كان المقصود هم خريجو كلية حقوق الجزائر فقط.