الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا:
في الرد على من اعترض بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال إنه يجاب عن ذلك بعدة أجوبة:
- "أنه محمول على المستحل لذلك.
- أن هذا جزاؤه إن جوزى، أي إن عامله الله بعدله جازاه بذلك، وإن عامله بفضله فجائز أن لا يدخله النار".
هنا يورد ما قد يضعف الاحتجاج به، فيقول: "ولكن في هذا الجواب شيئًا؛ لأن فيه تسليمًا أنه إذا جوزى يخلد في النار، وهو غير سديد للقواطع الدالة على أنه لا يخلد في النار إلا من مات على الكفر.
- أنه يحمل الخلود على طول المكث". (1)
سادسًا: موقفه من مخالفيه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
مما سبق تبين كيف أن الصاوي رد كلام الخوارج والمعتزلة في تكفير مرتكب الكبيرة، وقارعهم في سبيل ذلك بالحجة والبرهان، ولكنه في المقابل لم يكن على استبصار بحقيقة ما حملهم على التكفير، فكل ما قام به في تحليل موقفهم والداعى لما ذهبوا إليه هو تفسيرهم الإيمان بالعمل والطاعة.
أقول: إن هذا التصور الخاطئ لحقيقة مذهب الخوارج، حمله على تعميم الحكم في كل من جعل العمل داخلًا في حقيقة الإيمان، وكفر لأجل ذلك من أخل بأصول الإيمان منه، إما بترك الإتيان به كتارك الصلاة بالكلية مثلًا، أو بالتوجه به لغير الله تعالى على جهة الإشراك في توحيد الإرادة والقصد، كما سبق وأن أشرت إلى هذه القضية في مبحث نواقض التوحيد.
ولما كانت الحركة الإصلاحية بقيادة الإمام محمد بن عبد الوهاب هي من تتزعم هذه القضايا - في ذلك الوقت (2) - مستضيئة بهدى الكتاب والسنة، وقد انتشر صيتها
(1) المرجع السابق: (1/ 224).
(2)
انظر مبحث: الحالة السياسية في عصر الصاوي: 14.
بين البلاد، وذاع خبرها في الدعوة إلى ما كان عليه سلف الأمة من تعظيم جانب العمل والإخلاص في التوجه به لله تعالى، بعيدًا كل البعد عن معتقد الخوارج الذي حدى بهم إلى تكفير مرتكب الكبيرة، كثر مناوؤها من مختلف البقاع الإسلامية وقاموا بتشويه معالمها، وتحريف بعض ما أتت به من خالص الحق والبيان، فاستجاب لهم الكثير إما تعصبًا وحمية؛ لما كان عليه آباؤهم وكبار علمائهم من تعظيم القبور والتوجه لساكنيها بالدعاء والاستغاثة إلى غير ذلك.
وإما جهلًا بحقيقة الدعوة والأسس التي تقوم عليها، كل هذا كان له أسوء الأثر في تحديد موقف الصاوي من هذه الدعوة المباركة، التي كانت قد اشتهرت بالوهابية، نسبة إلى مؤسسها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وفيما يلى نص يصرح فيه بذلك، يقول في تفسير الآية الكريمة:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
وقيل: هذه الآية نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة ويستحلون بذلك دماء المسلمين وأموالهم، كما هو مشاهد الآن في نظائرهم، وهم فرقة بأرض الحجاز يقال لهم: الوهابية، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون - نسأل الله الكريم أن يقطع دابرهم -". (1)
المناقشة:
الخلاف مع الأشاعرة في حقيقة الإيمان مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخلاف معهم في حقيقة الكفر، فلا يمكن بحال الفصل بينهما في تقرير منهج السلف الكرام في هذه القضية.
(1) المرجع السابق: (3/ 288). هذا وإنى لأعجب من بعض طلبة العلم من حملة الشهادات العالية كيف يتأتى لهم نقل مثل هذه النصوص على جهة القبول والرضا لما جاء فيها، دون أدنى تبصر وطلب للحقيقة، مع تيسر هذا في العصر الذي نعيشه! .
ومع سبر أقوال الصاوي في مسائل الأسماء والأحكام يمكن الخلوص إلى النقاط الرئيسة التي يجب أن يدور حول محورها النقاش التفصيلى الموصل للحقيقة المستهدفة، وهى كالتالى:
أولًا: الإيمان وحقيقة الكفر:
مع ما سبق من بيان مكانة العمل من الإيمان عند السلف، إلا أن التأكيد على هذا الأصل متحتم في هذه القضية على جهة الخصوص، إذ الفرق الشاسع بين معتقد المرجئة في العمل من أنه ثمرة للإيمان ومعتقد السلف من أنه لازم له لا يتصور انتفاؤه مع وجود ملزومه؛ جعل هذا أساس في كل اختلاف تفرع عنه من مسائل الأسماء والأحكام، فالتكفير بترك العمل بالكلية ولو مع غير استحلال وإنكار أصل في المعتقد الصحيح المستمد من نصوص الكتاب والسنة، فكما أن التوحيد منه ما هو عملى، وهو توحيد الإرادة والقصد، ومن أخل به وقع في الشرك المناقض لأصل التوحيد المنجى، كذلك الإيمان منه ما هو عمل والعمل منه ما هو أصل فيه، بحيث لو أخل المكلف بالإتيان به وقع في الكفر المناقض للإيمان.
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الإيمان الشرعي يدخل فيه التوحيد بإقرار الأشاعرة أنفسهم، كما سبق بيانه ولكن الخلاف معهم في نوع هذا التوحيد، وما هو المنجى منه، فهم يقرون بأن من صدق بالله تعالى واعتقد مشاركًا له في ربوبيته لم ينجه ذلك الإيمان، لأنه خالف الإيمان الشرعي الذي يحكم لمن أتى به بالنجاة في الدارين، يؤكد هذا عدهم الإشراك في توحيد الربوبية من نواقض الإيمان الكفرية، إذ الكفر أنواع والشرك واحد منها، كما هو واضح من كلام الصاوي، وإن اعتقد بقلة من كفر من الثقلين بسببه. (1)
فهذا الأصل المجمع عليه بين الأشاعرة والسلف يعد نقطة مهمة في تحديد محور الخلاف، الذي به يمكن التوصل إلى نتيجة تقنع المتجرد لمعرفة الحقيقة، فإذا ثبت أن
(1) انظر مبحث نواقض التوحيد: 184.
توحيد الإرادة والقصد والذي يعني إفراده تعالى بأنواع العبادة الفعلية والاعتقادية من صميم التوحيد الذي يحصل به النجاة؛ ثبت في المقابل أن الإيمان المنجى ما كان مشتملًا على الأركان الأساسية من العمل، كالإقرار والصلاة والتحاكم لشرع الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة مع الإتيان بشرط قبوله من الإخلاص والمتابعة؛ لأنه لا يقبل منه إلا ما تحقق فيه ركنى توحيد الإرادة والقصد.
وإذا تبين مدى الارتباط الوثيق بين مكانة العمل من الإيمان بحقيقة التوحيد المنجى في المعتقد الصحيح النابع من مقتضى التسليم بنصوص الوحى المنزل من عند الله تعالى؛ ثبت أنه لا انفكاك في الاعتقاد الجازم بأن الإخلال بأى منهما هو من الكفر المخرج من الملة بالكلية.
وفي ما يلى نصوص من الكتاب والسنة، تثبت هذه الحقيقة المجمع عليها عند السلف:
- قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
روى الخلال عن الإمام أحمد ما نصه: "قال الحميدي: وأخبرت أن قومًا يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئًا حتى يموت فهو مؤمن؛ ما لم يكن جاحدًا إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المؤمنين، قال الله عز وجل:{حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
قال حنبل: قال أبو عبد الله: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به". (1)
(1) السنة: 586 - 587.
- وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].
- وقال عز من قائل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
فهذا نص على أن النجاة المناطة بدخول الدين المرتضى من عند الله سبحانه لا تكون إلا بالإتيان بهذه الفروض المذكورة، ومن المعلوم أن الدين مراتب: إسلام فإيمان فإحسان، كما دل على ذلك حديث جبريل عليه السلام، فتعليق حصول الأخوة الدينية على شرط الإتيان بالعمل دليل على انتفاء موجبها من التدين عمن لم يتأتى منه ذلك العمل.
يقول الصحابى الجليل أنس - رضي الله تعالى عنه -: "هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث، واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، قال: توبتهم: خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} "(1)
- وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].
ففى هذه الآية دليل بيَّن على أن ترك الانقياد والإعراض عن الطاعة لازم لانتفاء الإيمان بالله تعالى من قلب العبد، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:"ففى القرآن والسنة من نفى الإيمان عمن لم يات بالعمل مواضع كثيرة، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق"(2)
(1)(6/ 319).
(2)
الإيمان: 137.
وقد استدل رحمه الله بهذه الآية الكريمة، وبغيرها من الأدلة الكافية في بيان هذا الأصل المجمع عليه عند السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.
ومن كل ما سبق نصل إلى أن حقيقة الكفر، كما دلت عليها نصوص الكتاب والسنة إنما تكون بمناقضة الإيمان الشرعي المركب من الاعتقاد والقول والعمل، فكل ما ناقض هذه الأصول هو كفر صراح مخرج من الملة بالكلية.
فأنواع الكفر الأكبر المنافى للإيمان إضافة إلى ما ذكره الصاوي، كما بينها العلماء هي:
- كفر الشرك:
فقد تقدم أنه لا يتحقق التصديق بالله تعالى إلا بتوحيده عن مماثلة الغير ذاتًا وأفعالًا، وصفاتًا، كما أنه لا يتحقق لازم التصديق من العمل إلا بتوفر شرطى القبول: الإخلاص والمتابعة، ركنى توحيد الإرادة والقصد.
فالارتباط إذًا واضح، بين حقيقة الإيمان المنجى، والتوحيد المعتمد الذي يجعل تحقق كل واحد منهما لازمًا لوجود الآخر، وانتفاء أحدهما دليلًا على انتفاء الثاني، فالتصديق الذي هو أصل الإيمان مرادف لقرار بربوبيته تعالى، ولازمه من العمل الصالح مرادف لتوحيد الألوهية.
وعليه، فأى إخلال يقدح في التوحيد من ناحية الاعتقاد أو العمل يعد كفرًا مناقضًا للإيمان مخرجًا لصاحبه من الملة.
والأدلة على هذا الأصل كثيرة متضافرة:
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان هذا الشرك الذي صدق على أصحابه وصفهم بالكفر: "وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا، لا في الخلق والقدرة والربوبية، وهى العدل الذي أخبر به عن الكفار.
وأصح القولين أن معنى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، فيجعلون له عدلًا يحبونه ويقدسونه ويعبدونه، كما يعبدون الله". (1)
- كفر الإعراض والتولى:
قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وقال: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
والنصوص الثابتة من جهة الشرع في الدلالة على أن الإعراض بالقلب أو العمل عن مقتضى الإيمان من الانقياد بالقلب واللسان لما يرضى الرحمن كثيرة ومتضافرة، وقد أشرت إلى هذا عند بدء الحديث عن حقيقة الكفر المناقض للإيمان.
ولى أن أقف مع عمل من الأعمال الظاهرة، قد استفاضت الأدلة الشرعية في بيان مكانته من الإيمان، بحيث لو انتفى الإتيان به كان دالًا على وجود موجبه من الكفر المخرج من الملة: الصلاة، ذلكم المعلم البارز الدال على حقيقة التدين، حتى استحق أن يكون الحد والمانع بين النقيضين: الكفر والإيمان.
فمن تلك الأدلة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). (2)
ولا شك في أن مجى الكفر معرفًا في الحديث؛ دليلًا على تحديده بالكفر المعهود الذي صار علمًا على مناقضة الإيمان بالكلية.
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم: (2/ 132).
(2)
أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان - باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم الحديث:2621. وقال: حديث حسن صحيح غريب: (5/ 15). وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم: 2113: (2/ 329). وأخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم الحديث: 1079: (1/ 342).
يوضح هذا المعنى شيخ الإسلام رحمه الله حين قارن بين الكفر المتعلق ببعض الكبائر، الذي وردت به الأحاديث منكرًا، وبين هذا الكفر الذي أتى معرفًا في سياق ما ورد في بيان مكانة الصلاة والتحذير من التهاون فيها، يقول:"ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر، يصير بها كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها مؤمنًا، حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته".
وفرق بين الكفر المعرف باللام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). (1)
وبين كفر منكر في الإثبات. (2)
وقد أجمع الصحابة على ذلك فـ: "لم يكن أصحاب النبي يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". (3)
وقال أبو عيسى (الترمذي): سمعت أبا مصعب المدنى، يقول: من قال: الإيمان قول يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (4)
ومع التوصل إلى محل النزاع بين الفرق المختلفة في هذه الحقيقة الكبرى، أعنى الإيمان والكفر، كان كل اختلاف بعدها في مسائل الأسماء والأحكام من الوعد والوعيد يعد تفرعًا عن هذا الأساس.
ويفهم حقيقة الخلاف فيه تتجلى كل التصورات الفاسدة فيما انبنى عليه من المسائل التالية:
* * *
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (2/ 70).
(2)
اقضاء الصراط المستقيم: 108.
(3)
أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان - باب ما جاء في ترك الصلاة، حديث رقم:2622. (5/ 15). وأخرجه المروزي في الصلاة: رقمه: 948. وصححه الألباني، في صحيح الترمذي برقم: 2114: (2/ 329).
(4)
المرجع السابق.
ثانيًا: تحقق الوعد مع وجود مقتضيه من الإيمان:
وهنا سيدور النقاش مع الصاوي في هذه القضية حول بعدين من أبعادها:
أولًا: تسمية من أتى بالتصديق المجرد عن العمل، أو من أتى بالتصديق مقترنًا بالإقرار بالمؤمن.
- وإطلاق التقوى على كل من وحد الله تعالى التوحيد المعتبر عند الأشاعرة، أو من أتي بالتقوى ولو مرة واحدة في عمره!
ثانيًا: الحكم على من صدق ولو مع انعدام العمل باستحقاق الجنة.
وهذا في الحقيقة مناقض للصريح من النصوص الشرعية كما بين ذلك العلماء.
أذكر منها: حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس حين عرف الإيمان بالأعمال الظاهرة، فقد دل هذا الحديث على أنه لا يحكم لأحد بالإيمان حتى يكون منه العمل الصالح، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بدون صاحبه". (1)
أما الأحاديث التي وردت في بيان فضل كلمة التوحيد، وأنها مفتاح الجنة فصحيحة، ولكن لا دليل فيها على ما يذهب إليه المرجئة من استحقاق الجنة بالتلفظ بها دون تصديقها بالعمل، فقد اتفق العلماء على أن هذه الكلمة تمثل الميثاق والعهد الذي أنيط به الالتزام بكافة الأحكام الشرعية، وهذه بدورها منها ما هو أصل في قبولها، بحيث يعد التخلي عن الالتزام به ناقضًا من نواقض كلمة التوحيد، لذا فقد عد العلماء لهذه الكلمة سبعة شروط، انتفاء أي واحد منها يعد ناقضًا لها:
العلم واليقين والقبول
…
والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة
…
وفقك الله لما أحبه (2)
(1) الإيمان: 319.
(2)
للحافظ الحكمي من معارج القبول.
وهذا الذي ذكره العلماء في بيان شروط كلمة التوحيد إنما هو حصيلة الجمع بين نصوص الكتاب والسنة، والذي يحتمه التسليم والرضا بكافة ما ورد فيهما دون تغليب لجانب على آخر، فلا إفراط ولا تفريط.
وإذا ثبت هذا الأصل، علم أساس الضلال فيما انبنى على مسائل الإيمان والكفر من أحكام الوعد والوعيد عند الفرق المختلفة، فعلاوة على ما سبق بيانه من الأسس التي انبنى عليها فهم كل منهم لهذه المسائل العظام التي ترتكز عليها أحكام الدنيا والآخرة، فإن ذلك الفهم القاصر لحقيقة ما جاء به الدين المنزل من عند الله تعالى؛ حمل كل فرقة منهم على تغليب جانب منه على الجانب الآخر، مما يدل على ضعف البصيرة التي امتدح الله تعالى عباده المتصفين بها.
فالخوارج غلبوا جانب الوعيد على الوعد، والمرجئة في المقابل غلبوا جانب الوعد على الوعيد؛ فضلت الفئتان عن سلوك الصراط المستقيم الموجب للإيمان بـ (كل من عند ربنا) وكان السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - هم من مثل منهج التوسط في هذا الباب كما أسلفت سابقًا.
فالارتباط بين الظاهر والباطن، حقيقة لا ينكرها إلا جاحد معاند، فإن من اطمأن قلبه بالإيمان والتسليم لا بد أن يظهر أثر ذلك على ظاهره يالامتثال للمأمور والترك للمحظور، والعكس بالعكس فإن من انطوى على خبث نية حتى مع إظهار ما يخالفها لا بد أن يتبين حقيقة ما أسره ولو من فلتات لسانه.
فمن غير المعقول أن يمتنع المكلف عن الامتثال مع توفر المقتضى من الإيمان والتصديق، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام ابن القيم رحمه الله حيث قال:"مبدأ كل علم نظرى، وعمل اختيارى هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضى وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطى العادة". (1)
(1) الفوائد: 173.
دل على هذا الأصل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). (1)
يقول الإمام ابن رجب (2): "فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه:
فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله تعالى، ومحبة ما يحبه .. صلحت حركات الجوارح كلها.
وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه .. فسدت حركات الجوارح كلها". (3)
وهذا لازم لمن نطق بكلمة التوحيد على جهة الإخلاص والتسليم، فإن لهذه الكلمة العظيمة نورًا تتفاوت درجات قائليها بقدر قوته وضعفه.
فكلما عظم نورها أحرق ما صادفه من الشهوات والشبهات، وقد يضعف فلا يحول بين قائلها وبين الوقوع في المحرمات. (4)
وأما في حال انتفائه، فهذا هو النفاق الذي كان عليه المنافقون، فإنه لشدة ضعف نورها في قلوبهم مع ذهاب موجبها من التصديق التام، ينطفئ فيحصل لهم التيه في ظلمات الكفر والضلال، كما قال تعالى:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20].
وبعد هذا التفصيل في حقيقة الإيمان الموجب للفوز وتحقق الوعد بالنجاة، تتحتم المناقشة في قضية مهمة سبقت الإشارة إليها، وهي: تعريف التقوى بأنها الإقرار
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم:52.
(2)
هو الحافظ المحدث زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن البغدادي الدمشقي الحنبلي الشهير بابن رجب اشتغل بالحديث والسماع والوعظ له مؤلفات عميمة النفع منها: شرح جامع أبي عيسى الترمذي، وشرح الأربعين النووية توفي سنة:795. انظر شذرات الذهب: (6/ 337).
(3)
جامع العلوم والحكم: 210.
(4)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 334.
بالتوحيد - كما فهمه الأشاعرة - وأن هذا كافٍ في نيل ما وعد به المتقون من الأمن التام، وتحقق السعادة في الدارين.
إن حقيقة ما ذهب إليه الصاوي في هذا الجانب غلو في باب الوعد لا يقره مستبصر بأقوال السلف وفهمهم لحقيقة التقوى التي استفاضت الأدلة بالأمر بالتمسك بها وتعليق النجاة على تحقيقها.
قال عبد الله بن مسعود الصحابى الجليل - رضى الله عنه - في معنى التقوى: "أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر". (1)
وقال الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز: "تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا، فهو خير إلى خير".
وقال الصحابى الجليل معاذ بن جبل - رضى الله عنه -: المتقون هم قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة. (2)
وقد أفاض الإمام ابن رجب في عرضه لأقوال السلف في تعريفها، وبيان المراد منها، وبناء على ما اشتملت عليه تلك الأقوال من نكت مهمة ومعانٍ عظيمة يمكن الخلوص إلى ما مفاده: أن التقوى منها الكاملة، ومنها الواجبة، ومنها ما هو أصل في الدين فلا يتأتى القبول إلا بتحققه.
فالكاملة هي التي تعنى بلوغ مرتبة الإحسان، فاجتناب المعاصى والمكروهات وفعل الواجبات والمستحبات هو السبيل إلى الاتصاف بها، وهذا كتفسير ابن مسعود وتفسير علي رضي الله عنهما لها وغيرهما من كبار الصحابة والتابعين وهذه هي التي يتحقق الفوز الكامل والنجاة في الدارين على الأتيان بها، وبها تنال ولاية الله تعالى التامة التي تستوجب تمام رضاه عن العبد فينتفى عنه الخوف والحزن في الدارين، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه: كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي:(2/ 294).
(2)
جامع العلوم والحكم لابن رجب: (1/ 400).
قال الإمام الثوري رحمه الله: إنما سموا متقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يتقى.
وكلما قل الالتزام بالتقوى؛ قل ما أنيط بها من حصول الأمن وانتفاء الحزن.
أما التقوى الواجبة فهى التي أرادها الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهى التي تحمل صاحبها على فعل المامور وترك المحظور، وكم من الآيات التي تأمر المؤمنين بالتمسك بها، ومن المعلوم أن الأمر مقتضاه الوجوب، كما هو معلوم في أصول الفقه على القول الراجح في المسألة؛ لذلك قال الإمام ابن رجب:"وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات، كما قال أبو هريرة وسئل عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى"(1)
وأصل التقوى هو ما ذكره الصحابى الجليل معاذ بن جبل - رضى الله عنه - من أنها: نبذ الشرك وإخلاص العبادة لله تعالى. فالمراد إذًا تحقيق توحيد الألوهية الذي يعني الإتيان بركنى القبول، فالمقصود: أن تكون من العبد عبادة، ولا يسمى العمل عبادة لله إلا إذا كان مما تعبدنا الله تعالى به على لسان نبيه، وأن يراد بها وجه الله تعالى.
وهذا ما فسر به قوله سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] قال: أخلصه وأصوبه"(2).
وعليه فإن ما ذهب إليه الصاوي في أن المتقى هو من أتى بالتقوى ولو مرة واحدة، مخالف للتقسيم السابق الذي دل عليه فهم علماء الامة لحقيقة التقوى المأمور بها، حتى صارت علمًا عند الكثير على ترك المعاصى والحذر منها؛ خوفًا من عقاب الله تعالى، وحذرًا من عذابه.
(1) المرجع السابق: (1/ 402).
(2)
الفتاوى: (7/ 495).
فالتقى هو من أخذ بأسباب السلامة من موجبات الغضب والعقاب؛ فاستحق بذلك خالص الثناء الدال على عظيم الجزاء والثواب، أما قبول العمل الذي اشترط بالتقوى فهو الذي بينه شيخ الإسلام بأن يكون ذلك العمل قد اتقى الله تعالى فيه، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث.
وهذا ما التبس على الصاوي حيث لم يفرق بين التسمية التي تضافرت الأدلة على أنها لا تكون إلا لمن اتصف بالامتثال للمأمور واجتناب المحظور، حتى صارت علمًا على ذلك، كما هو ظاهر من أقوال السلف، وبين أصل التقوى التي هي شرط في قبول العمل، وعليه فإن المفرط لا يستحق هذا الوصف على جهة التسمية، كما فرق بين وصف الإيمان المطلق الموجب للفوز والنجاة من العذاب، وبين مطلق الإيمان المانع من الخلود في النار.
ففرق بين التقوى المناطة بقبول آحاد العمل، وبين التقوى المطلقة المقتضية لنيل الدرجات العلى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55].
ثالثًا: القطع بإنفاذ الوعيد مع تحقق المقتضى وانتفاء المانع:
فالصاوي يقطع بإنفاذ الوعيد لكل من استحقه بوقوعه في الكفر المناقض للإيمان بأنواعه المعتبرة عند الأشاعرة؛ كالإشراك في الربوبية، والتكذيب، والشك، والنفاق، ومناقشته في هذه القضية ترجع إلى بيان حقيقة الكفر المعتبر شرعًا، والذي عليه يترتب الوعيد بالخلود في النار، وقد تقدم ذلك.
أما عن موانع إنفاذ الوعيد التي أوردها في حق من آمن ووحد، فلا خلاف في أحقيتها مع تحقق الإيمان الشرعي الذي دلت عليه النصوص الشرعية التي قضت باعتباره لثبوت حكم الإيمان للمعين.
هذا وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله إضافة إلى ما ذكر - أن من الموانع:
- دعاء المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه). (1)
- ويدخل فيه كل ما يصل إلى الميت من بر وصلة، كما دل عليه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية. وعلم ينتفع به. وولد صالح يدعو له). (2)
- وكل ما يلقاه المسلم بعد موته من ضمة القبر أو عذابه وأهوال يوم القيامة، فهو من المكفرات إذ لا تخرج عن جملة البلايا المكفرة للذنوب. (3)
وفي رده على الشبه النقلية للوعيدية، نجده قد وافق الحق الذي عليه سلف الأمة، ومع ذلك لا يخلو الأمر من بعض التوجيهات في هذه القضية الشائكة والتي قام بعرض أقوال السلف فيها دون ترجيح لراجح منها، بحيث لا يرد عليه اعتراض من صاحب هوى، وذلك أن القول الأول الذي أورده كجواب على المعترض باعتبار السبب دون عموم اللفظ وهو الاستحلال، لا يقوى في الرد على شبههم، لأنه من الثابت في أصول الفقه أن ترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كونه علة له، وهو ما يسمى بدوران الحكم مع العلة وجودًا وعدمًا (4)، كما أن منشأ استحقاق الوعيد هو قتل العمد لا الكفر لأنه ليس بعد الكفر ذنب، فدل على أن ارتكاب جريمة القتل في حق المؤمن هو المراد بالوعيد الوارد في الآية.
أما الجواب الثاني وهو: هذا جزاؤه إن جازاه، فقد أجاد في بيان عدم كفايته، ولكن الأقوى أن يقال: إن هذا القول يفضي إلى اعتقاد أن كلامه سبحانه منه ما هو محض خبر، لأنه إما أن يتحقق وقوعه أو لا يتحقق.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في: كتاب الجنائز - باب: من صلى عليه أربعون شفعوا فيه: (7/ 18).
(2)
رواه الترمذي في: كتاب الأحكام - باب في الوقف، رقم الحديث: 1376، وقال: حديث حسن صحيح: (3/ 660).
(3)
انظر: الفتاوى: (7/ 487، 501).
(4)
انظر: روضة الناظر وجنة المناظر، لابن قدامة المقدسي:(1/ 245).
فالفرض الأول: وهو إمكان وقوعه لبعض أهل الكبائر يقضي بخلودهم في النار، وهذا مخالف لصريح النصوص الشرعية الحاكمة بعدم خلودهم فيها.
أما الفرض الثاني: وهو القطع بعدم تحققه، فإنه يفضي إلى ما سبق بيانه من اعتقاد أن كلامه سبحانه منه ما هو محض أخبار لا يلزم من الإخبار بها أن تتحقق، وهذا باطل. وقد يفتح بابًا للتأويل الغير معتبر شرعًا، المبني على غير أساس من الصحة.
وكان جوابه الثالث الذي أورده وهو تأويل الخلود في حق مرتكبي الكبائر بطول المكث موافقًا للكثير من أهل السنة وقد احتجوا باستعماله في اللغة، وذلك أن استعمال الخلود لطول المكث مما عهد في لغة العرب، قال الشاعر:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
…
صمًا خوالد ما يبين كلامها (1)
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "وبتقدير دخول القاتل في النار إما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحًا ينجو به فليس بمخلد بها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطويل"(2)
وقد اعترض عليه بأنه يفتح باب التأويل لجميع النصوص التي ورد فيها الخلود بأنه المكث الطويل بما في ذلك الخلود في الجنة للمؤمنين والخلود في النار للكافرين. (3)
يقول الحافظ ابن حجر: "وقيل: المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كأنه يقول: يخلد مدة معينة، وهذا أبعدها". (4)
والقول الفصل في الجمع بين نصوص الوعد التي قضت بخلود المؤمنين إما على سبيل النجاة الكاملة أو مع وقوع العذاب واندفاعه بعد ذلك لتحقق موجب الوعد
(1) ديوان لبيد بن ربيعة ضمن شرح المعلقات العشر، أحمد الأمين الشنقيطي:75.
(2)
تفسير القرآن العظيم: (1/ 702).
(3)
انظر: الوعد الأخروي، د/ عيسى السعدي:(2/ 568).
(4)
الفتح: (3/ 228).
من الإيمان، وبين نصوص الوعيد التي دلت على استحقاق مرتكبي الكبائر للخلود في النار هو ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله حيث بين أن هذه النصوص كل الذي دلت عليه هو "المقتضى للعقوبة" بمعنى السبب الموجب لترتب الحكم عليه.
وهذا المقتضى في الحقيقة الشرعية لا يلزم من وجوده وجود ما يقتضيه من أحكام العقوبة على الإطلاق، لأنه سبب، والسبب حتى يعمل لا بد من وجود مقتضيه أن تنتفى موانع إنفاذه، وقد ثبت أن لإنفاذ الوعيد موانع تحول دون وقوعه على من أتى بها، وعلى رأس تلك الموانع: التوحيد، الذي دلت النصوص القاطعة على اعتباره مانعًا من وقوع الوعيد إما قطعًا، أو على جهة التأبيد، فقد ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة: قلت: وإن سرق وإن زنا؟ قال: وإن سرق وإن زنا). (1)
والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، والشفاعة وغير ذلك مما تقدم، كلها تؤكد هذه الحقيقة.
"ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات؛ اعتبارًا بمقتضى العقاب ومانعه، وإعمالًا لأرجحها". (2)
وهذا هو مقتضى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} حيث "جعل ما دون ذلك الشرك معلقًا بمشيئته"(3) وقد أحسن الصاوي في استدلاله بهذه الآية لبيان بطلان مذهب الوعيدية في هذا الباب.
وتبقى مناقشته في حقيقة هذا الشرك الذي توعد الله تعالى من وقع فيه بعدم المغفرة الموجبة للقطع بالخلود في النار.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد - باب كلام الرب مع جبريل، رقم الحديث:7487.
(2)
مدارج السالكين: (1/ 400).
(3)
فتاوى شيخ الإسلام: (7/ 484). ولمزيد من التوسع في هذا الباب يوصي بالرجوع إلى كتاب الوعد الأخروي، للشيخ الدكتور/ عيسى السعدي.
رابعًا: موقفه من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
ومن هنا نصل إلى أساس الخطأ الذي حمل الصاوي وأمثاله على مناوأة الدعوة السلفية بقيادة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقد كانت القضايا المتعلقة بإخلاص التوحيد لله تعالى علمًا وعملًا، مع إقامة شرائع الدين، كما دلت عليها نصوص الوحي، هي الدعائم التي تمثل الركيزة الأولى التي قامت على أساسها هذه الدعوة المباركة.
ومع عدم وضوح الحق للبعض، التبس على الكثير الأمر، فظنوا أنها ذنب من أذناب الخوارج المكفرين بغير سلطان أتاهم. وشتان بين من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه، وبين من كان في حمأة الضلال يرجع الرد والأخذ إلى هواه، فلا هو مستنير بهدى الكتاب، ولا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد كان فيهما الهدى والكتاب المنير لمن أراد الحق والرشاد.
والنزاع الحاصل في الحقيقة يرجع إلى القضايا التالية:
- ارتكاب ما ينافي حقيقة الإيمان من النواقض المكفرة.
- مسألة تكفير المعين.
ولي وقفة مع كل واحدة منها أبين فيها كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب حتى يظهر لطالب الحق البون الشاسع بين مذهب الخوارج، وحقيقة ما دعا إليه الإمام - عليه رحمة الله تعالى -.
وقد سبق لي بيان حقيقة الإيمان الشرعي، وما يناقضه من أنواع الكفر المخرج من الملة. وهنا فقط التزم بعرض أقوال للإمام التي صرح فيها ببيان أهمية الحفاظ على سلامة العقيدة من النواقض السالفة الذكر، والتأكيد على مكانة التوحيد وأنه الركن الذي عليه المعول في قبول العمل، وكيف أنه حرص أشد الحرص رحمه الله على أن يعيد لكلمة التوحيد حقيقتها المستمدة من الوحى.
فقد دلت نصوص الوحي على أن كلمة التوحيد تمثل التزامًا تكليفيًا فعليًا من
القائل يتوجب عليه بمجرد التلفظ بها القيام بحقوقها وحمايتها من فعل ما يناقض حقيقة الإقرار والتسليم لمقتضاها.
فمع انتشار الجهل، وعموم البلوى بظهور ضعاف العلم؛ وقع الكثير في اعتقاد أن التلفظ بها كافٍ في الحماية من الكفر بأنواعه. هنا أتت كلماته الصادقة رحمه الله تلفت الانتباه وتوقظ الغافلين من سبات الجهل والضلال إلى "أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه". (1)
وحرصًا منه رحمه الله على جلاء هذه الحقيقة التي شوهت معالمها عند الكثير، عمل جاهدا على إبراز معالم الدين المنزل من عند الله تعالى على الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما كان يدعو إليه من الدعوة إلى توحيد الألوهية ومحاربة ألوان الشرك التي أفرزها البعد عن هدى الرسل والأنبياء - صلى الله عليهم وسلم -، وقد استدعى هذا أن يبين حقيقة الشرك الذي وقع فيه كفار قريش وكيف أنه لم يكن الداعي إليه اعتقاد مصرف غيره في الكون وإنما أتي القوم من قبل أنفسهم باعتقاد أن ثمة ما يقربهم إليه سبحانه بأنواع الوسائط والشفاعات الشركية، التي تقدح في حقيقة ما دعا إليه الرسل بقولهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، كما بين ذلك القرآن الكريم، ودل عليه صراحة.
كل هذا كان محل أولى اهتمامات الشيخ رحمه الله في دعوته الناس في سائر الأقطار، فقد أهاله أن تقال هذه الكلمة، ثم لا يكون ذلك رادعًا من الوقوع فيما يناقضها رأسًا، بأن تنتهك حرمات هذا الدين من قبل الدجالين تحت شعارات زائفة باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك. (2)
فأتت دعوته المباركة واضحة المقصد نبيلة الغاية، ترنو إلى إعادة التصور السليم لحقيقة التوحيد، كما أنزل به القرآن غضًا طريًا على محمد صلى الله عليه وسلم.
(1) مجموعة التوحيد: 102.
(2)
وسيأتي الحديث عنها بمشيئة الله تعالى في باب التصوف مع بيان حقيقتها الشرعية وما داخلها من أكاذيب وافتراءات: 778.
يقول: "اعلم - رحمك الله -: أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده.
فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلو في الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر.
وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون، ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين، بعث الله إليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا نبى مرسل، فضلًا عن غيرهما" (1)
وبناء على هذا العرض المجمل لأهم ما دعا إليه الإمام رحمه الله، يتبين ضلال من قام باتهام الشيخ بأنه مكفر للمسلمين مضلل لهم بغير سلطان ولا بينة، ومع هذا فقد كان الشيخ رحمه الله رجل علم وصاحب حق على ورع وتقوى متبع لمنهج السلف الكرام في هذه المسائل العظام قد فرق بين كفر المعاند الضال، وبين الجاهل من عامة المسلمين.
وبهذا يكون الإمام قد فارق الخوارج من كل جانب، أولها: أنه لم يكفر أحدًا لارتكاب الكبيرة، كما فعل الخوارج من قبل، بل الكافر شرعًا - عنده - هو من أتى بناقض من نواقض الإيمان القولية أو الفعلية أو الاعتقادية، كما اتضح سابقًا عند عرض منهج السلف الكرام في هذه القضية.
يقول رحمه الله: "ولا أكفر أحدًا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه عن دائرة الإسلام"(2)
(1) مجموعة التوحيد: 99.
(2)
مجموعة مؤلفات الشيخ: (5/ 11).
ويوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حقيقة هذه الدعوة المباركة وبعدها كل البعد عن معتقد الخوارج، يقول:"فإنا نعتقد أن من فعل أنواعًا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا، وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك، إنه لا يخرج بفعله من دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة". (1)
أما الجانب الثاني: فهو أنه رحمه الله لم يكفر أحدًا من المسلمين قد ارتكب ناقضًا من نواقض التوحيد المعهودة شرعًا إلا عند تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
ومن هنا أتى تفنيد الشيخ - رحمه الله تعالى - لكل الأباطيل التي افتريت عليه من قبل من لم يفهم حقيقة ما دعا إليه، يقول:"وأما القول بإنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم".
ويبين الشيخ منهجه في الحكم بالكفر على المعين، يقول:"إنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها". (2)
وبهذا يبطل كل ما افترى عليه بغير ذلك، يقول:"وأما ما ذكر الأعداء عنى أنى أكفر بالظن والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله". (3)
ويبقى بعد هذا العرض المجمل للقضية أن أسأل الله تعالى الهداية لكل من التبس عليه الأمر في حقيقة هذه الدعوة المباركة، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
(1) الهدية السنية: 40.
(2)
المرجع السابق: (5/ 60).
(3)
المرجع السابق (5/ 25). ولمزيد من التوسع في هذا الباب يوصى بالرجوع إلى: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عبد العزيز على العبد اللطيف. وضوابط التفكير عند أهل السنة والجماعة، لفضيلة شيخنا الدكتور/ عبد الله القرني.