الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: الصفات السلبية
يقصد بالصفات السلبية عند المتكلمين: كل صفة يعتقد في إثباتها سلب نقص عن الذات العلية، وتكون ملازمة لها بحيث لا يتصور انفكاك موصوفها عنها (1): وهى القدم والبقاء ومخالفة الحوادث والقيام بالنفس والوحدانية.
إذًا فأساس وصفها بالسلب يرجع إلى أمرين:
الأول: لما تضمنته من سلب النقص عن الذات.
الثاني: عدم إثبات معنى قائم بالذات يكون زائدًا عنها، فيصح به أن يكون وصفًا وجوديًا.
يقول الآمدي في بيان الأمر الأول: "وليس يلزم من تعدد مفهوم اسم القدم تكثر في مدلول اسم الباري تعالى إلا أن يقدر نعتًا وجوديًا ووصفًا حقيقيًا وليس كذلك بل حاصله إنما يرجع إلى سلب الأولية لا غير". (2)
ويقول الإيجى في بيان الأمر الثاني وهو امتناع كون هذه الصفات زائدة على الذات: "البقاء هو نفس الوجود - أي الذات - لوجهين:
الأول: لو كان زائدًا لكان له بقاء، ويتسلسل.
الثاني: لو احتاج إلى الذات لزم الدور، وإلا لكان الذات محتاجًا إليه وكان هو مستغنيًا عن الذات، فكان هو الواجب دون الذات" (3).
ويقول الغزالي في نفس المعنى: "ولقد أبعد من قال البقاء صفة زائدة على ذات الباقى وأبعد منه من قال القدم وصف زائد على ذات القديم وناهيك برهانًا على فساده ما لزمه من الخبط في بقاء البقاء وبقاء الصفات وقدم القدم وقدم الصفات"(4).
(1) المواقف: 332.
(2)
غاية المرام: 44 مع تصرف يسير.
(3)
المواقف: 297.
(4)
المقصد الأسنى: 148.
أما عن المراد بهذه الصفات فمما يعلم من الوضع الاصطلاحى عن المتكلمين، إذ القدم يعني نفى الأولية، والبقاء نفى الآخرية، والوحدانية إثبات كونه تعالى واحدًا في صفات الربوبية فلا رب سواه، والقيام بالنفس نفى الحاجة إلى الغير، ومخالفة الحوادث نفى كل ما اعتقد في إثباثه قيام الحوادث به كالعرضية والجرمية. (1)
رأى الشيخ الصاوي:
الصفات السلبية عند الصاوى متابعة لما عليه متأخرو الأشاعرة، هي: القدم، والبقاء، ومخالفة الحوادث، والقيام بالنفس، والوحدانية.
ويفسر الصاوي المراد بتسمية هذه الصفات بالسلبية، فيقول:"ليس المراد بكونها سلبية أنها مسلوبة عن الله، ومنفية عنه، وإلا لزم أن يثبت له الحدوث والمماثلة للحوادث، بل المراد بكونها - سلبية - أن كل واحدة منها سلبت أمرًا لا يليق به". (2)
ثم يشرع في بداية الحديث عنها ببيان أهميتها، حيث يسميها بمهمات الأمهات، معللًا ذلك بـ "أنه يلزم من نفى ضد هذه الخمسة، تنزيهه تعالى عن جميع النقائص".
وحين يقوم بتعدادها فإنه يوضح المراد من كل واحدة على جهة التحديد مع بيان الدليل عليها، ويبدأ بصفة القدم، يقول: إن "معنى القدم في حقه تعالى عدم الأولية، أو عدم افتتاح الوجود، فالقديم هو الذي لا أول له، أو الذي لا افتتاح لوجوده".
ثم يذكر الدليل عليها، يقول: فـ "لو لم يكن قديمًا لكان حادثًا، ولو كان حادثًا لافتقر إلى محدث، ولو افتقر إلى محدث لافتقر محدثه إلى محدث، وهكذا فيلزم إما الدور أو التسلسل". (3)
- وتليها صفة البقاء التي تعنى "في حقه تعالى عدم الآخرية أو عدم افتتاح الوجود"
(1) انظر: المواقف للإيجى: 297، الإرشاد للجوينى: 31 - 33 - 34.
(2)
حاشية الخريدة البهية: 73.
(3)
المرجع السابق. وقد تقدم بيان المراد منهما في بحث الاستدلال على وجود الله تعالى: 143.
والدليل عليها: "أنه لو جاز عليه طور العدم؛ لاستحال عليه القدم؛ لأن من جاز عدمه استحال قدمه".
- ثم يذكر الصفة الثالثة من صفات السلوب وهى: "مخالفته تعالى لكل حادث" والمخالفة عنده: "عبارة عن سلب الجرمية والعرضية والكلية والجزئية ولوازمها عنه تعالى لما ثبت لها من الحدوث واستحالة القدم عليها".
وفى تقريره للدليل عليها، يقول:"الله تعالى مخالف للحوادث؛ إذ لو لم يكن مخالفًا لها لكان مماثلًا لها؛ لعدم الواسطة، لكن مماثلته للحوادث باطلة؛ إذ لو ماثل شيئًا منها لكان حادثًا مثلها، لكن كونه حادثًا باطل؛ إذ لو كان حادثًا لافتقر إلى محدث لكن افتقاره باطل. . .".
- أما عن الصفة الرابعة وهى القيام بالنفس، فيرى أن المراد منها "أنه تعالى مستغنٍ في نفسه ليس باعتبار شيء آخر، وعنى باستغنائه المذكور عدم افتقاره إلى محل، أي: ذات يقوم بها، إلى مخصص أي: مؤثر".
ويتابع الاستدلال ببيان استغنائه عن المحل، يقول: فإنه "لو احتاج إلى محل لكان صفة ولو كان صفة لم يكن متصفًا بصفات المعانى والمعنوية، والفرض أنه متصف بهما؛ وإلا لما وجد العالم، فبطل كونه صفة وثبت كونه ذاتًا".
ثم يذكر الدليل على استغنائه عن المخصص بأنه "لو احتاج إلى مخصص لكان حادثًا؛ ولو كان حدثًا لافتقر إلى محدث، كيف وقد سبق وجوب وجوده وقدمه وبقائه ومخالفته للحوادث".
- وينتهى في حديثه عن الصفات السلبية إلى ذكر الصفة الخامسة والأخيرة، وهى: الوحدانية. وقد سبق بيان مراده منها في مبحث التوحيد، وما يهمنا منها هنا هو بيان الاستدلال بنفى التركيب لإثباتها، حيث يرجع نفيه للتركيب إلى وجوب مخالفته للحوادث. (1)
(1) المرجع السابق: 20، 21. وانظر: حاشية الخريدة البهية: 59.
ومن كل ما سبق نجد أن الصفة التي يرجع إليها أدلته في التنزيه هي: المخالفة للحوادث فعليها مدار تعطيم المولى وتنزيهه عند الأشاعرة.
* * *
المناقشة:
إن أساس ما اعتمده في عد هذه الصفات من الصفات السلبية لا يسلم له، وذلك لوجوه ترجع إلى ما يجب للمولى تعالى من الكمال في صفاته وأسمائه:
الأول: امتناع قصر نفى النقائص عن الله تعالى بإثبات هذه الصفات دون غيرها، إذ جميع ما يوصف به المولى تعالى من الصفات إلى جانب إثباته للصفة الوجودية من الكمال فإنه ينفى عنه صفة نقص لا تليق به، فصفة العلم تنفى عنه الجهل، والحياة تنفى عنه الموت، والسمع والبصر إلى آخر ما اتصف به المولى تبارك وتعالى.
ثانيًا: أن أي صفة نفى سلبت عن الباري تعالى أمرًا لا يليق به، فإنها في المقابل تثبت له صفة كمال؛ فالمولى تبارك وتعالى أحد أي ليس له مثيل أو شريك، فهذه الصفة وإن كانت في الأصل لنفى المماثل والشريك، فإنها أثبتت في المقابل اتصافه تعالى بكل صفات الكمال والجلال التي لا تليق إلا لجلاله.
ثالثًا: أن هذه الصفات على جهة الخصوص فيها من إثبات إفراد الكمال لله تعالى ما لا ينكره ذو فطرة سليمة، فالقديم مع التجاوز في التسليم لهم بهذا الاسم يقابل الأول، وليس يغيب ما في إثبات أوليته من معانى العظمة والكمال؛ إذ كل ما في هذا الوجود إنما هو مفتقر في وجوده وبقائه إليه سبحانه وتعالى، وهكذا يقال في باقي الصفات.
هذا ومما يلاحظ عند عرض أقوال الصاوى في قضية التنزيه، أو سلب النقائص عن الله عز وجل عددًا من الأمور منها:
أولًا: استناده إلى طريقة التفصيل في النفى، معتمدًا في ذلك على ما يراه العقل
قبيحًا في حق الله تعالى، وهذا ما يخالف مقتضى تعظيم الله تعالى وإجلاله، كما دل عليه الكتاب والسنة؛ إذ يعتمد تنزيه الله تعالى وتعظيمه فيهما على النفى المجمل، الذي يستوعب جميع أفراد النقص التي ينزه المولى عن الاتصاف بها، ومع ذلك يتعدى إلى إثبات ما يقابل هذه الصفات من كمال؛ إذ السلب المحض لا يعد كمالًا في حق من وصف به إلا أن يؤدى إلى إثبات ما يقابله من كمال (1)، وهذه هي طريقة القرآن الكريم التي نبه اليها وأمر بها في كثير من الآيات، قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، وقال:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
ثانيًا: مما استند إليه الصاوى في قضية التنزيه، استخدام المصطلحات الكلامية في نفى ما اعتقد أن في إثباته ما يوهم مماثلة الحوادث، حتى جعل هذه المصطلحات: كالجرم، والعرض، والجهة، والمحل، مقياسًا ومرجعًا في كل ما يجب أن يمتنع المولى سبحانه من الاتصاف به؛ فكل معنى يستلزم وصفه تعالى بإحدى هذه المصطلحات وجب نفيه وإبطاله، فإن كان مما ورد به نص الكتاب والسنة عطل بطريق التأويل أو التفويض.
ومن ذلك أنه حين التزم نفى الجرم والعرض عن الله تعالى، قام بتعطيل الباري تعالى عن بعض صفات الذات الخبرية، كالوجه والساق واليد، وكذلك صفات الأفعال الخبرية كالنزول والاستواء، إلى غير ذلك حيث اعتقد أن في إثباتها ما ينفى مخالفته للحوادث.
ولا شك أن في ذلك انحرافًا عن منهج التلقى الذي يعتمد في كل ما يجب أن يتصف به المولى على ما ورد به نص الكتاب والسنة، فالله تعالى أعلم بما يجب أن يتصف به، أو يمتنع عنه، وكذا نبيه عليه الصلاة والسلام الذي أتم في ذلك البيان.
وقد وقع الصاوى بهذا المسلك في الابتداع المنهي عنه، حيث اعتمد في مثل هذه المهمات على ما اصطلح عليه المتكلمون؛ دون وقوف عند حدود ما أنزل الله على
(1) انظر: التدمرية، لشيخ الإسلام:57.
رسوله، هذا إلى جانب أن هذه المصطلحات لما كانت من البدع؛ لم تكن حجة في الرد على شبه المخالفين، وهذا ما أوقع المتكلمين في الاضطراب بين جانب النفى والإثبات؛ مما جعل للمخالفين من المعتزلة وغيرهم سبيلًا للتطاول عليهم فيما أثبتوه من الصفات. (1)
ثالثًا: قد سبقت الإشارة إلى أن التنزيه عند المتكلمين يقوم على أساس مخالفة الله تعالى للحوادث، فكل واحدة من الصفات السلبية عندهم ترجع إلى هذا المعنى، وقد أوضح الصاوي المراد من ذلك حين أتى إلى هذه الصفة، وبين أنها تعنى سلب الجرمية والعرضية، فإنه حين أثبت حدوثهما عند استدلاله على حدوث العالم، جعل أساس ما يقوم عليه التنزيه هو نفى هذه المعاني عن الله، ونفى كل وصف يستلزم اتصافه تعالى بها.
فالعرضية التي تعنى إثبات الأعراض وهى الصفات الاختيارية المتجددة يوجب الصاوي نفيها عن الله تعالى، وسيأتي بيان موقفه من هذه الصفات مفصلة، فقد نفى الإرادة الحادثة المتعلقة بالإرادة القديمة، والتى ثبت اتصافه تعالى بها عقلًا (2) وشرعًا، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، ونفى جميع الصفات الفعلية المتجددة التي تتعلق بها، وأرجع إثباتها إلى محض الاعتبار، الذي يجعلها تتأرجح بين الوجود والعدم، فتشبه بذلك الأحوال عند المعتزلة، والصاوي لنفس الشبهة مع غيرها من الشبه التي سيأتي بيانها في موضعها المحدد بإذن الله؛ يؤول الكلام المستقبلي لله تعالى، الذي أخبرت به النصوص ويرجعه إلى الكلام النفسي القديم المعبر عنه بلفظ حادث مخلوق، وكذلك الغضب والرحمة والنزول والضحك والمجئ وكل صفة اعتقد في إثباتها على ظاهرها ما يوهم إثبات الأعراض للذات العلية.
(1) انظر: التدميرية: 133.
(2)
وقد بينت هذا في مبحث الاستدلال على وجود الله، فقدمت أن في نفى هذه الصفة عن الله تعالى ما يلزم منه منع إثبات حدوث المخلوقات وقدم خالقها، كما هو معتقد الأشاعرة النافين لهذه الصفات الاختيارية انظر:111.
وفى نقض هذا الأساس الذي اعتمد عليه الصاوي في التنزيه نرجع إلى ما سبق بيانه من أن هذا مسلكًا باطلًا، وليس فيه ما يثبت الحدوث، فليس كل ما لم يخل من الحوادث حادثًا؛ لوجود الفرق بين ما لا يخلو من جنس الحوادث، أو ما لا يخلو من بعضها - كما بينت سابقًا - (1).
هذا إلى جانب أن هذه الصفات التي نفوها لأنها من الأعراض والحوادث هي من صفات الكمال التي يعد نفيها نقصًا ينزه المولى تعالى عنه، يقول شيخ الإسلام:"وبكل حال فمجرد هذا الاصطلاح، وتسمية هذه - أي الصفات الاختيارية - أعراضًا وحوادث لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها، أو يمكنه ذلك ولا يتصف بها". (2)
وبهذا يكون الاستدلال على نفى الصفة عن الله تعالى؛ اعتمادًا على أنها توجب اتصافه تعالى بما هو من خصائص الحوادث، كالعرضية، باطلًا ليس له أصل من نقل ولا عقل ولا لغة، وكل ما لم يثبت له أصل، بطل الاعتماد عليه في أصول العقائد.
- ومن جملة ما اعتمد الصاوي رده تأويلًا أو تعطيلًا بناء على شبهة الحدوث كل صفة توهم الجرمية كإثبات المحل والجهة، والصفات الخبرية الفعلية؛ كالاستواء والنزول، والصفات الخبرية الذاتية؛ كاليد والوجه والقدم.
ولا شك أن ردهم لهذه الصفات خوفًا من إيهام الجرمية والتجسيم، لا يصح؛ لأنه تعالى أثبتها لنفسه وأثبتها له نبيه؛ فهو أعلم بما يتصف به، ونبيه أعلم بمراد ربه، ولو كان في إثبات هذه الصفات على ظاهرها ما يخل بمقتضى التعظيم والتنزيه الواجب لله تعالى لكان النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من بين لنا هذا، ولما علم انتفاء ذلك البيان؛ دل ذلك على انتفاء ملزومه من التنزيه عن إثباتها على ظاهرها، ولهذا السبب فصل علماء الأمة في نفى الجسم وإثباته، فامتنعوا عن نفيه بالمعنى الذي فهمه المتكلمون، والذي حملهم على رد الكثير من نصوص الكتاب والسنة لأجله.
(1) انظر: بحث الاستدلال على وجود الله تعالى: 143.
(2)
مجموع الفتاوى: (6/ 94). ويأتي النقد مفصلًا في كل صفة بعينها بإذن الله.
كما امتنعوا عن إثباته مطلقًا لعدم الدليل المقتضى لإثباته، فصاروا على ذلك التفصيل في كل ما أحدثه المتكلمون في نفى الصفات وإثباتها، يقول الإمام ابن القيم في رد شبهتهم بنفى الجهة منعًا للتجسيم:"والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية ونحن نقول إن إثبات هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهى ستة وبهذا نقول إن للحيوان فوقًا وأسفل ويمينًا وشمالًا وأمامًا وخلفًا وإما سطوح جسم آخر يحيط بالجسم ذى الجهات الست فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلًا وأما سطوح الأجسام المحيطة به فهى له مكان مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضًا مكان للهواء". (1)
وقال رحمه الله في نفى اليدين والوجه بحجة التجسيم: "وسموا الموصوف بالصفات جسمًا، وسموا من له وجه ويدان جسمًا، ثم نفوا الجسم عن الصانع، وأوهموا أنهم ينفون معناه لغة وقصدهم نفى معناه اصطلاحًا؛ فسموه بخلاف اسمه في اللغة، ونفوا به ما أثبته الرب لنفسه من صفات الكمال، وكذلك سموا صفاته أعراضًا؛ ثم نفوا عنه الأعراض بالمعنى الذي اصطلحوا عليه، لا بالمعنى الذي وضعت له ألفاظ الأعراض في اللغة، وكذلك سموا أفعاله حوادث ثم نفوها عنه بالمعنى الذي اصطلحوا عليه لا بمعناه في اللغة". (2)
- وهذا ما يقال في الكلية والجزئية، فالمراد بها عند المتكلمين كل ما يوهم التقسيم والتجزئ عندهم من الصفات، فقد بين الصاوي قيام التنزيه على نفيها، وهذا ما لا يسلم لهم مطلقًا، فالصحيح أنه لا يلزم من إثباتها ما ذكروه من التقسيم والتجزئ.
وقد بين ضلالهم في هذه الشبهة التي اعتمدوا في إعمالها لرد هذه الصفات قياس
(1) الصواعق المرسلة: (2/ 407). وانظر: مناهج السنة لشيخ الإسلام: (2/ 614).
(2)
الصواعق المرسلة: (2/ 673).
الغائب على الشاهد، شيخ الإسلام رحمه الله؛ فنبه إلى أن هذه الصفات لا يمكن ردها لإيهام التجزئ والتركيب فإن هذا إنما يصح في حق المخلوقات المكونة من الجواهر والأجرام، ومع ذلك فلا يصح تأويلهم لها لتدل على الذات كالوجه مثلًا، وذلك لدلالة اللغة التي خاطبنا القرآن بها، فقد علم ضرورة أن هذه التسميات يراد بها صفة مخصوصة تكون دالة عليها، يقول رحمه الله: "قالوا إذا حملتم الأمر على هذا الظاهر، وبطل أن يراد بها إلا الوجه الذي هو صفة يستحقها الحى، فالوجه الذي يستحقه الحى وجه هو عضو وجارحة، يشتمل على كمية تدل على الجزئية، وصورة تثبت الكيفية، فإن كان ظاهر الأوصاف عندكم إثبات صفة تفارق في الماهية، وتقارب فيما يستحق بمثله الاشتراك في الوصف، فهذا هو التشبيه بعينه، وقد ثبت بالدليل الجلى إبطال قول المجسمة والمشبهة، وما يؤدى إلى مثل قولهم فهو باطل.
قلنا: الظاهر ما كان متلقى في اللفظ على طريق المقتضى، وذلك مما يتداوله أهل الخطاب بينهم حتى ينصرف مطلقه عند الخطاب إلى ذلك عند من له أدنى ذوق ومعرفة بالخطاب العربي واللغة العربية، وهذا كما نقول: في ألفاظ الجموع وأمثالهم إن ظاهر اللفظ يقتضى العموم والاستغراق وكما نقوله: في الأمر إن ظاهره الاستدعاء من الأعلى للأدنى يقتضى الوجوب إلى أمثال ذلك مما يرجع فيه إلى الظاهر في المتعارف، فإذا ثبت هذا فلا شك ولا مرية على ما بينا أن الظاهر في إثبات صفة هو إذا أضيف إلى مكان أريد به الحقيقة أو أريد بها المجاز، فإنه لا ينصرف إلى وهم السامع أن المراد بها جميع الذات التي هي مقولة عليها، وهذا مما لا نزاع فيه والمقصود بهذا إبطال التأويل الذي يدعيه الخصم، فإذا ثبت هذا وجب أن يكون صفة خاصة بمعنى لا يجوز أن يعبر بها عن الذات ولا وضعت لها إلا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز، فأما قولهم: إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحى ولم يعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضوًا وجارحة ذات كمية، وكيفية فهذا لا يلزم من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث
لا من خصيصة صفة الوجه، ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات فيما يثبت للذات من الماهية المركبة بكمياتها وكيفياتها وصورها، وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات فكانت الصفة مساوية للذات في موضعها بطريق أنها منها ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل، فأما الوجه المضاف إلى الباري تعالى فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه، وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية وتتسلط عليه الكيفية ولا يعلم له ماهية، فالظاهر في صفته التي هي الوجه أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية، ولا يوقف لها على كيفية، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجسامًا والله يتنزه عن ذلك، ولو جاز لقائل أن يقول ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك في صفات الذات لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات لكان في الحياة والعلم والقدرة أيضًا كذلك فإن العلم في الشاهد عرض قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب، وذلك غير لازم مثله في حق الباري لأنه مخالف للشاهد في الذاتية غير مشارك في إثبات ماهية ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية وهذا الكلام واضح جلى". (1)
وهذا ما بينه الإمام ابن القيم رحمه الله على جهة الإجمال حيث يقول: فاعتقد نظار المتكلمين على تعدد شبههم بأن من وصف بهذه الصفات الخبرية" لم يكن إلهًا واحدًا، وكان هناك آلهة متعددة، وقدماء متغايرة، وأعراضًا، وأبعاضًا، وحدودًا، وجهات، وتكثر، وتغير، وتحدد، وتجرد، وتجسم، وتشبيه، وتركيب، وأكثر الناس إذا سمعوا هذه الألفاظ نفرت عقولهم من مسماها، ونبت أسماعهم عنها، وقد علم المؤمنون المصدقون للرسول العارفون بالله وصفاته وأسمائه أنكم توسلتم بها إلى نفى صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه؛ فلم ترفعوا بها رأسًا، ولم تروا لها حرمة، ولم ترقبوا فيها ذمة، وغرت ضعاف العقول الجاهلين بحقائق الإيمان فضلوا بها وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل.
(1) بيان تلبيس الجهمية: 37 - 38.
فلفظ الجسم لم ينطق به الوحى إثباتًا؛ فتكون له حرمة الإثبات، ولا نفيًا، فيكون له إلغاء النفى، فمن أطلقه نفيًا أو إثباتًا سئل عما أراد به، فإن قال: أردت الجسم معناه في لغة العرب، وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه ولا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء، فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفى عن الله عقلًا وسمعًا، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة؛ فهذا منفى عن الله قطعًا، والصواب نفيه عن الممكنات أيضًا فليس الجسم المخلوق مركبًا من هذا ولا من هذا.
وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات، ويرى بالأبصار، ويتكلم ويكلم، ويسمع ويبصر، ويرضى ويغضب؛ فهذه المعانى ثابتة للرب تعالى، وهو موصوف بها، فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسمًا؛ كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب، ولا ننفى قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريًا، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه؛ لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسمًا مشبهًا، فإن كان تجسيمًا ثبوت استوائه على عرشه إني إذًا لمجسم، وإن كان تشبيها ثبوت صفاته فمن ذلك التشبيه لا أتكتم، وإن كان تنزيهًا جحود استوائه وأوصافه، أو كونه يتكلم؛ فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا بتوفيقه، والله أعلى وأعلم". (1)
ولا شك أن هذا هو حال ما أدخل في الدين من البدع والمحدثات؛ لأنها كما سبق وأن ذكرت لا تشتمل على البرهان الذي يتم به العلم اليقينى، فغالب ما عليه أهل البدع ألفاظ مجملة، لا يجزم فيها بقول على جهة التحقيق؛ لذا نبه علماء السلف على وجوب الحذر منها وتفصيل القول فيها؛ حتى لا يرد حق ويقبل باطل بسببها.
(1) الصواعق المرسلة: (3/ 939 - 943). وسيأتي نقد كل تأويل لهذه الصفات مفصلًا بحول الله تعالى في المباحث التالية.