المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتظهر نزعة التصوف جلية في هذه المسألة، حيث يقرر الصاوى - آراء الصاوي في العقيدة والسلوك

[أسماء بنت محمد توفيق بركات ملا حسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حياة الشيخ الصاوى

- ‌الفصل الأول: عصر الصاوي

- ‌(المبحث الأول): الحالة السياسية

- ‌الاضطرابات والقلاقل السياسية:

- ‌ مذبحة المماليك بالقلعة سنة 1811 م:

- ‌محاربة الدعوة السلفية:

- ‌ القضاء على الزعامة الشعبية والدينية بنفى عمر مكرم:

- ‌(المبحث الثاني): الحالة الاجتماعية

- ‌(المبحث الثالث): الحالة العلمية والدينية

- ‌الفصل الثاني: حياة الصاوى

- ‌(المبحث الأول): سيرته الذاتية

- ‌1 - اسمه ونشأته:

- ‌2 - صفاته وأخلاقه

- ‌3 -‌‌ شيوخهوتلاميذه

- ‌ شيوخه

- ‌تلاميذه:

- ‌(المبحث الثاني): مكانته العلمية ومؤلفاته

- ‌مكانتها العلمية:

- ‌الحواشى العقدية:

- ‌الفصل الثالث: منهجه في تحري مسائل الاعتقاد

- ‌(المبحث الأول): مصادره في العقيدة

- ‌أولًا: مكانة العقل في التلقى:

- ‌ثانيًا: حجية الإلهام:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مصادر التلقى:

- ‌ثانيًا: نقض دعاويهم في تقديم العقل:

- ‌ثالثًا: التناقض لازم لهذا المسلك:

- ‌رابعًا: حجية الإلهام:

- ‌(المبحث الثاني): منهجه في الاستدلال

- ‌أولًا: الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد:

- ‌مناقشة:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالسبر والتقسيم:

- ‌ثالثًا: الاستدلال بالقياس المنطقي:

- ‌المناقشة:

- ‌ثالثًا: منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة:

- ‌أولًا: الاستدلال بالنص:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالظاهر:

- ‌المناقشة:

- ‌مسلك التأويل والتفويض:

- ‌ أولًا المراد بالمتشابه:

- ‌ ثانيًا: المراد بالتأويل:

- ‌الباب الثاني: (آراؤه في العقيدة)

- ‌الفصل الأول: (آراؤه في معرفة الله والاستدلال على وجوده)

- ‌(المبحث الأول): معرفة الله تعالى

- ‌(تمهيد)

- ‌طرق المعرفة

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌التقليد وحكم المقلد

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الاستدلال على وجود الله تعالى

- ‌ دليل حدوث الأجسام

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌دليل الإمكان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثاني: (آراؤه في التوحيد)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): دليل التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): شهادة التوحيد ونواقضها

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (آراؤه في الأسماء والصفات)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى

- ‌أسماء الله تعالى كلها حسنى:

- ‌أسماء الله تعالى توقيفية:

- ‌أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد:

- ‌ أسماء الله تعالى غير مخلوقة:

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): المسائل المتعلقة بصفات الله تعالى

- ‌أولًا: الصفات السلبية

- ‌ثانيًا: صفات المعاني

- ‌ثالثًا: الصفة النفسية

- ‌رابعًا: الصفات المعنوية

- ‌خامسًا: موقفه من الصفات الأخرى

- ‌ أولًا: صفة الرحمة والغضب والمحبة:

- ‌ ثانيًا الصفات الخبرية الذاتية:

- ‌الفصل الرابع: آراؤه في الإيمان

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الإيمان

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الأسماء والأحكام

- ‌أولًا: حقيقة الإيمان، وبيان ما يناقضه:

- ‌ثانيًا: تحقيق الوعد مع وجود مسببه من الإيمان:

- ‌ثالثًا: تحقق الوعيد مع وجود المقتضى من الكفر:

- ‌رابعًا: موانع إنفاذ الوعيد لأصحاب الكبائر من المسلمين:

- ‌خامسًا: الرد على شبه الوعيدية:

- ‌سادسًا: موقفه من مخالفيه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

- ‌الفصل الخامس: (آراؤه في الإيمان بالملائكة)

- ‌(المبحث الأول): الإيمان بالملائكة الأطهار

- ‌(المبحث الثاني) عالم الجن والشياطين

- ‌الفصل السادس: آراؤه في الإيمان بالكتب

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف الوحي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالكتب السابقة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌كلامه في التوراة:

- ‌كلامه في الإنجيل:

- ‌كلامه في الزبور:

- ‌مناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الإيمان بالقرآن الكريم

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل السابع: آراؤه في الإيمان بالنبوات

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم النبوة والرسالة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالرسل والأنبياء

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌التعليق:

- ‌أولًا: المفاضلة بين البشر والملائكة:

- ‌ثانيًا: عصمة الأنبياء:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالأحوال البشرية:

- ‌(المبحث الثالث): خاتم الأنبياء عموم رسالته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌مكانته بين الرسل:

- ‌خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌مظاهر الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: أسماؤه الشريفة:

- ‌ثانيًا: قضية التفضيل:

- ‌ثالثًا: الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث الرابع): دلائل النبوة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌الفصل الثامن: (آراؤه في الإيمان باليوم الآخر)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف اليوم الآخر، وأدلته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بأشراط الساعة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثالث): الموت، وحياة البرزخ

- ‌الروح والموت

- ‌حياة البرزخ

- ‌(المبحث الرابع): حقائق يوم القيامة

- ‌ المحشر وعرضات يوم القيامة

- ‌الجنة والنار

- ‌الفصل التاسع: (آراؤه في الإيمان بالقضاء والقدر)

- ‌(المبحث الأول): القضاء والقدر (تعريفه ومراتبه)

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: تعريف القدر:

- ‌ثانيًا: تعريف القضاء:

- ‌ثالثًا: مراتب القدر:

- ‌مرتبة العلم:

- ‌مرتبة الكتابة:

- ‌مرتبة المشيئة:

- ‌مرتبة الخلق:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌موقفه من الظلم:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الظلم:

- ‌(المبحث الثالث): أفعال العباد

- ‌أدلة القدرية والجبرية:

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: أفعال العباد وحقيقتها القدرية:

- ‌ثانيًا: الأسباب، وموقف الناس منها:

- ‌ثالثًا: أدلة رجح بها مذهب الأشعري، ورد بها على مخالفيه:

- ‌الأدلة السمعية:

- ‌الأدلة العقلية:

- ‌رابعًا: حقيقة القدر في الفكر الصوفي:

- ‌المناقشة:

- ‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

- ‌الفصل العاشر: آراؤه في الصحابة والإمامة

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): الصحابة الكرام

- ‌أولًا: تعريف الصحابة:

- ‌ثانيًا: فضائل الصحابة:

- ‌ثالثًا الدفاع عن الصحابة:

- ‌التعليق:

- ‌ تعريف الصحابة:

- ‌فضل الصحابة:

- ‌الدفاع عن الصحابة:

- ‌(المبحث الثاني): الإمامة

- ‌تعليق:

- ‌أولًا: حكم تنصيب الوالي:

- ‌ثانيًا: ما تنعقد به البيعة:

- ‌صفات الوالي:

- ‌تعدد الولاة:

- ‌حق الإمام:

- ‌الباب الثالث: (آراؤه في باب السلوك)

- ‌الفصل الأول: (التصوف وآدابه)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم التصوف

- ‌(المبحث الثاني): آداب التصوف

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أهمية اختيار الشيخ:

- ‌صفات الشيخ:

- ‌آداب السلوك:

- ‌أولًا: ما يتعلق بآداب اختيار العلم:

- ‌ثانيًا: الآداب المتعلقة بحق الشيخ:

- ‌الآداب المتعلقة بجماعة الطلاب:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مكانة علم التصوف بين العلوم:

- ‌ثانيًا: صفات الشيخ:

- ‌آداب التلقي:

- ‌احترازات في التلقي:

- ‌أولًا: طاعة الشيخ:

- ‌ثانيًا: التبرك بالشيخ:

- ‌ثالثًا: ملاحظة الشيخ:

- ‌رابعًا: الاستغناء بالشيخ:

- ‌الفصل الثاني: (المقامات والأحوال)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف المقام:

- ‌تعريف الحال:

- ‌(المبحث الأول): أقسام المقامات (عند الصوفية)

- ‌الفناء والبقاء:

- ‌الجمع والفرق:

- ‌أحكام البقاء:

- ‌مقام الجمع:

- ‌مقام الفرق:

- ‌(المبحث الثاني): منهج الصوفية في التأصيل للمقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): وحدة الوجود ووحدة الشهود

- ‌أولًا: وحدة الوجود:

- ‌ثانيًا: وحدة الشهود:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: نقض وحدة الوجود:

- ‌موقف الصاوي:

- ‌ثانيًا: حقيقة وحدة الشهود:

- ‌(المبحث الرابع): الترقي في المقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: عقبات الترقي:

- ‌ثانيًا: طريق الخلاص:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (الولاية والكرامة)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الولاية

- ‌ تعريف الولاية:

- ‌ حقيقة الولي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌صفات الولي:

- ‌شرط الولاية:

- ‌الفرق بين الولي والدعي:

- ‌جزاء الأولياء:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌زمن الولاية:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الولاية:

- ‌ معرفة الولي:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌مدة الولاية:

- ‌المبحث الثاني: حقيقة الكرامة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: وتظهر نزعة التصوف جلية في هذه المسألة، حيث يقرر الصاوى

وتظهر نزعة التصوف جلية في هذه المسألة، حيث يقرر الصاوى أن معرفة الله تعالى قد تحصل للعبد بلا دليل، بل هي محض فضل ونور يقذفه الله تعالى في قلب عبده فيعرفه ويؤمن به. يقول:"فمعرفة الله تعالى تكون ضرورية لأهل الكشف والبصيرة النيرة، ونظرية لأهل الدليل"(1)

وفي موضع آخر يوضح حقيقة هذه الضرورة ووجه كونها كذلك. يقول: "فمعرفة العبد ربه نور من الله يقذفه في قلبه؛ فيدرك أسرار ملكه ويشاهد غيب ملكوته ويلاحظ صفاته"(2).

ولا يكتفى بذلك بل إنه يضفى على هذه المعرفة نوعًا من الخصوصية، ليست لتلك التي تحصل بطريق النظر، حيث يقول:"واعلم أن المعرفة على قسمين خاصة وعامة. فالعامة معرفة الله بالدليل، والخاصة على ثلاثة أقسام: شهود أفعال وهى للأبرار، وشهود أسماء وصفات، وهى للأخيار، وشهود ذات، وهى لخيار الخيار". (3)

هذا ويوافق الصاوى الحق بأن معرفة الله أمر فطرى وذلك في معرض تقريره لكلام المحلى، إلا أنه لا يذكر هذا الرأى في تحريره لمسائل الاعتقاد.

ومع ما تقدم فإنه حين يعرض أقوال العلماء في المسألة، فإنه يرجح أهمية النظر ولا يخرجه عن كونه واجبًا يقع في العصيان من حاد عنه، وكانت لديه أهلية النظر (4).

* * *

‌المناقشة:

تبين مما تقدم أن الصاوى يوافق جمهور الأشاعرة في أهمية النظر وكونه طريقًا لمعرفة الله تعالى. ولكنه يخالفهم في قصر المعرفة عليه، وامتناع حصولها إلا

(1) حاشية الخريدة البهية: 39.

(2)

المرجع السابق: 41، 42، والحاشية على جوهرة التوحيد:14.

(3)

الحاشية على الصلوات الدرديرية: 6.

(4)

انظر: حاشية الجلالين: (1/ 11) حاشية جوهرة التوحيد: 13.

ص: 125

بطريقه، يقول الأشعري:"إن أول الواجبات على شرط تقدم النظر والاستدلال، لأنه لا يصح وقوع تلك المعرفة إلا عن النظر والاستدلال". (1) وتظهر المخالفة جلية عند عرضه لأقوال المتصوفة على جهة التقرير، وفي موقفه من التقليد في باب التوحيد.

- أما القول بأن أول الواجبات على المكلف: الشك وهو قول بعض المعتزلة كما سبق، فهذا المعتقد كما قرر شيخ الإسلام مبنى على أصلين:"أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضى إلى العلم، والثانى: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالمًا".

وهو ما يسمى عند شيخ الإسلام بالنظر الطلبى؛ لأن صاحبه يطلب الاستدلال على المبادئ التي لا يمكن طلبها بدليل، يقول شيخ الإسلام:"لكن النظر الذي يستلزم العلم غير النظر الذي يضاده. فالنظر الذي يستلزم العلم هو النظر الاستلالى وهو النظر في الدليل: فإذا تصور الدليل وتصور استلزامه للحكم علم الحكم، والنظر الذي يضاد العلم هو النظر الطلبى، وهو نظر في المطلوب حكمه؛ هل يظفر بدليل يدله على حكمه أو لا يظفر، كطالب الضالة والمقصود قد يجده وقد لا يجده، وقد يعرض عنهما، فإن الأول انتقال من المبادئ إلى المطالب، والآخر انتقال من المطالب إلى المبادئ". (2)

ولا شك أن الانتقال من المطالب إلى المبادئ يجعل تحصيلها بعيدًا، وهذا الذي قرره الغزالي في حكاية حاله مع الشك فبين أن الذي أدى به إلى هذا الطريق هو شكه في المبادئ المسلمة التي يستدل بها ولا يستدل لها، يقول:"والمقصود من الحكاية أن يعلم أن كمال الجد في الطلب حتى ينتهى إلى طلب ما لا يطلب؛ لأن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب فقد واختفى". (3)

(1) مجرد مقالات الأشعري: 250.

(2)

الرد على المنطقيين: 352، 353.

(3)

المنقذ من الضلال: 23.

ص: 126

لذا سمى الغزالي ما حل به مرضًا، وكانت الهداية التي حصلت له من الله تعالى شفاء لهذا الداء الذي أصابه (1).

- أما القول بأن أول الواجبات هو: النظر، أو القصد إليه أو معرفة الله تعالى، فغير صحيح، بل الذي يراه المحققون من أهل السنة والجماعة استنباطًا من أدلة الكتاب والسنة، والتى هي بحق العمدة في المسائل التي تعد من أصول الدين، أن أول واجب على المكلف هو توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، وإن حصل منه ذلك قبل التكليف لم يطالب بالتجديد وإنما بالاستمرار والمثابرة.

وهذا الأصل هو مقتضى التسليم بدلالة النصوص الشرعية، التي تقرر مكانة التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبادة، وأنه منهج الرسل جميعًا - عليهم الصلاة والسلام - في مبدأ دعوتهم أقوامهم إلى الله، فكل نبى يبدأ دعوته بالتوحيد قائلًا:{يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2): "والنبى لم يدع أحدًا من الخلق إلى النظر ابتداءً، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه، كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل - رضى الله عنه - لما بعثه إلى اليمن: إنك تأتى قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فاعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". (3)

(1) انظر: المرجع السابق: 23.

(2)

الدرء: (8/ 6، 7).

(3)

البخاري: كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: 1458، وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء:1496.

ص: 127

وكان هذا معتقد الأئمة الهداة. ومن ذلك ما جمعه الإمام ابن عبد الهادى (1) في كتابه: "التمهيد في الكلام على التوحيد"، من آيات وأحاديث صحاح مؤكدًا هذه الحقيقة، حيث قال: فإن أول واجب على العبد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وابتدأ الاستشهاد بقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]

وكل الأدلة التي أردفها هذه الآية الكريمة تبين أهمية التوحيد الذي أرسلت به الرسل، وأن هذا هو أول وآخر ما يطلب تحققه من العبد، وتكون به النجاة يوم القيامة. (2)

وهذا مما تظهر فيه سماحة الإسلام، حيث يقع التكليف على كل فرد بما يقتضيه حاله، فالكافر يؤمر بالشهادتين، والمسلم يؤمر بالطهارة إن لم يكن متطهرًا، وإن كان متطهرًا أمر بالصلاة، يقول شيخ الإسلام:"وفى الجملة فينبغى أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدًا بعد واحد، ليس هو أمرًا يستوى فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداءً بما لا يؤمر به هذا، فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمر به ابتداءً من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداءً، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا. . .". (3)

وينبنى هذا الأصل عند جمهور السلف على اعتقاد فطرية معرفة الله تعالى - كما

(1) هو أبو المحاسن، جمال الدين، يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادى القرشي والدمشقى، الصالحى، من فقهاء الحنابلة، ومن أكابر المحدثين، له تصانيف كثيرة في شتى العلوم، منها: التمهيد في الكلام على التوحيد، رسالة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله، عظم المنة بنزل الجنة. توفى سنة 909 هـ. انظر: شذرات الذهب: (8/ 43).

(2)

انظر الكتاب: تحقيق د. محمد عبد الله السمهري.

(3)

الدرء (8/ 16).

ص: 128

بينت سابقًا - وتظهر هذه الحقيقة ماثلة للعيان والأذهان، حين يخبر الله تعالى، عن حال من كذب وأعرض بأنه مكابر معاند يجحد ما توقن به نفسه. - واليقين كما هو معلوم من أعلى درجات المعرفة - وذلك في قوله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

وهذا اليقين الذي داخل نفوس الخلق بحيث لو أعرض عنه الكافر كان إعراضه نتيجة للكبر الذي من تلبس به لم يفلح أبدًا. أقول هذا اليقين هو من لوازم خلقتهم التي خلقهم الله تعالى عليها، فقد أخبر تعالى أنه أخذ العهد والميثاق على بنى آدم، وهم في عهد الذر بأن يقروا بربوبيته وأن لا يشركوا معه أحدًا من خلقه فأقروا وشهدوا، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173].

وبذلك يكون الإيمان بالله تعالى وتوحيده أمرًا فطريًا، لا يمكن للنفس البشرية جحده ولا إنكاره إلا ظلمًا وعلوًا، كما أخبر بذلك المولى سبحانه، ولا ينبئك مثل خبير. يقول شيخ الإسلام في بيان هذه الحقيقة المشرقة:"ولهذا جميع بنى آدم مقرون بهذا شاهدون به على أنفسهم. وهذا أمر ضرورى لهم لا ينفك عنه مخلوق، وهو مما خلقوا عليه وجبلوا عليه، وجعل علمًا ضروريًا لهم لا يمكن أحدًا جحده". (1)

ومع ما تقدم من بيان منهج السلف، فإن الصاوى قد وافق وجهًا من الصواب، حيث أقر بأن معرفة الله تعالى قد تقع بغير النظر، كوقوعها فطرة كما يوحى إقراره لكلام المحلى في ذلك، أو اضطرارًا في قلب العبد. وعبر عن ذلك بالكشف والإلهام. وبذلك خالف الأشاعرة في قصرهم الطريق إلى معرفة الله تعالى على النظر، وكان أكثر اعتدالًا، حين أوجب النظر ولو بعيدًا عن التزامات المتكلمين في

(1) المرجع السابق: (8/ 488).

ص: 129

الاستدلال على من له أهلية مع تحقق المعرفة عنده؛ امتثالًا لأمر الشارع الحكيم، حيث أمر في كثير من الآيات الكريمة بالتدبر والتفكر، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار وغير ذلك، ولكن وقع الاشتراك في لفظ النظر والاستدلال، ولفظ الكلام، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال". (1)

وللإمام الحافظ ابن حجر (2) كلام نفيس في هذه المسألة حيث قام بعرض الأقوال المختلفة ومناقشتها، وذلك بتفنيد الأقوال الباطلة وتقرير الحقائق المستمدة من الكتاب والسنة، فبعد أن ذكر الأقوال المتعددة حول النظر وجوبًا وتحريمًا، مال رحمه الله إلى الاعتدال - شيمة أهل الحديث - ونقل كلامًا مهمًا يعد من الأقوال الحاسمة للخلاف في المسألة، يقول:"ونقلت من جزء الحافظ صلاح الدين العلائى: يمكن أن يفصل فيقال: من لا له أهلية لفهم شيء من الأدلة أصلًا، وحصل له اليقين التام بالمطلوب، إما بنشأته على ذلك، أو لنور يقذفه الله في قلبه؛ فإنه يكتفى منه بذلك. ومن فيه أهلية لفهم الأدلة لم يكتف منه إلا بالإيمان عن دليل، ومع ذلك فدليل كل أحد بحسبه، وتكفى الأدلة المجملة التي تحصل بأدنى نظر، ومن حصلت عنده شبهة وجب عليه التعلم إلى أن تزول عنه". (3)

(1) نقض المنطق: 47، 48.

(2)

هو شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على بن محمد بن محمد الشهير بابن حجر العسقلاني الأصل المصرى المولد والنشأة ولد سنة: 773، وتوفى سنة: 852، اشتغل بالفقه والعربية وصار حافظ الإسلام، انتهى إليه معرفة الرجال واستحضارهم، له مؤلفات عميمة النفع من أشهرها شرحه على صحيح البخاري. انظر: شذرات الذهب: (7/ 270).

(3)

فتح الباري: (13/ 354).

ص: 130

وقد حكى إجماع عامة المسلمين على أن النظر لا يجب في حق من آمن إيمانًا جازمًا، الإمام ابن حزم (1) حيث قال:"وقال سائر أهل الإسلام: كل من اعتقد بقلبه اعتقادًا لا يشك فيه، وقال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن كل ما جاء به حق، وبرئ من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مسلم مؤمن، ليس عليه غير ذلك"(2).

والحق الذي عليه المعول، أن النظر قد يجب في بعض الأحيان، وعلى بعض الأعيان، قال تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 7، 8]، وقد استدل شيخ الإسلام بهذه الآيات الكريمة على ما ذكرته، وبين أن الشاهد من الآية هو عود الضمير في قوله:[يتفكروا] على الكفار الذين وصفهم المولى بقوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3)

ولا شك أن الآيات التي تحث القلب على النظر والتدبر والتفكر كثيرة في كتاب الله تعالى ولكن المراد منها بعيد كل البعد عما يقصده المتكلمون، فهذه أدلة القرآن الكريم تخاطب الفطرة البشرية التي شهدت بربوبية خالقها منذ أن عرفت الوجود وذاقت طعم الحياة بالتفكر والتدبر في هذا الخلق المحكم حتى تصل بذلك إلى اليقين والاطمئنان، فيظهر أثر ذلك عليها علمًا بما يجب في حق الله تعالى، وعملًا بما يرضى الله تعالى.

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي

(1) هو أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم الأموى ولد بقرطبة سنة: 384 هـ كان حافظًا عالمًا مستنبطًا للأحكام على المذهب الشافعي ثم انتقل إلى المذهب الظاهرى، أتقن علومًا جمة وألف تواليف كثيرة، منها: الإحكام في أصول الأحكام، والفصل في الملل والأهواء. والنحل وغيرها، توفى سنة: 456: انظر: وفيات الأعيان: (3/ 325)، شذرات الذهب:(3/ 299).

(2)

الفصل في الملل والنحل (3/ 35).

(3)

انظر: درء تعارض العقل والنقل (8/ 8).

ص: 131

الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثم يبين تعالى من هم أولوا الألباب:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]

يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: "أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل، يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث: قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم"(1)

هذا إلى جانب التناقض الحاصل من اعتقاد وجوب النظر مع تحقق الإيمان، والقول بأن معرفة الله لا تثبت إلا بالشرع، كما هو قول الأشاعرة، وكان هذا نتيجة لاضطراب المنهج الذي سلكه هؤلاء المتكلمون في الاستدلال على المعتقد بين الرد والتقرير، ففى مواجهة أقوال المعتزلة يرجعون الأمر كله للشرع، ويقولون لا واجب إلا بالشرع. (2)

يقول الإيجى: "النظر في معرفة الله واجب إجماعًا، واختلف في طريق ثبوته: عند أصحابنا السمع، وعند المعتزلة العقل"

مع ذلك كانوا أكثر الناس تأثرًا بأقوال المعتزلة ويظهر هذا التأثر جليًا في هذه المسألة، حيث نقل الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قول أحد كبار الأشاعرة الذين خالفوا ما عليه جمهورهم من إيجاب النظر، يقول: "وقد وافق أبو جعفر السمنانى (3)

- وهو من رءوس الأشاعرة على هذا وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفى التقليد في ذلك" (4).

(1) تفسير القرآن العظيم: (1/ 572).

(2)

انظر: الملل والنحل، الشهرستانى:(1/ 53).

(3)

محمد بن أحمد السمنانى وأبو جعفر، القاضي، الحنفى وأحد المتكلمين ولازم القاضي أبا بكر الباقلانى حتى برع بالكلام، وكان مقدم الأشعرية في وقته، وكان عالمًا صدوقًا، له تصانيف عدة، توفي سنة: 444 هـ انظر: سير أعلام النبلاء، والبداية والنهاية: 12/ 68، 69.

(4)

فتح الباري: (13/ 349).

ص: 132

هذا إلى جانب الاضطراب الذي وقع فيه آحادهم من القول بوجوب الصلاة على من هو دون البلوغ مع القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر، يقول شيخ الإسلام:"ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشى على من يقول: لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية، وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أو سبع، لا وجوب على من لم يبلغ ذلك، وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين إن كان لم يتكلم بهما، وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة، وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة، فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا". (1)

* * *

وإذا كانت معرفة الله تعالى متحققة بالفطرة، التي تعنى ملازمة الجبلة البشرية للإقرار بربوبية الله تعالى، وانفراده باستحقاق العبادة، كذلك أمكن تحقق حصولها بغير هذا الطريق، ويكون ذلك عند انطماس معالم الهداية في قلب العبد؛ بسبب وجود الموانع الصارفة من تحقق مقتضى تلك الهداية الفطرية اللازمة للجبلة البشرية، فكانت عناية الله بهذا الخلق الضعيف أن جعل الطرق الدالة عليه أعظم الطرق وأوسعها، فالإلهام (2) أو الكشف (3) طريق إلى معرفة الله تعالى وهو هداية من المولى يختص بها من يشاء من عباده، وقد يحصل بسبب المجاهدة وترك العلائق كما يقول الصوفية - مع الاحتراز -، وقد يحصل بمحض فضل من الله عز وجل؛

(1) درء التعارض: (8/ 12، 13)

(2)

الإلهام في اللغة: التلقين، يقال: ألهمه الله الخير: لقنه إياه قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قال الراغب الأصفهانى: (إلقاء الشيء في الروع، ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى) المفردات: 455.

يقول الإمام ابن القيم في الإلهام أنه: "موهبة مجردة لا تنال بكسب البتة"، مدارج السالكين:(1/ 69).

(3)

الكشف داخل ضمن دائرة الإلهام ويعرف بأنه: (الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعانى الغيبية، والأمور الحقيقية وجودًا وعدمًا) التعريفات للجرجانى: 184.

ص: 133

فينير قلب عبده للإيمان به والتزام هديه وهذا ما حكاه القرآن الكريم لنا، حيث قال في محكم التنزيل:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] وتفسير الوحى المذكور في الآية بالإلهام هو قول طائفة من السلف. قال الحسن البصري: "ألهمهم الله عز وجل ذلك". وقال السدي: "قذف في قلوبهم ذلك"

يقول شيخ الإسلام: "وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهامًا. فدعوى المدعى امتناع ذلك يفتقر إلى دليل، فطرق المعارف متنوعة في نفسها، والمعرفة بالله أعظم المعارف، وطرقها أوسع وأعظم من غيرها، فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيًا عامًا لما سوى تلك الطريق؛ لم يقبل منه، فإن النافى عليه الدليل، كما أن المثبت عليه الدليل".

* * *

أما ما يؤخذ على الصاوى في هذا الجانب، فإنه يتلخص في تقسيمه المعرفة إلى قسمين، بحسب الطريق الموصل إليها، وإضفاء نوع من الخصوصية على تلك التي تحصل للعبد بطريق الكشف - كما يعبر عنه الصوفية - أو بالإلهام كما تعارف عليه أهل السنة والجماعة. وهذا في حقيقته مبنى على اعتقاد شائع عند المتصوفة، إذ يعدون الإلهام مصدرًا من مصادر التلقى، والذي يسامى منزلة الوحى عندهم.

والأصل في حجية الإلهام واعتباره من المسالك الشرعية في الدين أن يستند في دلالته إلى نصوص الكتاب والسنة وألَّا يستقل بحكم شرعى لا أصل له فيهما، ولذلك كان الإلهام في هذا الباب قد استوفى شرط تحكيمه والعمل بمقتضاه؛ حيث استند اعتباره لما قام عليه الدين جملة وتفصيلًا فوافق أمرًا فطريًا ضروريًا قد جبل الله تعالى خلقه عليه، وأمرهم به، وهو معرفته سبحانه ربًا، خالقًا، رازقًا، مدبرًا، أحدًا، ومن ثم التوجه له بالعبادة وحده. (1)

(1) انظر: بحث الإلهام في كتاب: المعرفة في الإسلام د/ عبد الله القرنى: 80، 81.

ص: 134

ويبين الإمام ابن القيم الضابط الذي يعتمد في هذا الباب، حيث يقول:"والرؤيا كالكشف، منها رحمانى، ومنها نفسانى، ومنها شيطانى. . ." إلى أن قال: "ورؤيا الأنبياء وحى، فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة؛ ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.

وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحى الصريح، فإن وافقته وإلا فلا". (1)

وبنفس الضوابط والشروط يقرر الإمام الشاطبى هذه الحقيقة، يقول:". . . لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعًا على حال، إلا أن نعرضها على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها". (2)

لهذا فإن الإمام ابن القيم يرى أن الكشف الصحيح هو ما كان دليلًا للعبد يعينه في معرفة الحق الذي بعث الله تعالى به رسله، يقول:"فالكشف الصحيح: أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له فيدور معه وجودًا وعدمًا، هذا هو التحقيق الصحيح وما خالفه فغرور قبيح". (3)

ويرجع هذا الأصل إلى اعتقاد كفاية الطرق والمسالك التي شرعها الدين للاستدلال على مسائله وأحكامه: علمًا وعملًا، جملة وتفصيلًا، وهو مقتضى التسليم والإيمان بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]

واعتقاد حصول البيان التام بالشرع، لا يمنع الاستئناس بما يدل عليه ويوافقه من طريق النظر أو الكشف، وإنما يقع المحظور في اعتقاد أن ثمة هدى ونور يستقل ببيانه دليل سوى دليل الشرع، ولهذا المعنى أشار العلامة عبد الرحمن المعلمى (4)

(1) مدارج السالكين: (1/ 75).

(2)

الاعتصام: (2/ 78).

(3)

مدارج السالكين: (3/ 214).

(4)

هو عبد الرحمن بن يحيى بن على بن محمد المعلمى العتمى، فقيه من العلماء ولد سنة: 1313 هـ - تولى رئاسة القضاء في عسير ولقب بشيخ الإسلام، له تصانيف كثيرة، منها: التنكيل، والأنوار الكاشفة، ومحاضرة في كتب الرجال وغيرها، توفي رحمه الله: 1386 هـ: الأعلام: (3/ 342).

ص: 135

بعد عرضه للمسالك الشرعية السلفية وبيان حصول الكفاية والاستغناء بها عما سواها، ومن ثم للمسالك الخلفية التي خلط سالكوها الحق بالباطل وبيان ما اشتملت عليه منهما، حيث قال - رحمه الله تعالى -:"مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يستند إليهما فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، بل لا ندفع أن يكون فيهما ما يوصل في كثير من ذلك إلى اليقين، فإن الشرع لم يتكفل ببيان ما ليس من الدين. وكذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، إذ لا يلزم من كفايتهما ألّا يبقى في غيرهما ما يمكن أن يستدل به على الحق، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين". (1)

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التفاضل في المعرفة من جهة الطريق الموصل إليها أمر يحتاج إلى دليل؛ إذ العبرة في حقيقة هذه المعرفة وما يترتب عليها من نقاء ويقين، يخلص صاحبها من درن الشرك والكفر والذي تعلقت النجاة بصفاء الإيمان من درنه.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وفى آية أخرى ينفى الله تعالى تحقق الإيمان لكثير من الناس إلا مع تلبسهم بالشرك، يقول سبحانه:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].

وكيف أن إبليس لعنه الله، قد عرف الله عز وجل، عظيمًا، قادرًا عزيزًا، حتى أقسم بعزته، ولم تنفعه تلك المعرفة ولا ذلك الإقرار؛ لأن العبرة بالانقياد والتسليم، الذي يتبع تلك المعرفة، قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]

(1) التنكيل: (2/ 260).

ص: 136