الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حقيقة الكرامة
مما يقوم عليه معتقد أهل السنة والجماعة في جانب الولاية، الإيمان بإمكان وقوع الكرامة في حق الأولياء، وأنها من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء من أهل تقواه والاستقامة على دينه القويم.
والكرامة في اللغة مشتقة من الإكرام، و"الكرام بالضم مثل الكريم فإذا أفرط في الكرم قلت كرام بالتشديد، والتكريم والإكرام بمعنى والاسم منه: الكرامة"(1).
أما في الاصطلاح، فالكرامة لها معنيان، معنى عام، وآخر خاص، أما العام فتكون اسمًا جامعًا لكل ما يكرم الله به عبده من النعم الظاهرة والباطنة، كالعلم والطاعة والرزق.
وأما في معناها الخاص؛ فهى الأمر الخارق العادة الإنس والجن، يقع على يد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبيه.
فكان أهل السنة بهذا الاعتقاد وسطًا بين الغلو والتفريط، فقد جفت المعتزلة في هذا الباب، فأنكروا الكرامة، وكان مستندهم في ذلك مسلماتهم العقلية، إذ الخوف من اختلاط الكرامة بالمعجزة حجتهم في المنع؛ حتى لا يحصل اللبس بين الولي والنبي.
ولا شك أن في هذا مخالفة لصريح المنقول من الشرع المطهر، فقد دلت آيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم على إثبات الكرامة في حق من استقام حاله ظاهرًا وباطنًا.
وفي مقابل هذا الاتجاه الجافي؛ يأتي مذهب أهل الغلو والإفراط وهم الصوفية، فقد غلو في إثبات الكرامة إلى حد بعيد، فحادوا بذلك عن الطريق المستقيم، حيث
(1) لسان العرب: (7/ 3861).
أدخلوا في مسمى الكرامة الكثير من الأمور، التي لا يصح وقوعها لأحد من البشر كائنًا من كان، وقد ساقهم هذا المنحى المضطرب في فهم حقيقة الكرامة إلى ابتذالها، حتى غدت علمًا عندهم على الإتيان بالعجائب من الأفعال والأقوال، ولو كانت مما يخل بالمروءة والقيم الأصيلة، وحتى غدا المارستان موطنًا للكثير من الكرامات.
- ولعلي أذكر بعض ما عجت به تصانيف الصوفية في هذا المقام، يقول المناوي في ذي النون المصرى: ومن مقاماته العلية الفائقة وأحواله المدهشة الخارقة أن روحه الشريفة كانت تدبر أجسامًا متعددة" (1) فهل هذا من الكرامة أم من الأوهام الخيالية؟
ويقول في عبد القادر الجيلاني: ومن كراماته أنه كان أيام رضاعته لا يرضع في رمضان، فكان الناس إذا شكوا في الهلال رجعوا إليه" (2).
ويقول في أحدهم: "وله كرامات كثيرة، فلما قدم السهروردي إلى دمشق أراد زيارته فقالوا له: لا تفعل الرجل لا يصوم ولا يصلي ويمشي مكشوف العورة غالبًا، فركب السهروردي بغلته وحوله الجمع الجم، فلما وصل إلى قرب مكانه رآه الرجل فكشف عورته"(3) وهناك الكثير من القصص التي يستحيي من ذكرها (4)، ولعل في هذا القدر كفاية، ولكل هذا الانحراف؛ فقد صارت حقيقة الكرامة عندهم مخالفة تمامًا للحقيقة الشرعية، التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة.
أما عن منزلة الكرامة عندهم؛ فتعد الدليل الأوحد الذي يمكن بتحققه الوصول إلى مرتبة الولاية عندهم، بل يرى البعض أن معرفة الولاية لا يكون إلا بمعرفة حد الكرامة، كما أن النبوة لا تعرف إلا بمعرفة حد المعجزة، فإذا كان من غير الممكن تكذيب النبي بعد ثبات نبوته بدليل المعجز كدليل برهاني، فكذلك لا يمكن بعد معرفة الكرامة وثبوت الوصف المعين الذي يميزها عن غيرها إنكار ولاية من قامت
(1) الكواكب الدرية: (1/ 401).
(2)
المرجع السابق: (1/ 678): هذا وكثير مما حكى عنهم اختراعات لا أصل لها.
(3)
المرجع السابق: (1/ 690).
(4)
انظر: الطبقات الكبرى للشعراني، ترجمة عبد القادر السبكي:664.