الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة الظلم:
وبناء على ما تقدم يعلم بطلان تعريف الظلم؛ بأنه التصرف في ملك الغير، ومن ثم تنزيه المولى تعالى عنه - كما ذكر الصاوي - بل حقيقة الظلم التي يجب نفيها عن المولى تعالى كما بينها السلف؛ هي وضع الشيء في غير محله (1).
وعليه فوضعه تعالى للأشياء في محلها هو عين الحكمة، وتمام العدل والرحمة.
وكان هذا مما فسر به الصاوي (الحكيم) على أحد قوليه، ولو تفطن لما يقتضيه هذا الوصف؛ لأثبت به عدل الله تعالى وحكمته، وبذلك ينتفى عنه الظلم.
وعليه فإن تفسير الظلم - الذي تواترت الأخبار بتنزيهه تعالى عنه - بإنه التصرف في ملك الغير؛ هو عين الجهل؛ إذ لا مستند له من اللغة، أو الشرع، تقول العرب:(من شابه أباه فما ظلم)، كما يقال:(هو أظلم من حية)؛ لأنها تدخل حفرًا لم تحفرها، فهذا المعنى للظلم مما هو معروف في اللغة، والأمثلة على ذلك كثيرة (2).
أما في الشرع؛ فمن مقتضى استحقاق المولى تعالى للحمد والثناء تركه تعالى للظلم مع قدرته على فعله. "ومعلوم أن المحال الذي لا يمكن، ولا يكون مقدورًا أصلًا لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته ولا فعله، ولا يحمد على ذلك، وإنما يكون المدح بترك الأفعاله لمن هو قادر عليها، وأن يتنزه عنها لكماله، وغناه، وحمده"(3).
هذا ويستدل الإمام ابن القيم على بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة في تفسيرهم للظلم، بقوله تعالى:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] يقول: "فنفى أن يكون تعذيبه لهم ظلمًا، ثم أخبر أنهم هم الظالمون بكفرهم، ولو
(1) انظر: جامع الرسائل: 124.
(2)
انظر: لسان العرب مادة ظلم: (5/ 2756)، وانظر: تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة: 467: تحقيق: أحمد صقر.
(3)
مفتاح دار السعادة: (2/ 108).
كان الظلم المنفى هو المحال، لم يحسن مقابلة قوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} ، بقوله:{وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، بل يقتضى الكلام أن يقال: ما ظلمناهم؛ ولكن تصرفنا في ملكنا وعبيدنا، فلما نفى الظلم عن نفسه، وأثبته لهم؛ دل على أن الظلم المنفى؛ أن يعذبهم بغير جرم، وأنه إنما عذبهم بجرمهم وظلمهم" (1).
مع ما يلزمهم من نسبة القبيح لفعله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا (2).
أما ما اعتقده الصاوي من أن نفى التعليل والغرض فيه رد على المعتزلة؛ فهذا باطل لا يصح؛ لأن شبهتهم في تلازم الأمر والإرادة لا تبطل بمثل هذا التقرير المباعد للحقيقة الشرعية الفطرية في إثبات الغرض المحمود في أفعاله تعالى، بل الرد عليها يكون بما تقدم من أن حكمته تعالى قد تخفى في ظاهر المراد مع وجودها؛ لتعلق حكمته، وعدله، ورحمته بكل ما يكون منه، وما يتصرف فيه من خلق وأمر.
كما يكون أيضًا بالتأكيد على قضية التلازم بين الرضا؛ والمراد شرعًا، لا قدرًا، وذلك ببيان الأدلة الثابتة الدالة على أنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر، معِ تمام ملكه وقدرته، وأنه لا يكون إلا ما يشاء سبحانه، كما قال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].
ثم إن الأساس الذي قام عليه مذهبهم في تنزيه المولى تعالى عن الظلم؛ هو إثبات الحكمة على المعنى المشاهد عند البشر، وذلك بقياس الشاهد على الغائب، فما وجدوه قبحًا وظلمًا من أفعال العباد نزهوا الله عن إرادته، وحكموا بنسبته لفعل العبد على جهة الاستقلال، وقد سبق بيان فساد هذا المسلك في الاستدلال على صفات الله تعالى؛ لأنه لا يستقيم الاستدلال به إلا مع التيقن من استواء طبيعة الشاهد والغائب، أما وقد دل برهان الفطرة والشرع على أنه تعالى ليس كمثله شيء؛ فلا اعتداد بمثل هذه الأقيسة الدخيلة على المعتقد، ويبقى الاستغناء بما دل
(1) مفتاح دار السعادة: (2/ 107).
(2)
انظر: الفتاوى: (8/ 509).
عليه الشرع؛ من أنه تعالى لا يظلم، بمعنى أنه لا يعذب أهل طاعته، ومن استحق بوعده الثواب والأجر. والحق أن مكمن الضلال الذي وقع فيه هؤلاء؛ هو عدم التمييز بين الفعل وبين الخلق، فالله تعالى خالق أفعال العباد وليس بفاعل لها، فالفاعل؛ هو من يقوم به الفعل، ويوصف به، وترجع إليه أحكامه أما الخالق تعالى فلا يوصف بتلك الأفعال، ولا ترجع أحكامها إليه إطلاقًا.
فهو خالق أفعال العباد بما فيها الصلاة والصيام، ومع ذلك لا يوصف بأنه مصلٍ، أو صائم، وكذا ما في أفعالهم من جور وظلم، يقول شيخ الإسلام في رده عليهم:"فكونكم أخذتم في حد الظالم؛ أنه من فعل الظلم، وعنيتم بذلك من فعله في غيره، فهذا تلبيس، وإفساد للشرع، والعقل، واللغة؛ . . ."(1).
* * *
(1) مجموع الفتاوى: (18/ 153)، وسأفصل ما يتعلق بأفعال العباد في المبحث التالى إن شاء الله تعالى.