الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد سقوط على بك الكبير تولى مكانه محمد أبو الدهب زمام السلطة، وقد عم الأمن والرخاء بلاد مصر في حكمه، وعاش الناس في هدوء واستقرار، وذلك بالرغم من قصر مدة حكمه، وقد بنى مسجده ومدرسته أمام الجامع الأزهر، ورتب لها وقفًا كبيرًا، كما وقع اختياره على الشيخ الدردير ليكون فقيه المالكية في تلك الآونة.
وبعد وفاة محمد أبو الدهب سنة: 1189 هـ صارت قبضة الحكم في مصر لإبراهيم ومراد بالتساوى بينهما، وكانا من مماليك أبي الدهب، وقد استمر حكمهما لمصر أكثر من عشرين عامًا، قاست في خلاله أشد أنواع الظلم والجهل والعدوان، فقد كانت حياة المصريين في تلك الآونة سلسلة من مآسى الظلم والفقر والنكبات، حيث فرضت الضرائب الفظيعة التي لم يعهد لها الناس مثيلًا من قبل.
كما انعدم الأمن في البلاد، فكان المسافر يستأجر الأعراب لحراسته كى ينقل من بلد إلى بلد، وهاجر الفلاحون إلى القاهرة بنسائهم وأولادهم يضجون من الجوع ويأكلون قشر البطيخ وأوراق الشجر، حتى استباحوا أكل الميتة من شدة ما حل بالناس من الفقر المدقع (1).
ولكل هذا مع ما كان من إهمال الولاة والعثمانيين أمر الرى وتوزيع المياه، فقد وصلت الحالة الاقتصادية في مصر لأسوأ ما يمكن الوصول إليه حيث أصيبت الأرض بالتلف وتعرضت الترع للجفاف، وتعطلت من أجل ذلك الزراعة.
وقد أدى هذا التدهور في شتى مجالات الحياة إلى ضعف الناحية العسكرية فقد أهملوا في تحصين البلاد التي تسلموا زمامها، واضمحلت في عهدهم الإسكندرية حتى اشرأبت إليها أعناق الطامعين من الغزاة الأوربيين (2).
الاضطرابات والقلاقل السياسية:
لقد شهد العصر الذي عاش فيه الصاوى عددًا من الاضطرابات السياسية، فعندما
(1) انظر: مصر في القرن الثامن عشر: (2/ 82).
(2)
في تاريخ العرب الحديث: 189.
استبان الأوربيون ضعف الدولة الإسلامية وعدم قدرتها على الصمود أمام الحملات الشرسة التي كانت تشنها على عدد من أطرافها تجدد طمعهم في شن حملات صليبية، فكانت رحلات المكتشفين إرهاصات كشفت عن تلك النوايا الخبيثة، ومن تلك الرحلات التي أمت بلاد المسلمين: رحلة فولنى الذي أرسل إليها من قبل فرنسا، فقد مكث أربع سنوات في مصر والشام، لاستكشاف الأوضاع هناك، ثم عاد إلى وطنه مقدمًا لها تقارير عن حال بلاد الإسلام، وما أصيبت به من ضعف واضطراب، مما يؤكد عمالة هذا الرجل أنه في أثناء الحملة الفرنسية عين عضوًا في المجمع الفرنسى، وكان قبل ذلك أستاذًا للتاريخ في مدرسة المعلمين بباريس.
انتهزت حكومة الإدارة تلك الفرصة وعجلت بتنفيذ الحملة الفرنسية موجهة إياها إلى مصر، في يوليه: سنة 1798 م، وقد ظنت لسوء أحوال الشعب هناك وما ذاقوه من ظلم المماليك أنهم سيقفون في صفها ويلقونها بالتهليل والترحيب إلا أنه وقع ما لم يكن بالحسبان، فالشعب المصرى المسلم لم يتقبل هذا النوع من الانقلاب العسكرى لأنه كان على علم بأنه لا يخرج عن الاحتلال الصليبى الذي يأنفه المسلم الأبى، ويبذل من أجل رفعه النفس والنفيس، فكرهوا أمر هذه الحملة ومقتوها مقتًا شديدًا.
وفى أثناء بقاء هذه الحملة في مصر حدث في أوربا ما أضر بفرنسا وذلك أن نابليون تسلل خفية إلى فرنسا في سنة 1799 م، وبقى الجيش الفرنسى في مصر دون أن يبلغ أطماعه بعد، إلى أن تم انسحابه منها في نهاية المطاف بالاتفاق مع بريطانيا (1).
ومع عدم تحقق أحلام الطامعين في الانتصار إلا أن هذه الحملة قد مثلت طورًا انتقاليًا في خطوط التدافع بين الدولة العثمانية والعالم الغربى، فقد شكلت الحملة الفرنسية نقلة نوعية في مسار الصراع بين قوى الغرب الصاعد وبين دورة الاجتماع العثمانى. وتتمثل الخاصية الأساسية لهذه النقلة فيما انطوت عليه هذه الحملة من
(1) انظر: الشرق الإسلامى في العصر الحديث للأستاذ/ حسين مؤنس: 73 - 76.
إرساء لخطوط صراع جديدة تستجيب لاحتياجات أهداف استراتيجية، الغرض منها تفكيك توازنات الدولة العثمانية (1).
وهذا التحول في السياسة الخارجية الأوربية قد أدى بدوره إلى انقلاب وضعى خطير، تحولت به الدولة العثمانية من خط الهجوم إلى خط الدفاع كما انتقل العالم الأوربى إلى موقع الهجوم. وقد حدثت أثناء الدفاع تحولات كبيرة في الواقع المصرى كان من أهمها:
ولاية محمد على: فعلى أثر تلك الحملة الفرنسية التي استهدفت تقويض أمن البلاد حضرت قوة ألبانية تم تجميعها في إطار الجيش العثمانى لمعاونة الجيش المقاوم، وقد كان في مقدمتها الشاب الألبانى محمد على الذي استطاع في خلال فترة زمنية قصيرة أن يحوز على إعجاب قائده، والذي قام بترقيته إلى أن صار الرجل الثاني في هذه القوة، ولما كان يتمتع به من طموح وقوة وشجاعة ودراية فقد دخل في سلسلة من التحالفات والحروب مع العثمانيين والمماليك.
فقد أظهر محمد على منذ بداية حضوره على مسرح السياسة في مصر قدرة عالية على استيعاب دهادارة الصراع مع كافة القوى التي تحتل خارطة السلطة، مظهرًا بذلك ما يمتلكه من خبرة كبيرة في استخدام أساليب وتقنيات العمل السياسى السلطوى.
ولكن هذه الميزة الأساسية في شخصية محمد على لم تكن كافية في تمكينه من السيطرة على الحكم لولا توفر مقتضيات أساسية ساهمت مساهمة كبيرة في تمكينه من ذلك - بعد مشيئة الله - وقد تمثلت في الكتلة الشعبية التي كان يقودها السيد عمر مكرم، وإليها يعود الفضل - بعد الله - في توفير الشروط الأساسية التي أمنت لمحمد على مصادر القوة السياسية والشرعية التي تمكنه من التغلب على كافة القوى المناوئة له بحلول عام: 1808 م (2).
(1) دولة محمد على والغرب، حسن الضيقة:105.
(2)
دولة محمد على: 142.
ويحكى الجبرتى (1) قصة توليه الحكم، وكيف أنه كان بتأهيل الرعية له، وركب الجميع - الأهلى - وذهبوا إلى محمد على وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكمًا علينا، ولا بد من عزله من الولاية، فقال: ومن تزيدونه يكون واليًا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك، وتكون واليًا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير، فامتنع أولًا ثم رضى، وأحضروا له كركًا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر، والشيخ الشرقاوى فألبساه له، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة (2).
هذا وقد قادت تلك الحملة الفرنسية حملة أخرى من بلد أوربى آخر، فكانت: الحملة الإنجليزية على مصر في فبراير سنة: 1807 م، فقد توجهت حملة شرسة من قبل انجلترا بقيادة الجنرال "فريزر" وتعود أسباب هذه الحملة إلى انتقاض المعاهدات السياسية بين انجلترا وتركيا، فقد استاءت أشد الاستياء لانحياز تركيا إلى جانب فرنسا، فساءت العلاقات بين الدولتين حتى انتهت بإعلان الحرب بينهما.
وصلت مصر أنباء هذه الحملة الإنجليزية قبل مقدمها إليها، وذلك عبر الرسائل الواردة من الأستانة، فأخذ الشعب المصرى بالاستعداد لمقاومتها، وتولى القيام بشؤون هذه المقاومة السيد عمر مكرم، فكان نعم الزعيم الشجاع الحازم.
ومن جهة أخرى فقد أخذ محمد على يعد العدة للزحف على الاسكندرية وتخليصها من الإنجليز؛ حتى مقدم رسول الجنرال الإنجليزى الذي حمل له رسالة من أميره يطلب فيها المفاوضة في الصلح على أن يجلو الجيش عن الإسكندرية، وأبرمت على أثر ذلك معاهدة تقضى بخروج الجنود الإنجليز عن الإسكندرية في مقابل إعادة أسراهم وجرحاهم، وذلك بعد عدد من المعارك والحروب الضارية التي
(1) هو عبد الرحمن بن الحسن بن إبراهيم بن حسين بن على بن محمد بن عبد الرحمن الجبرتى الزيلعي العقيلى المصرى الحنفى المؤرخ، ولد بالقاهرة وتعلم بالجامع الأزهر، كان من كتبة الديران في عهد نابليون، توفى مخنوقًا في رمضان: 1237 هـ.
(2)
عجائب الآثار: (3/ 63).