الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: إن المعرفة الضرورية فيها، أو قيل: إنها تحصل بأسباب كالأدلة التي تنتظم في النفس من غير أن يسمع كلام مستدل، فإن النفس بفطرتها قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما لا يحتاج معه إلى كلام أحد، فإن كل مولود يولد على هذه الفطرة؛ لزم أن يكون المقتضى للمعرفة حاصلًا لكل مولود، وهو المطلوب". (1)
وبذلك يتضح المنهج الربانى، في الاستدلال على وجوده سبحانه، بعيدًا عن التعقيد والغموض، صريحًا واضحًا قريبًا من النفس البشرية، حيث يخاطب فيها تلك الحقائق التي غرست بداخلها، فما إن تتنبه لها إلا وتدرك ببديهة فطرتها ذلك الشعور الذي يدلها على الخالق سبحانه: ربًا خالقًا، لا أحد يستحق العبادة سواه.
وبسبب بعد المتكلمين عن تصور هذه الحقيقة، ولما التزموه من أصول فاسدة في وجوب الاستناد إلى العقل للدلالة على أصول الإيمان، واعتقاد عدم كفاية الأدلة الشرعية في ذلك؛ نجد أن الطرق التي سلكوها في الاستدلال على وجود الله تعالى قد بنيت على تصورات فلسفية لا حقيقة لها، يكتنفها الكثير من الغموض والتعقيد، حتى خرجت بها في كثير من الأحيان عن المقصود، هذا إلى جانب ما انبنى عليها من أمور مبتدعة، أثرت على صفاء المعتقد فيما يجب في حق لله تعالى، أو يمتنع عليه فصارت عمدة المتكلمين في هذا الباب عددًا من الأدلة المبتدعة لا أساس لها من الشرع وهى كالتالى:
1 -
دليل حدوث الأجسام
.
2 -
دليل الوجوب والإمكان.
دليل حدوث الأجسام
يعد هذا الدليل عند عامة المتكلمين من الأصول اليقينية التي لا يتم إيمان المرء إلا باعتقاد دلالته على وجود الباري جل وعلا؛ إذ لا يتمكن - عندهم - من إثبات الصانع إلا به، وكان أول من ابتدع هذا الطريق المعتزلة، وقد صرح بذلك شيخ
(1) الدرء: (8/ 446، 447).
الإسلام حيث قال: "والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك"(1) ولشيخ الإسلام كلام يرجع فيه هذا الدليل إلى الجهم بن صفوان (2). (3)
وقد أرجع القاضي أولية الاستدلال به لأبي الهذيل من شيوخ المعتزلة. (4)
ويقوم هذا الدليل على أربع دعائم تجتمع في اعتقاد أن الأجسام لا تخلو من الحوادث وهى: الاجتماع، والافتراق، والحركة، والسكون، وعدم انفصال الجسم عنها، يعني أنه حادث مثلها. (5) وتكون كالتالى على جهة التفصيل:
1 -
أن في الأجسام معانٍ هي: الاجتماع، والافتراق، والحركة والسكون، وبيان ذلك: أن اجتماع الجسم بعد أن كان متفرقًا يحتاج إلى مخصص؛ وما كان كذلك فهو محدث، وأيضا يقال ذلك في السكون بعد الحركة، ومثله يقال في الافتراق، ودلالته أقرب، فإن الذي نراه من الأجسام إنما يكون بعد اجتماعها، والافتراق يكون بعد الاجتماع، إذًا فالافتراق دلالته على حدوث الأجسام من أقوى الأدلة.
2 -
أن هذه المعانى محدثة. وتحرير هذه الدعوى إثبات أن هذه أعراض (6) والأعراض حادثة والدليل على حدوثها أنه يجوز عليها العدم فيمتنع عنها القدم ولا توسط في ذلك.
3 -
أن أي جسم من الأجسام لا يخلو من الأعراض، فالجسم إما متحرك وإما
(1) الدرء: (8/ 98، 99).
(2)
هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبى الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الإيمان معرفة الله فقط، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان: الفرق بين الفرق: 221.
(3)
انظر: منهاج السنة النبوية: (8/ 5).
(4)
شرح الأصول الخمسة: (95).
(5)
مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوى:(1/ 398).
(6)
العرض: [هو الموجود في شيء غير متقوم به لا كجزء منه، بل ولا يصح قوامة دون ما هو فيه]: المباحث المشرقية، [أو ما لا يقوم بنفسه وإنما يحتاج إلى جسم يقوم به، مثل الطعومات والمشمومات والمبصرات والألوان والحركات] الرازي: (1/ 138). وانظر: المواقف للإيجى: 96.
ساكن، والحركة والسكون أعراض، والدليل على عرضيتها كما سبق، أنه يجوز فناؤها، فتذهب الحركة مثلًا ويحل السكون، والعكس بالعكس، فإثبات حلول هذه المعانى في الجسم يعتمد على مبدأ الإدراك الحسى، الذي يميز الأجسام المتحركة من الساكنة، والمجتمعة من المتفرقة.
4 -
أنها إذا لم يخلو الجسم منها، وجب حدوثه مثلها؛ لأن حظ هذه المعانى في الوجود الحدوث، وارتباط الجسم بها يعني عدم إمكان انفكاكه عنها؛ لذلك وجب أن يكون حادثًا مثلها. (1)
وبهذا يرى القاضي عبد الجبار أنه تمكن من إثبات حدوث العالم، ليثبت بذلك احتياجه لمحدث أحدثه، ويستخدم طريق السبر والتقسيم لإثبات ذلك، فيقول:"لا يخلو: إما أن تكون قد أحدثت نفسها، أو أحدثها غيرها"، ويبرهن على فساد الفرض الأول، بأن الفاعل يجب أن يكون متقدمًا على فعله، فاستحال بذلك أن تحدث الأجسام نفسها؛ لأنه يلزم من ذلك اتصافها بالقدرة حال عدمها.
بقى الفرض الثاني وهو إثبات محدث لها، وجب أن يكون مخالفًا لها، لاستحالة إيجاد الحادث للحادث، يقول:"فلم يبق إلا الفرض الثاني: وهو أن يكون الذي أحدثها فاعل مخالف لها، وهو الله تعالى الذي ليس كمثله شيء". (2)
وقد تابع الأشعرية من تقدمهم من الفرق في ابتداع هذا الأصل، وجعله سبيلًا إلى معرفة الله تعالى، كما هو مقرر في الكثير من كتب الأشاعرة. (3)
ومع إجماعهم على أهمية الدليل وحصول المطلوب به، إلا أن طرق عرضهم لهذا الدليل تختلف، ولكن لا يخرجها هذا الاختلاف عن المقصود، وحيث ينبنى هذا الدليل على مقدمتين هما:
1 -
العالم حادث.
2 -
وكل حادث له محدث.
(1) شرح الأصول الخمسة: 95، 97، 99، 104، 105، 107، 111.
(2)
المرجع السابق: 119.
(3)
انظر: المواقف للإيجى: 245.