الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتارة بالمنام". (1)
ويفصل القول في النوعين الأخيرين، فيضرب مثالًا لما يقع للأنبياء من الوحي عن طريق المنام، مؤيدًا ذلك بما ورد، يقول:"فـ (رؤيا الأنبياء وحي) (2)، وذلك لما وقع للخليل حين أمر بذبح ولده في المنام (3)، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أنه يدخل مكة فصدق الله رؤياه (4) ".
أما الإلهام، فيعرفه بأنه "الإلقاء في القلوب، لا بواسطة ملك".
وفي بيان مجالاته بالنسبة للمكلفين، يرى أنه مما لا يختص بالرسل، فـ "قد يقع الإلهام - أيضًا - لغير الأنبياء، كالأولياء".
وهذا التعميم لا يعني - عنده - أنه من جنس واحد، بل إلهام الأنبياء مغاير لإلهام الأولياء، يقول:"غير أن إلهام الأولياء لا مانع من اختلاط الشيطان به؛ لأنهم غير معصومين بخلاف الأنبياء، فإلهامهم محفوظ منه"(5)
* * *
تعليق:
إن هذه الآية الكريمة لتعد نصًا جامعًا لكل أقسام الوحي الذي يتعلق بالبشر، حيث بينت أن الوحي ما يكون بلا واسطة ملك ومن وراء حجاب.
ومنه ما يكون بالإلهام، فيكون الوحي هنا مستعملًا بمعناه اللغوي.
ومنه ما يكون بواسطة ملك يبلغ الكلام إلى المرسل إليه، فلا يخرج عن هذه الأقسام نوع من الوحي (6)
(1) حاشية الخريدة: 20.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: كتاب الوضوء - باب التخفيف من الوضوء، رقم الحديث:138.
(3)
وذلك في قوله تعالى حاكيًا مقولة إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} .
(4)
(5)
حاشية الجلالين: (4/ 42).
(6)
انظر: ما نقله الإمام ابن تيمية عن الإمام الزهري في الفتاوى: (12/ 397).
وعليه فإن هذه الآية الكريمة شملت حتى غير الأنبياء ممن أوحى إليهم وحي إلهام، كأم موسى عليهما السلام (1)، والحواريين، وغيرهم من أهل الصلاح، فتكون بذلك مبينة لأقسام الوحي المتعلق بالبشر بمعناه الكلي العام وقد أشار الإمام ابن تيمية لهذا كما تقدم.
أما المعنى الخاص أو ما يسمى بالمعنى الشرعي، وهو الذي يغلب استعمال الوحي فيه فهو ما يلقى إلى الأنبياء خاصة، وقد عرفه الصاوي بأنه: الإرسال من الله لعبده بالأحكام.
ومن أجمع ما عرف الوحي به في الاصطلاح تعريف الإمام ابن حجر رحمه الله والذي قاربه فيه الصاوي، حيث قال:"الوحي شرعًا: الإعلام بالشرع، وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه؛ أي الموحى، وهو كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم"(2)
فكانت كلمة الشرع قيدًا، خرج بها ما يلقى لغير الأنبياء بطريق الإلهام، لأنه لا تشريع فيه ولا أحكام.
ومع إمكان اشتمال الإلهام على الحكم التشريعي (3) إلا أنه لا يصح استقلاله بالدلالة عليه، بمعنى: أن لا يكون أصلًا له من حيث التشريع والحجية، ويجوز أن يكون موافقًا لما ورد مسبقًا من الأحكام التشريعية في الكتاب والسنة، فيفيد بذلك التأكيد والثبات، دون التأصيل والاستقلال.
(1) هذا على القول الراجح، وانظر: مبحث العلاقة بين الرسول والنبي: 402.
(2)
فتح الباري: (1/ 9).
(3)
وذلك في مثل ما وقع للصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - من سماع الأذان في المنام قبل تشريعه، فقد أخرج أبو داود في سننه عن أبي عبد الله بن زيد أن رسول الله قد أمره بالضرب في الناقوس للإعلام بالصلاة فرأى في المنام من يعلمه كلمات الأذان مرشدًا إياه أن هذا خير مما كان يفعل ليؤذن الناس بالصلاة، فذهب ذلك الصحابي إلى رسول الله ليعلمه بالرؤيا فمعه عمر بن الخطاب وأخبر بحصول ذلك له فأقر المصطفى صلى الله عليه وسلم ما كان في رؤيتهما وشرع الأذان لإعلان الناس بوقت الصلاة، انظر: كتاب الصلاة - باب كيف الأذان، رقم الحديث: 500: (1/ 387). صححه الألباني في صحيح أبي داود وقال: حسن صحيح، برقم: 469: (1/ 98) وغيرها من الأحداث ولكن لم يكن لذلك المنام أن يستفاد منه حكمًا شرعيًا لولا إقرار النبي له وإعلامه إياهم أنها رؤيا صالحة.
يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله مبينًا هذا الأصل في حجية الإلهام من غير الأنبياء: "المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به".
وبهذا يتبين الفرق بين الإلهام الذي يكون للأنبياء، وبين ما يمكن أن يقع لغيرهم، حيث بين الصاوي أن إلهام الأنبياء معصوم فلا يمكن أن يداخله وهم أو وسوسة، أما إلهام غيرهم فليس له عصمة من ذلك بل يجوز عليه تلك الأحوال.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر إلا بشرط ألا تخرم حكمًا شرعيًا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال ووهم، وإما من إلقاء الشيطان"(1)
وذلك لأن المولى تعالى إنما تعبدنا بكلام النبي المرسل، وجعل لذلك المعجزات والأدلة النيرات، وحماه بالعصمة من المضلات، فلو احتج بالإلهام لانفتح باب ليس له مرصاد، ولخالف ما تعبدنا به المولى من اتباع النبي والتأسي به في كل حال، وتحريم التقديم بين يديه.
فكانت هذه الشروط التي استفيدت من أدلة الكتاب والسنة حتى تتحقق حقيقة الحفظ للدين المنزل، والتي نص عليها الكتاب العزيز بقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
* * *
(1) الموافقات، للشاطبي:(2/ 266). وقد قدمت الحديث عن هذه المسألة في مبحث المعرفة فليطالع، كما أنصح بالرجوع إلى كتاب المعرفة في الإسلام لشيخنا الفاضل: عبد الله القرني: 72.