الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول ابن عربي الغالي: "الفناء: رؤية العبد للعلة بقيام الله على ذلك، والبقاء: رؤية العبد قيام الله على كل شيء". (1)
ولمقام الفناء أحوال، حيث يكون الصوفي فيه عرضة للشطح، ويعرف الشطح بأنه:"عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى"(2).
والصوفية إزاء هذه الشطحات على صنفين، فصنف لا يرى موافقة قائلها، ويقوم بتبرير فعله، حيث سلب منه الشعور، ونطق به لسان حاله؛ فلا يمكن الوقوف على كنه ما ينطق به، إلا بالترقى إلى ما وصل إليه. (3)
وصنف آخر؛ يرون أنها عين الحقيقة، فلا يجدون فيها ما يشين، وهم في التصريح بهذا على درجات، فقد يقرون بها ولكن مع تأويل لظاهرها، بحيث يخفف من حدة خروجها على الشرع.
هذا والعناصر الضرورية لوجود ظاهرة الشطح؛ كالتالي: "شدة الوجد، أن تكون التجربة تجربة اتحاد، أن يكون الصوفي في حال سكر، أن يتم هذا كله والصوفي في حال من عدم الشعور". (4)
الجمع والفرق:
أما عن بقية المقامات، كالجمع والفرق وجمع الجمع، والفرق الثاني فقد تتداخل معانيها مع مقام الفناء والبقاء؛ إلا أنه قد يعبر عنها بصورة أكثر عمقًا، يقول الكاشاني في معنى الجمع: "شهود الحق بلا خلق.
وجمع الجمع: شهود الخلق قائمًا بالحق، ويسمى الفرق بعد الجمع" (5).
يقول ابن عربي في الجمع: هو الاستهلاك بالكلية في الله.
(1) رسائل ابن عربي: 532.
(2)
رسائل ابن عربي: 530.
(3)
انظر: الرسالة القشيرية: 71.
(4)
شطحات الصوفية، عبد الرحمن بدوي:(11).
(5)
اصطلاحات الصوفية: 62.
أما الفرق الأول: فهو الاحتجاب بالخلق عن الحق، وبقاء الرسوم الخلقية بحالها، ويقول ابن عربى: هو إشارة إلى خلق بلا حق، وقيل مشاهدة العبودية. (1)
الفرق الثاني: هو شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة من غير احتجاب صاحبه بأحدهما عن الآخر. (2)
وهو بهذا المعنى يصرح بوحدة الوجود، التي تبلورت فكرتها على يده.
ويعرف المناوي هذه المقامات، فيقول: الجمع "إشارة إلى حق بلا خلق، وقيل: لمشاهدة العبودية، وقيل: الفرق ما نسب لك والجمع ما سلب عنك. . . .
- وجمع الجمع: مقام أتم وأعلى من الجمع، فالجمع شهود الأشياء بالله، والتبرى من الحول والقوة، وجمع الجمع: الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله، وهو المرتبة الأحدية". (3)
وفي بيان هذه المرتبة، يقول الجرجاني:"الأحدية إذا أخذت حقيقة الوجود بشرط ألا يكون معها شيء، فهي المرتبة المستهلكة جميع الأسماء والصفات، فهي تسمى جمع الجمع"(4).
ومن هنا فإن غاية هذه المقامات المتتالية؛ الوصول إلى مرتبة الفناء التام، بحيث لا تبقى حقيقة إلا حقيقة الوجود، وهذا تصريح بأن غاية الفكر الصوفي: وحدة الوجود، والصوفية في تحقيق هذه الرتبة على اختلاف؛ فمنهم من يرجعها إلى ما فسرها به ابن عربي، ومنهم من يرى التخفيف، فيبقى الشهود أقصى ما يراد.
ويأتي التعبير عن بلوغ السالك أقصى هذه المقامات بالوصل، أو وصل الوصل، فـ:"الواصل - عندهم - من اتصل بمحبوبه دون كل شيء سواه، وغاب عن كل شيء سواه". (5)
(1) رسائل ابن عربي: 532.
(2)
اصطلاحات الصوفية: 146.
(3)
التعاريف: 252.
(4)
التعريفات: 109 - 110.
(5)
انظر: طبقات الصوفية للسلمي: 462.
وكأنه أعمق ما يراد من معاني الفناء، الذي به تتحقق الولاية عندهم.
ويرى الصوفية أن السالك قد يتعرض في مقامه لأنواع من الأحوال، منها السكر والصحو وغير ذلك، ومع إمكان التجوز، إلا أن غالب الصوفية على عدها من الأحوال، يقول القشيري:"الصحو: رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة، والسكر غيبة بوارد قوي" ويرى الفرق بينهما في أن صاحب السكر قد يكون فيه نوع من الإحساس؛ بخلاف الغيبة، وذلك في حال عدم استيفاء الوارد، وقد يفوق حال صاحب السكر الغيبة مع قوة الوارد.
وأن السكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد، فعندما يكاشف العبد يحصل له السكر والطرب. (1)
- رأي الشيخ الصاوي:
عند تتبع أقوال الصاوي في مسألة المقامات من خلال مؤلفاته المتعددة؛ يجد الباحث إعراضًا عن كثير من المقامات، التي كانت محل اهتمام الصوفية بل وإجماعهم، فالصاوى عند بيانه لأقسام المقامات لم يذكر التوبة والشكر والرضا والصبر وغير ذلك، وقد اقتصر في حديثه عنها على ما يتعلق بمعرفة الله وتوحيده بالمفهوم الصوفي، فالفناء والبقاء والجمع والفرق ونحو ذلك كان محل اهتمامه، حيث اعتمدها مفصلًا ما يتعلق بها من أحكام بالشرح والتوضيح، ولعل لهذا المسلك من الصاوي أسبابًا نبه إليها في بدء حديثه عن التصوف، وذلك لأنه عند ذكر مبادئ هذا العلم عمد إلى القول بأن نسبته فرع علم التوحيد، وقد سبقت الإشارة إلى أن مفهوم التوحيد عند الأشاعرة والصوفية يعني؛ معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
ومن هنا كان اهتمامه جليًا في تفصيل هذه المقامات، وتوضيحها للمريد، بل والذب عنها، والتأصيل لها، وسيأتي تفصيل كلٍّ فيما خصص له.
(1) انظر: الرسالة القشيرية: 71.
وإذا كانت الإشارة قد سبقت إلى أن المصطلحات الصوفية بعامة؛ تستند في التعبير عنها إلى مفاهيم ذوقية، تبعد كل البعد عن المقاييس والاعتبارات العلمية، لذا فهي تميل إلى وصف حالة شعورية أكثر من أن تحدد ماهيتها أو تفصح عن حقيقتها، فإن هذا ما يؤكده الصاوي، حيث يقول:"البقاء بالله، والفناء في الله، أخلاق ذوقية، لا تعلم إلا بالذوق، والعبارة عنهما لا تفيد شيئًا".
ومع هذا فإننا نجد عبارات كثيرة من الصاوي؛ تحاول تقريب هذه المصطلحات إلى ذهن القارئ، ولعل كتابه المسمى بشرح الصلوات الدرديرية هو الذي نعتمده في هذا المقام، حيث التفصيل والتوضيح للكثير من هذه المصطلحات ولكن دون أن يشير إلى الفرق بين المقام والحال، وهو بهذا قد يتجوز في العبارة؛ فيتكلم عن المقام بلفظ الحال أو العكس.
يقول مفصلًا القول في عدد المقامات والمراد من كل واحد منها؛ حسب الفهم الصوفي، وذلك في شرحه لواحدة من الصلوات المبتدعة:
" المقامات ثلاثة:
- مقام المحجوبين السائرين إلى الله، المستدلين بالصنعة على الصانع.
- مقام أهل الفناء المحض، الذين غرقوا في توحيد الأحدية، فلم يشهدوا سوى ذات الله تعالى.
ولما كان هذا المقام مقام سكر، وخروج عن طور البشرية، وعن حدة التكليف، قال - في صلاته -: وانشلنى من أوحال التوحيد.
- "مقام أهل البقاء بعد الفناء: وهم الذين يشهدون الصنعة بوجود الصانع؛ لكونهم شهدوا قبل كل شيء ذات مولاهم وصفاته وأسمائه".
ويسمى هذه المرتبة بالوحدة، ويرى أن من بلغها فقد بلغ منابع الصدق مع الله في عبادته، يقول: "فالعارف يرى الله قبل الآثار، ويستدل بالله على ثبوت الآثار، والمحجوب يرى الآثار قبل شهود الله؛ فيستدل بالآثار على الله.
وقد علمت أن من غرق في عين بحر الوحدة؛ يكون باقيًا بالله ولا بد، لا بنفسه ولا بشيء سوى الله، لأنه يرى الأكوان كظل الشخص" (1).
وبهذا المعنى الذي فسر به المقام المسمى بالبقاء، والذي عبر عنه بشهود الذات متصفة بالأسماء والصفات؛ فإنه يفسر المعتقد الصوفي الفلسفي المسمى بوحدة الوجود:
يقول: "وهذا المقام يسمى: بوحدة الوجود، ولا يدركه الشخص إلا بعد الفناء في الأحدية، ووحدة الوجود هذه يسمى صاحبها: في مقام البقاء، ويسمى غرقان في بحر الوحدة، التي هي شهود المولى من حيث قيام الأسماء والصفات به (2).
وكان لهذا المقام تسمية خاصة عند الصوفية، تكشف عن حقيقة الأحكام المتعلقة بهذه المرتبة، هي: حضرة الإطلاق، فليس بمخفى ما تنطوى عليه هذه التسمية من إباحة الخروج عن كل القيود، يقول في شرح إحدى الصيغ المبتدعة:[وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة تدخلنا بها حضرة الإطلاق]: "أي حضرة هي الإطلاق، أي من قيد الأقفاص، أي من الطبائع الجسمانية؛ بأن يخرج العبد من أسر الطبيعة، ومن سائر الحجب الظلمانية والنورانية؛ فيصير حرًا لخروجه عن شوائب الرقية، وهذا معنى قول صاحب السحر: "اللهم إنك فتحت أقفال قلوب أهل الاختصاص، وخلصتهم من قيد الأقفاص، فخلص سرائرنا من التعلق بملاحظة سواك، وافننا عن شهود أنفسنا؛ حتى لا نشهد إلا إياك"، لأن مراده بالأقفاص الأجسام، وقيدها طبائعها، وهي الحجب النفسانية: ظلمانية أو نورانية.
وقد أشار لهذا المعنى محمد بن وفا (3)، بقوله:
وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا
…
فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر".
(1) المرجع السابق: 67.
(2)
المرجع السابق: 67. وسيأتي موقفه من هذا المعتقد في مبحث مستقل: 737.
(3)
هو محمد وفا، أحد كبار الصوفية نقل عنه كلام إن صح عزوه له فهر في غاية التجنى وسوء الأدب مع الله تعالى، له كتاب العروس وكتاب الشعائر، من مواليد القرن الثامن: طبقات الشعراني: (2/ 314).
فصاحب هذا الوصف يقال له في اصطلاح القوم: في "حضرة الإطلاق" ويقال له: من الأحرار؛ "لكونه طلوقًا من طبائعه، ومن كل ما سوى مولاه، باقٍ بربه لا يشهد إلا علاه"(1).
ومرة أخرى يعرض لبيان هذه المقامات؛ ولكن في حالة خاصة، وهي حالة الاستغراق مع الذكر، يقول:"الله الله الله كرره ثلاثًا، إشارة إلى أن المراتب ثلاثة: توحيد الأفعال، والصفات، والذات، فإذا قال: الله، شاهد أفعاله في خلقه، وإذا قالها ثانيًا: شاهد الصفات، فيشاهد أن الله متصف بكل كمال، وإذا قالها ثلاثًا: ارتقى لمشاهدة الذات، فيشهدها بدون الصفات، وهي مرتبة أهل الفناء، أو مع الصفات والأفعال، وهذه مرتبة أهل البقاء"(2).
ويقول في حال الاستغراق مع الذكر الصوفي المعروف (الله): "إن من داوم على ذكره في خلوة مجردًا، بأن يقول: الله الله؛ حتى يغلب عليه منه حال، شاهد عجائب الملكوت، يقول بإذن الله للشيء كن فيكون، وهو ذكر الأكابر من المولهين وأرباب المقامات، وأهل الكشف التام"(3).
* * *
ولم تكن هذه المقامات الثلاثة؛ هي منتهى المقامات المعروفة عند الصوفية، وهذا ما فصل الصاوي القول به عند شرحه لبيت الدردير في منظومته:
وجد لي بجمع الجمع فضلًا ومنة
…
وداوى بوصل الوصل روحي من الضنا.
يقول معربًا القول في معاني هذه الكلمات، التي سألها الدردير في دعائه:
"اعلم أن لهم مقامًا يقال له: الفناء.
ومقامًا يقال له: البقاء، والجمع والفرق.
(1) حاشية الصلوات: 91.
(2)
المرجع السابق: 38.
(3)
المرجع السابق: 110.
ومقامًا يقال له: جمع الجمع.
ومقامًا يقال له: الفرق الثاني.
ومقامًا يقال له: الوصل.
ومقامًا يقال له: وصل الوصل".
وبعد هذا التقسيم المجمل يشرع في بيان حقيقة هذه المقامات بما يماثل ما تقدم من أقواله، وبذلك في المقامين الأولين، ولكنه يزيد في إيضاح سبب تسمية مقام البقاء بالجمع والفرق، فيقول: "ومشاهد الوحدة مشاهد للذات متصفة بالأسماء والصفات مثبتًا للآثار، جامعًا بين الحق والخلق، وهذا هو الكمال بعينه، فلذلك قالوا: لا بد لكل فناء من بقاء، ومقام البقاء هذا هو المسمى بالجمع والفرق، فجمعه شهود لربه، وفرقه شهود لصنعه.
أما عن المقامات التالية لهذا المقام؛ فكلامه في توضيحها وبيان ما يختص بها من أحكام هو التالى:
"أما الجمع: فهو مقام أعلى من البقاء، وهو أن يأخذه الحق بعد بقائه، فيسكره في شهود ذاته تعالى، فيصير مستهلكًا بالكلية عما سوى الله تعالى، فمنهم من يبقى بهذه السكرة إلى الموت كالسيد البدوي (1)، ولذلك قال العارفون: إنه جذب جذبة استغرقه إلى الأبد، ومنهم من يرد إلى الصحو عند أوقات الفرائض، والقيام بأمور الخلق، كالسيد الدسوقي (2) وأضرابه والمؤلف؛ فيكون رجوعًا لله بالله، لا للعبد بالعبد".
(1) هو أبو العباس أحمد البدوي ولد بمدينة فاس بالمغرب، انتقلت أسرته إلى مكة المكرمة وعاش فيها زمنًا ثم انتقل إلى العراق ومصر واستقر في طنطا، نسب إلى الصوفية الكثير من الغرائب والعجائب، حكى عنه أنه أصيب بحالة وله فاضطربت لذلك أحواله ولم يستقر له أمر حتى مات سنة ستمائة للهجرة وقبره من أكبر المزارات التي يقصدها الكثير من الناس بأنواع البدع والشركيات، انظر: طبقات الشعراني: (1/ 310).
(2)
هو إبراهيم الدسوقي القرشي، أحد كبار الصوفية وصاحب طريقة معروفة، نسب إليه الكثير من أوهام الصوفية وخرافاتهم، قيل عنه أنه كان يدعى التحكم في أبواب الجنة والنار بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نسبت له أبيات في غاية الخطورة لما تحمله من معاني الفناء الوجودي، منها: =
ومن هذا الرجوع يأتي بيان المقام الذي يليه وهو الفرق الثاني، يقول: "وهذا الرجوع يسمى بالفرق الثاني.
وأما الوصل؛ فهو تلذذ القلب بشهود الحق بعد زوال الحجب الظلمانية والنورانية. فإن دام له الشهود يقال له: وصل الوصل، أي الوصل الكامل، كقولهم: سر السر، وعين العين، مبالغة في كمال الشيء". (1)
* * *
المناقشة:
إن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته الحسنى، وبكماله المنزه عن المثيل والشريك؛ حقيقة فطرية أقامها المولى في قلب كل العباد، يوم أخذ الميثاق عليهم، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
فالفطرة السليمة لا تدل على مجرد معرفة الله تعالى، أو الإقرار بوجوده؛ بل إن ذلك الإقرار ليتضمن من الإيمان بحقائق الكمال ما يعجز المنصف عن إنكاره؛ إذ حقيقة الإقرار بوجود الله تعالى تعني الإيمان بربوبيته، والربوبية هي اعتقاد تفرد الرب تعالى بكل صفات الغنى والقوة والكمال والإحاطة والصمدية، وكل ما يقتضى قيامه تعالى بأفعال الربوبية، ولم تكن هذه الحقيقة بمكان ينازع فيه العقلاء؛ حتى أن كفار قريش عندما أنكر عليهم الباري عبادتهم غير الله بالسؤال عن خالقهم؛ لم يملكوا سوى الإقرار بربوبيته تعالى.
كما أن الالتجاء إلى الله تعالى في البأساء والضراء مما غرس إرادته في النفس
= أنا ذلك القطب المبارك أمره
…
فإن مدار الكل من حول ذروتي
أنا شمس إشراق العقول ولم أفل
…
ولا غبت إلا عن قلوب عمية
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة
…
أجدد فيها حلة بعد حلة
توفى سنة: 676 هـ. انظر: طبقات الشعراني: (1/ 308).
(1)
شرح المنظومة: 141.
البشرية، حتى إذا خلصت من الأهواء والشهوات لمكان نزول الضر، الذي استقر في صميمها أن دفعه لا يكون إلا من جهة الرب، سكنت بكليتها لهذا النداء الفطري، واتجهت برفع الأيدي؛ لتترجم مقتضى هذه الفطرة، بكلمات تضم صراحة أعلى درجات الإيمان بالله تعالى، والإقرار بكمال ربوبيته وجلاله وعظمته، ولهذا أشار الحق بقوله:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
ومن هنا كان الاستدلال بالخلق على الخالق تعالى؛ هو من قبيل الكشف عن هذه الحقيقة الفطرية المغروسة في النفس البشرية، ومن ثم تنبيهها إذا أصابتها الغفلة أو علاها النسيان، ولهذا امتدح المولى تعالى عباده الذين يتفكرون في عظيم مخلوقاته؛ إذ يتحقق بذلك استشعار عظمة الله تعالى، ومن ثم إخلاص العبادة له على وجه يتم به تحقيق مقتضى الإيمان من التسليم لمراضى الرب تعالى، وعلى هذا فليس الاستدلال بالخلق على الحق سبحانه هو مقام المحجوبين؛ كما يدعي الصاوي، بل حقيقة هذا الاستدلال إن صح إطلاق ذلك المسمى عليه؛ ترتيب مقدمات ضرورية فطرية، تسلم أيضًا إلى نتيجة فطرية، فكون هذه الموجودات مخلوقة؛ فمن الأمور الفطرية، التي لم يمارى فيها من لم تدنسه أوهام الفلسفات، وكونها مخلوقة لله تعالى فهي أيضًا من الأمور الفطرية، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25].
* * *
- وقبل الخوض في مسألة المقامات التي اعتمدها الصاوي، لا بد أولًا من توجيه الألباب إلى أن كل هذه المصطلحات من البدع الحادثة، التي لم تصل إلينا بطريق معتمد، يتحقق به التشريع والتعبد، ولكن لما اشتهر الحديث عنها بين الصوفية على طبقاتهم المختلفة؛ فكان منهم أهل تقوى وورع وعلم، وكان منهم من هو بخلاف ذلك، ممن تستر بهذه التسمية ليدخل على الإسلام والمسلمين أشد أنواع الفتن في الدين، عمد أهل التحقيق بدافع الورع والإنصاف إلى تحليل هذه المفاهيم الذوقية،
وعرضها على منهج السلف الكرام، فقبلوا ما كان موافقًا لذلك منها، وردوا ما خالف وخرج عن النهج القويم، تمامًا كما اجتهدوا في النصح لدين الله تعالى في مواجهة ما أحدثه المتكلمون من استخدام ألفاظ مبتدعة، كالجوهر والعرض والتحيز والجهة، إلى غير ذلك مما أقاموا عليه صرح مواقفهم الكلامية في بناء العقيدة على أسس ليس لها من الإسلام مستمد، فكانوا كمن رفع بنيانه على شفا جرف هار لم يتمالك أمام معاول النصح الصادق لدين الله تعالى، فانهار على أم رأسه، وبقى الحق موقوفًا على ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة.
ومن هنا قام أهل العلم؛ بدافع الإنصاف والتحقيق إلى سبر أغوار هذه المصطلحات، وعرضها على النهج القويم، فقبلوا منها ما استقام معناه وردوا ما أجحف وضل وغاب عن الحق، ليس من باب التسليم بصحة ما ذهب إليه أولئك، وإنما من باب إقامة الحجة، ورد الباطل، والدفاع عن العقيدة الصحيحة، مع الالتزام بآداب الجدال الصحيح، الذي تقوم أركانه على الاعتدال والتوسط مع رد المتشابه إلى المحكم؛ تمسكًا بحقيقة الحكمة التي أنيط بتحقيقها صدق الدعوة إلى الله تعالى.
فالفناء والبقاء والجمع والفرق والصحو والمحو والسكر والوجد، كلها مصطلحات غريبة المبنى والمعنى، لا يمكن أن تعتمد في بناء العقيدة، وهي معرفة الله تعالى وتوحيده والإيمان به، ويتضح هذا إذا علم على جهة اليقين بأن أعظم رسالة للأنبياء والرسل كانت في بناء هذه العقيدة في قلوب الناس، فكيف يغفل خيرة خلق الله تعالى وأبرهم قلوبًا وأصدقهم إيمانًا، أولئك الذين اختارهم الله ليكونوا ترجمانًا حيًا لما أوحاه الله إليهم يصدق بكل ما جاءوا به من عند الله تعالى، كيف يغفل أولئك الأخيار عن هداية الناس لمثل هذه المقامات، التي أناط الصوفية بتحقيقها نيل درجة الولاية: أسمى أماني العبد، الذي يريد أن يكون من أهل هذه البشرى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
ولكل الذي تقدم؛ فإن كل ما سيأتي بيانه وتفصيله في ثنايا دراسة هذه المقامات
تحليلًا وعرضًا ونقدًا، فإنما يستمد من طريقة أولئك العلماء؛ نصحًا لدين الله تعالى، واستجابة لداعى الإنصاف والعدل.
* * *
أولًا: تعريف الفناء:
لما كان الفناء هو أول المقامات الآنفة الذكر، وكان بمثابة البوابة التي دخل منها أهل التصوف إلى درجات الترقى في سلم الوصول إلى الولاية؛ كما اعتقدوا بغير سلطان آتاهم، صح أن أبدأ الحديث به.
فإن ما ادعاه الصاوي من أن مقام الكمل في التوحيد هو مقام الفناء، حيث لا يشهد العبد سوى ذات الله تعالى، فليس بمسلم له، فإن تفصيل القول فيه كما يلي: أن للفناء أقسام بعضه مقبول، بل عليه مدار التوحيد، وهو الفناء عن عبادة السوى.
وبعضه مردود؛ باعتبار ما فيه من الابتداع، الذي قد يؤدى بصاحبه إلى بوابة الإلحاد، وهو الفناء عن شهود السوى، وغايته تعمق في توحيد الربوبية، وشهود للقدر.
وبعضه كفر بواح، مناقض للدين بالكلية، وهو الفناء عن وجود السوى، فليس ثمة موجود إلا الله، وهذا ما حكاه ابن عربي وأمثاله من الملاحدة.
ولكن لما كانت هذه المصطلحات؛ كما هو واضح من التقسيم السابق، محل اشتباه وإيهام؛ فقد حذر من الاغترار بها العلماء، "فإن الفناء والبقاء من ترهات الصوفية، دخل من بابه كل إلحادي وكل زنديق، وأراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات، وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضًا، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات، ورؤيتها والإقبال عليها، وتعظيم خالقها"(1).
وأدع تفصيل القول فيما يقبل منه وما يرد - إنصافًا وتحقيقًا - لشيخ الإسلام
(1) سير أعلام النبلاء: (15/ 393).
- رحمه الله؛ فقد أتم بيان ذلك، حيث يقول:"الفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود "السوى"، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة "السوى":
فالأول؛ هو فناء أهل الوحدة الملاحدة؛ كما فسروا به كلام الحلاج، وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا.
وأما الثاني؛ هو الفناء عن شهود السوى، فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين؛ كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله، وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن رجلًا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في الماء؛ فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ ، فقال: غبت بك عنى، فظننت أنك أنى، فهذا حال من عجز عن شهود شيء من المخلوقات؛ إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين، ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه، وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع بهذا الاعتبار لم يكن محمودًا على هذا، ولكن قد يكون معذورًا.
وأما النوع الثالث؛ وهو الفناء عن عبادة السوى، فهذا حال النبيين وأتباعهم وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم، ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطى إلا لله، ولا يمنع إلا لله فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه". (1)
(1) مجموع الفتاوى: (2/ 313 - 314).
وعليه فإن كل ما أتى الصوفية به في مقام الفناء عن شهود السوى؛ إنما هو من قبيل تقرير المسلمات، والاستدلال لليقينيات، وجعل غاية الطلب في تقرير أمر قد سلم له الكثير من المشركين، والكفرة المارقين، "وهذا الموضع وقع فيه من الشيوخ الكبار من شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهؤلاء غاية توحيدهم هو توحيد المشركين، الذين كانوا يعبدون الأصنام، الذين قال الله عنهم: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89] "(1)
أحكام الفناء:
أما عن الأحوال التي قد تعترض صاحب هذا المقام من الذهول والخروج عن طور التكليف؛ كما بين الصاوي، حتى سوغ لصاحبه هذا المقال الشنيع، وهو قوله: انشلنى من أوحال التوحيد، الذي صار ذكر أكابر المولهين من أصحاب الطرق الصوفية المتأخرة، لمن الأمور التي يعلم بطلانها بالضرورة من دين الإسلام، وهذه المقولة وأمثالها من شطحات الصوفية قد فصل العلماء في بيان حكم قائلها بما يقطع عدم إرادتها من جهة الشرع، فليس يخرج قائلها عن قولها: إما بعمد، أو غلبة حال.
فإن كان الأول؛ فهو كافر مارق، وهذا من ألفاظ الردة؛ لأن فيها استهزاء بالدين، ووصفًا للب الدين، وحقيقة العبودية؛ بما يستقذر منه.
وأما إن قالها عن غلبة حال؛ فهو معذور لزوال عقله، ومن هنا فليس حاله حال كمال، بل هو حال نقص، لأن زوال العقل مما لا مدح فيه.
وإن كان زوال عقله بقصد وتعمد فهو آثم؛ لأنه سلك غير سبيل المؤمنين، التي
(1) مجموع الفتاوى: (8/ 101).
كان عليها الصحابة - رضوان الله عليهم - في طلب القرب من المولى تعالى، وإن كان قد وصل إلى ما وصل بلا تعمد؛ كحال بعض المجانين، الذين عظم شأنهم الصوفية فهؤلاء معذورون، والإثم يلحق بمن عظم كلامهم حال اصطلامهم، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"فمثل هذه الحال التي يزول فيها تمييزه بين الرب والعبد، وبين المأمور والمحظور، ليست علمًا ولا حقًا، بل غايته أنه نقص عقله، الذي يفرق به بين هذا وهذا، وغايته أن يعذر، لا أن يكون قوله تحقيقًا". (1)
ولا شك أن هذا كله من كيد الشيطان، يقول الإمام ابن القيم في بيان ما لبس عليهم من وحيه وكذبه:"ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقًا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن، فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق، والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم، والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول؛ نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له، فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات". (2)
ثانيًا: تعريف البقاء:
أما عن حقيقة البقاء الشرعية، فإذا كان الفناء عن إرادة السوى هو حقيقة التوحيد، وغاية الإخلاص لله تعالى، وهو المراد من أنواع الفناء، الذي اجتهد في تحصيلها العباد؛ فما هو البقاء الشرعي المقابل لذلك الفناء، الذي يدعيه أهل البدع والضلالات؟ إن البقاء المحمود؛ كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله، هو ما كان عليه سلف الأمة، وهو البقاء في مراضى الرب تعالى، كما قال - عليه الصلاة
(1) المرجع السابق: (8/ 313).
(2)
إغاثة اللهفان: 119.