الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي الشيخ الصاوي:
لما كان بلوغ هذه المقامات من أسمى مقاصد الصوفية في تحقيق التوحيد، وكان الصاوي من تابعي التأصيل لهذه المراتب من جهة الشرع، أخذ في الاستدلال لتلك المقامات بالحديث القدسي المعروف، يقول: "فأشار في الحديث إلى مقام السائرين بقوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل).
وإلى مقام الفناء المحض بقوله: (حتى أحبه).
وإلى مقام البقاء بقوله: (فإذا أحببته كنت سمعه)، ومعناه كنت مشهودًا قبل سمعه ومسموعه، وبصره ومبصره، ويده وبطشها، ورجله ومشيها، لكونه يشهدني قبل كل شيء، وهذه آثارى لا ترى له إلا بعد شهودي، وهو معنى قول بعض العارفين:
تلك آثارنا تدل علينا
…
فانظروا بعدنا إلى الآثار
ويسترسل في توضيح هذه المفاهيم من هذا البيت، فيقول: "فقوله: تلك آثارنا، أمرنا بالسير لمن يستدل بالصنعة على الصانع.
وقوله: فانظروا بعدنا، أي؛ بعد الفناء فينا بسيركم إلينا إلى الآثار، أي؛ فاشهدوا آثارنا بعد شهودنا، وهذا مقام البقاء". (1)
وهو مع استناده إلى الأحاديث في التأصيل لهذه المقامات؛ فإنه أيضًا يستمد لتشريعها من حياة الأبرار بدءً بسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء - صلى الله عليهم وسلم تسليما كثيرًا -، وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين -، يقول: "وتارة تضاف حضرة الإطلاق إلى الله تعالى، يقال: حضرة الله حضرة الإطلاق، معناه الفناء المطلق، والكمال المطلق، والتعزز المطلق، وهذا أيضًا يشهده العارفون، فإذا شهده العارف ذاب من خشية الله، وخاف حتى من أعماله الصالحة،
(1) حاشية الصلوات: 36 - 37.
وهو الذي قال فيه صاحب ورد السحر: إلهي إني أخاف أن تعذبني بأفضل أعمالي، فكيف لا أخاف من عقابك بأسوأ أعمالي.
وقال عمر بن الخطاب: ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتني كبشًا فسمنني أهلي وأكلوني. (1)
ومن شهودها: جثو الأنبياء على الركب يوم القيامة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود وأخواتها (2) " (3)
كما يستدل لمقام الفناء والبقاء بحال إبراهيم عليه السلام على جهة الخصوص، فيقول عن قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]: "قول إبراهيم رب اجعل هذا البلد. . . إلخ يقتضى أن دأبه الدعاء، وما ورد من قوله حين ألقى في النار: حسبي من سؤالي علمه بحالي، يقتضي أنه لم يكن دأبه الدعاء، فما السر في ذلك؟ .
أجيب؛ بأنه كان في زمن إلقائه في النار في مقام الفناء والسكر، وهو الغيبة عن شهود الخلق بشهود الحق، فلا يشهد أثرًا، وفي زمن دعائه في مقام البقاء وجمع الجمع وهو البقاء بالله بمعنى شهود الآثار بعد شهود مؤثرها، فمقامه في حال دعائه أعلى وأجل من مقامه في حال تركه له، ولا يقاس بمقامات الأنبياء مقام، بل بدايتهم أعلى وأجل من نهاية غيرهم، فالأولياء وإن عظموا لا يصلون لأدنى رتب الأنبياء، وأما قول أبي الحسن الشاذلي: وأقرب مني بقدرتك قربًا تمحق به عني كل حجاب محقته عن إبراهيم خليلك، فمعناه قربًا يليق بى؛ لا كقرب الخليل، فقد طلب من الله أن يذيقه قطرة من بحار تجلياته، التي تجلى بها على الخليل فأسكره، فلم يشهد شيئًا سواه" (4)
(1) أخرج بنحوه ابن أبي شيبة في مصنفه: كلام عمر رضي الله عنه، رقم الحديث: 40: (8/ 153).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه: كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الواقعة، رقم الحديث: 3297، وقال حديث حسن:(5/ 375). وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم: 2627: (3/ 113).
(3)
المرجع السابق: 91.
(4)
حاشية الجلالين: (2/ 276).