الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثاني): الإيمان بالرسل والأنبياء
إنه مما يجب الإيمان به الإيمان بالرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وقد ذكرت في بدء الحديث عددًا من الأدلة التي يرتكز عليها هذا الأصل الإيمانى العظيم، ومع ذلك فإنه يفصل في كيفية الإيمان بهم؛ تمامًا كصفة الإيمان بالكتب والملائكة، فثبوت مبدأ الإيمان في حقهم جميعًا يقضى بعدم التفريق بينهم، لأن الكفر بواحد منهم يعني الكفر بالجميع؛ فالكل رسل من عند المولى تعالى، قد ثبتت أدلة نبوتهم بالدليل القاطع الذي لا يمكن رده أو تأويله.
أما ما يقتضيه الإيمان بهم أو ما يستلزمه هو ما يصح فيه التفصيل والبيان، فليس الإيمان بالرسل السابقين كالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى إنما تعبدنا بالاقتداء به في مبانى العبادات دون غيره من الرسل؛ حيث كانت شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع المنزلة على الأنبياء من قبل.
ومن جهة أخرى، فإنه لا بد من التزام عدد من القواعد التي دلت عليها أدلة الكتاب والسنة، فإنه يجب اعتقاد حصول التفاضل بينهم، فليس اتفاقهم في الرسالة يعني تساويهم في الرتبة من حيث الأفضلية، فلا بد من اعتقاد أن محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم، ويليه أولو العزم من الرسل، وفى مقدمتهم الخليل إبراهيم عليه السلام، وبعد ذلك سائر الرسل والأنبياء - صلى الله عليهم وسلم -:
قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]
هذا ويقوم الإيمان بهم جميعًا على أسس وقواعد لا يصح الإيمان إلا بتحققها
في معتقد العبد، ومن تلك القواعد التي قام عليها الإيمان بهم: اعتقاد أن نبوتهم هي محض فضل من الله تبارك وتعالى وإصطفاء.
كما أن معرفتهم بما اتصفوا به من جميل الفعال، وكريم الخلال، في إطار المقدور البشرى، وما اختصوا به من مهام الدعوة كالبشارة والنذارة والتبليغ، وما يقتضيه ذلك من اتصافهم بالعصمة في التشريع، لتندرج في ضمن تلك الأسس التي يجب العلم بها، وحديث القرآن في هذا الباب واسع، والأدلة على هذا كثيرة:
ففى اعتقاد قيامهم بشؤون الدعوة من النذارة والبشارة، قوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
أما عن الأدلة التي تضمنت بيان ما اتصفوا به فهى على نوعين، منها ما يبين صفاتهم البشرية التي لا تخرجهم عن كونهم من جنس البشر؛ حتى لا يؤدى الانبهار بعظيم ما اتخصوا به إلى اعتقاد مغايرتهم لجنس البشر، ومنها ما يظهر تميزهم عن سائر البشر، دون أن يؤثر في أصل انتمائهم إليهم (1)، وهذا مما يقتضيه قيامهم بشؤون الرسالة.
ففى تقرير بشريتهم، قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: 7، 8]).
(1) وهذا ما يسمى بالمقسم في علم المنطق، يعني أنه يفيد إظهار قسم من أقسام الأفراد الذين يندرجون تحت نوع واحد ببيان ما اختصوا به من صفات.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
أما الأدلة في بيان عظيم ما تصفوا من الصدق والأمانة والصبر والحلم فكثيرة جدًا، وغالبًا ما تأتى في بيان ما تصف به آحادهم، كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليهم أجمعين -، منها قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54].
وقوله تعالى في وصف موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
وكل ذلك مما تضافرت النصوص الشرعية في الدلالة عليه، يقول العلامة السعدى مجملًا تلك الأسس العظيمة: "وهذا الأصل - أي الإيمان بالأنبياء عليهم السلام مبناه على أن يعترف ويعتقد بأن جميع الأنبياء قد اختصهم الله بوحيه وإرساله، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ شرعه ودينه، وأن الله أيدهم بالبراهين الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به، وأنهم أكمل الخلق علمًا وعملًا، وأصدقهم وأبرهم، وأكملهم أخلاقًا وأعمالًا، وأن الله خصهم بخصائص، وفضلهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد.
وأن الله برأهم من كل خلق دنئ، وأنهم معصومون في كل ما يبلغونه عن الله، وأنه لا يستقر في خبرهم وتبليغهم إلا الحق والصواب، وأنه يجب الإيمان بهم وبكل ما أتوه من الله، ومحبتهم وتعظيمهم" (1)
ولكل ما تقدم فالكلام في هذا المبحث سيدور في بيان صفاتهم ووظائفهم وما يجب في حقهم، والآن مع:
* * *
(1) الفتاوى السعدية: 14.