الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثانية: العلم مع مراقبة الله، ويسمى عين يقين.
الثالثة: العلم مع المشاهدة، ويسمى حق يقين" (1).
* * *
المناقشة:
لقد سلك الإمام ابن حزم مسالك عدة في دحض شبه المتكلمين حول مسألة التقليد، وكان من أبرازها بيانًا: الاستدلال بوجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من وجبت متابعته لا يعد تقليده ذمًا، بل لا يطلق عليه مسمى التقليد، يقول:"التقليد أخذ المرء قول. من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا باتباعه وأخذ قوله، بل حرم علينا ذلك، وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليدًا، بل إيمان وتصديق، واتباع للحق، وطاعة الله ورسوله. . . . ."(2) إلى أن قال: "والقرآن إنما ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل، وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه، لم يذم من اتبعه أصلًا". (3)
وأما كلامه في دحض حجتهم بأن العلم لا يأتى إلا بطريق البرهان. والتقليد ادعاء لا دليل معه، فإنه يرجع إلى بيان طرق تحصيل العلم، وعدم اقتصاره على طريق النظر والبرهان حيث بين - رحمه الله تعالى - أن العلم هو "اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، وكل من اعتقد شيئًا على ما هو به ولم يتخالجه فيه شك فهو سالم به، وسواء كان عن ضرورة حس، أو عن بديهة عقل، أو عن برهان استدلال، أو عن تيسير الله عز وجل له، وخلقه لذلك المعتقد في قلبه"(4). فمن كان دليله على معرفة الله فطرته أو إلهام وهداية لم يطالب بالبرهان.
(1) المرجع السابق: (4/ 85).
(2)
الفصل: (3/ 36).
(3)
انظر: المرجع السابق: (3/ 37).
(4)
المرجع السابق: (3/ 40).
وقد استدل - رحمه الله تعالى - بحال جمهرة المسلمين الذين لا يعرفون علم الكلام، ومنهم أئمة أعلام وأصحاب حديث، وكيف أن الله تعالى قد حبب إليهم الأيمان وزينه في قلوبهم، حيث يرجع ذلك الميل وتلك المحبة إلى الفطرة التي جبلهم الله تعالى عليها ابتداءً، يقول: "قد سمى الله عز وجل راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم، وكره إليهم الكفر والمعاصى، فضلًا منه ونعمة.
وهذا هو خلق الله تعالى الإيمان في قلوبهم ابتداءً، وعلى ألسنتهم، ولم يذكر الله في ذلك استدلالًا أصلًا، وبالله التوفيق" ويؤكد هذه الحقيقة الإيمانية التي امتزجت بها أرواحهم، "وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم، محققون في قلوبهم، أن آباءهم لو كفروا لما كفروا هم، بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم". (1)
ومع ذلك فإنه رحمه الله لم يغفل جانب النظر وأهميته، بل أكد على وجوبه لمن يحتاج إلى ذلك؛ إما بسبب شبهات عرضت له لا يمكن ردها إلا بطريق النظر، أو لكونه من الكفار الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا بالإتيان بالبرهان وقد سبق لي عرض هذه المسألة بشيء من التفصيل، وبذلك يتبين وهن الأساس الذي بنى عليه المتكلمون رأيهم في مسألة التقليد.
وبهذا الذي تقدم من بيان الموقف الحق تجاه التقليد في باب الإيمان تظهر مخالفة الشيخ الصاوى لعقيدة السلف في إيجابه النظر وتأثيمه من تركه والحكم عليه بالعصيان، وقد سبق أن النظر لا يجب إلا على بعض الأعيان وفى بعض الأحيان ولكنه مع تأثيمه إياه فقد أصاب في إقراره بصحة إيمان المقلد الذي امتلأ قلبه إيمانًا.
كما حاد عن الصواب حين أقر أدلة المتكلمين، وجعلها طريقًا ثابتًا لمعرفة الله تعالى كما يجب (2)، يقول الإمام الشوكانى: "ومن أمعن النظر في أحوال العوام
(1) الفصل: (3/ 38).
(2)
وهذه المسألة يزيد وضوحها عند عرضها في المبحث التالى.
وجدها صحيحة، فإن كثيرًا منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسى، ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام، المشتغلين به الخائضين في معقولاته، التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقص إيمانه وينقص منه عروة، فإن أدركته الألطاف الربانية نجا، وإلا هلك، ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن يكون على دين العجائز، ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له اطلاع على أخبار الناس". (1)
* * *
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: 266.