الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقشة:
يشترط في الدليل حتى يتم به الوصول إلى المطلوب، أن يكون واضحًا بينًا، حتى لا يصعب فهم مقدماته، وبالتالى يتحقق المراد منه، وأن لا يستند في إحدى مقدماته إلى تقارير وضعية (1)، لا يستقيم المعنى المراد منها لعاقل، فيرد عليها المنع - طلب الدليل - ولا قوة فيها لدفعه، وإذا تيقن ذلك، وعلم احتياج الدليل للوضوح والبرهان، بأن ضعف دليل الحدوث وعدم كفايته في الاستدلال على وجود الله تعالى؛ حيث تعتمد مقدمتاه في إثبات حدوث العالم على مقدمات هي أكثر خفاء منها، وقد عبر عنها بمصطلحات فلسفية دخيلة، أكثرها من المجمل الذي يشمل حقًا وباطلًا، وهذه المقدمات هي: تقسيم العالم إلى جواهر وأعراض، وأن العرض حادث، وهو قائم بالجوهر، وما قام به الحادث فهو حادث، يقول شيخ الإسلام في بيان خفائها:"طريقة أثبتوا فيها الجلى بالخفى، وأرادوا إيضاح الواضح". (2)
وتفصيل القول فيها كالتالى:
- أما تقسيم العالم إلى جواهر وأعراض، وأن الجوهر هو الجزء الذي لا يتجزأ، فهذا افتراض لم يثبت له دليل، وقد أثبت العلم الحديث بطلانه بإمكان انقسام الذرة وهى أصغر جزء في الأجسام، وأنها بهذا الانقسام تتحول إلى طاقة هائلة تسمى عند المتكلمين بالعرض.
وقد توصل شيخ الإسلام إلى مفهوم التحول عند التناهى قبل مئات السنين، وإن كان في المثال الذي قام بضربه قصور؛ أظهره العلم الحديث، حيث علم أن تحول الماء إلى الهواء من العمليات الفيزيائية التي لا تؤثر في تركيب المادة الكيميائى وهذه العملية تسمى بالتبخر، فالماء المكون من معادلة H 2 O: ذرتان هيدروجين وذرة أكسجين، لا يغيرها تغير مادته بإحدى العمليات الفيزيائية المعروفة وهى
(1) أي اصطلاحية تكلفية.
(2)
الدرء: (1/ 8).
التبخر، والتكثف، والتجمد، والانصهار (1)، ولكن لا يمنع ذلك من صحة ما توصل إليه به في ذلك الزمن، يقول في معرض نقضه لهذه النظرية:"لأن الموجود إن قيل: إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى، وإن قيل: إنه يقبلها بالفعل، فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفنى، كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء، وإذا استحالت عند تناهى صغرها، لم يلزم أن تكون باقية قابلة لانقسامات لا تتناهى، ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى". (2)
وأما كلامهم في أن الجواهر الفردة لا تخلو من الأعراض فغير مسلم؛ لان الجوهر الفرد لا يرى بالعين المجردة، فثبت أنها دعوى لا برهان عليها.
والصحيح أن الأجسام لا تخلو من الأعراض وهى الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ولكن اختلاف المتكلمين في قابلية جميع الاجسام للحركة والسكون جعل الاستدلال بهما محل نظر، مع أن الاستدلال بهما بدهى؛ لانه لا يخلو أي جسم من سكون أو حركة؛ لعدم إمكان اجتماعهما أو ارتفاعهما في آنٍ واحد، فصار الاستدلال المجمع عليه ما كان مثبتًا بحصول الاجتماع والافتراق، لكن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بإثبات أن الجسم مركب من أجزاء تنتهى بالجوهر الفرد، فعاد نقض الدليل إلى إبطال هذه النظرية، وقد تقدم. (3)
- وأما الحكم على الأعراض بالحدوث، فإنهم يستدلون لذلك بالمشاهد منها، فقد ثبت تعاقب الأعراض على الجواهر ومما يدل على حدوثها، وينفى عنها القدم (4) ثم يقيسون ما غاب منها على المشاهد، حتى يصلوا إلى تعميم الحكم بحدوث الأعراض.
(1) انظر: المرجع في الكيمياء، سعيد بالبيد:10. وانظر: سلسلة المساعد الكيميائية، سعيد بالبيد: 7.
(2)
الدرء: (9/ 78): انظر: النبوات: 86.
(3)
انظر: بيان تلبيس الجهمية: (1/ 281). والدرء: (2/ 191).
(4)
انظر: الإرشاد للجوينى: 24.
- وقد ضعف ابن رشد (1) هذا القياس بأنه لو صح الحكم على الغائب استدلالًا بحال الشاهد، لما احتيج إلى إثبات حدوث الأجسام بطريق الأعراض، إذ المشاهد من الأجسام بين الحدوث، ولكان إثبات حدوث ما غاب عنا منها بقياسه على المشاهد أصح، ولأمكن الاستغناء عن الاستدلال بحدوث الأعراض، والصحيح أنه لا يصح الاستناد إليه إلا عند التيقن من استواء طبيعة الشاهد بالغائب، يقول:"فتؤول أدلتهم على حدوث. جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب، وهو دليل خطابى إلا حيث النقلة معقولة بنفسها، وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب"(2)
- وأما الحكم على ما لا يخلو من الحوادث بالحدوث، فهو العمدة في إثبات حدوث العالم، والأصل الذي أعتمد عليه أهل الكلام في ترجيح تأويلاتهم المبتدعة، حيث نزهوا الله تعالى عن حلول الحوادث فيه، فنفوا بذلك الكثير من الصفات المثبتة في القرآن والسنة.
وللسلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - توجيهات لهذا الأصل، حيث يعد من الأمور المشبهة التي تشتمل على حق وباطل، لذلك احتاج الكلام فيه إلى تفصيل وإيضاح؛ ليستبن المراد منه فيؤخذ بذلك الحكم الذي يناسبه.
فقد يراد بما لا يخلو من الحوادث: أنه لا يخلو من حادث بعينه، فهذا معلوم ببداهة العقول أنه حادث مثله.
وبيانه أن ما لا يخلو من الحوادث لا يمكن له سبقها؛ لأنه إن كان سابقًا لها كان
(1) هو محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكى أبو الوليد، فقيه أصولى، اشتغل بالفلسفة وحاول التلفيق بينها ولبين الشريعة حتى كان ذلك سببًا لتكفير العلماء له واتهامهم له بالزندقة، له عدد من المصنفات في الفقه والأصول وعلم الكلام والفلسفة، توفى بقرطبة في ذى القعدة سنة:520. انظر: شذرات الذهب: (4/ 62) وشجرة النور الزكية: 129، ومعجم المؤلفين: (7/ 228).
(2)
الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد: 109. وتجدر هنا الإشارة إلى أن طعن ابن رشد في منهج قياس الغائب على الشاهد في إثبات حدوث الأجسام الفلكية باطل، لأنه قد ثبت بالبرهان استواء طبيعة سائر الأجسام في كونها حادثة، وسيأتي تفصيل ذلك.
خاليًا منها، ولامتنع الحكم عليه بعدم خلوه من الحوادث، وإذا علم امتناع سبقه لها مع عدم خلوه منها، بقى أن يكون وجوده مقارنًا لها أو بعدها، وحدوثه في كلا الحالتين ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
وأما الاحتمال الثاني الذي يرد عليه: أن الذي لا يخلو من جنس الحوادث حادث - أي الحوادث المتعاقبة التي لا ابتداء لها - فهذا هو محل النزاع، والذي لا يسلم أهل السنة والجماعة للمتكلمين به، وعليه مدار إثبات أفعال الله الاختيارية المتعلقة بالإرادة كالكلام والغضب والضحك وغير ذلك، يقول شيخ الإسلام:"وأما ما لا يسبق جنس الحوادث، وهو ما قدر أنه لم يزل يقارنه حادث بعد حادث وهلم جرًا، كما أنه يقارنه حادث بعد حادث، وفانٍ بعد فانٍ في الأبد، فيقدر ليس متقدمًا على جنس الحوادث، ولا متأخرًا عن جنس الحوادث والفانيات؛ فهذا محل نزاع نازعهم فيه جمهور الناس من أهل الملل والفلاسفة القائلين بحدوث العالم". (1)
ولما علم بطلان تعميم الحكم بالحدوث على كل ما لا تخلو منه الحوادث استنادًا إلى وجود حوادث لا أول لها، أقدم متأخروا المتكلمين على نفى إمكان حوادث لا ابتداء لها، ووضعوا برهان التطبيق؛ ليحتجوا به على هذه المقولة. (2)
لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تتمكن من إثبات حوادث لا أول لها؛ لأن ما تستند إليه من دليل التطبيق باطل ممتنع "وملخص ذلك أن ما لا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان، وفرض حد بعد ذلك كزمن الهجرة، وقدر امتداد هذين إلى ما لا نهاية، فإن تساويا لزم أن يكون الزائد مثل الناقص، وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى"(3)
وقد بين شيخ الإسلام امتناعه من عدة أوجه:
1 -
أنه لا يمكن التطبيق مع وجود التفاضل، كما في المثال.
(1) الدرء: (8/ 238).
(2)
انظر: المرجع السابق: (1/ 8) و (9/ 87).
(3)
المرجع السابق: (1/ 304). وانظر على سبيل المثال: لمع الأدلة للجوينى: 90، والمواقف للإيجى:246.
2 -
أن التفاضل حاصل من الجهة المتناهية لا الثانية.
3 -
أن التطبيق يصح في الموجود لا المعدوم.
ثم إن هذه المقدمة تلزمهم بلوازم ممتنعة مما يدل على فسادها؛ إذ بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، ومن ذلك أن المقدمة الثانية "كل حادث لا بد له محدث" التي تعد من المسلمات المعلوم صدقها بالضرورة لم يسلم للمتكلمين إثباتها وفق هذا الأصل المبتدع الذي استندوا إليه في إثبات أن العالم حادث، حيث لزمهم في إثبات هذا المحدث أن لا يكون حادثًا ولا قديمًا، أما الحادث فلا يمكن لامتناع التسلسل. (1) أو الدور القبلى (2) بين الفاعلين، وقد أقروا بذلك.
وأما القديم فلا يصح إثباتهم له؛ لأنه إما أن يكون فعله قديمًا، ويمتنع عدم فعله لأن في ذلك نقصًا ينافى الكمال، وعلى ذلك لا بد أن تكون المفعولات هي أيضًا أزلية؛ لأن كل فعل أنتج مفعولًا لا بد أن يتعلق به مفعوله، وهذا ما يبطله مشاهدة حدوث المفعولات. فلم يبق إلا أن يكون الفعل الذي تعلقت به الحوادث حادثًا، فنتج بذلك فعل حادث عن فاعل قديم، وهذا ما لا يقرون به وفقًا لأصلهم الفاسد.
ومن جهة أخرى فإن كون الفاعل يفعل مرة دون مرة، دل على اتصافه بصفة رجحت الفعل على الترك، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وهو محال؛ لأن المقدر تساويهما بالنسبة للفاعل، فترجيح إحداهما على الأخرى دل على وجود علة رجحت الحدوث على العدم، ولا يصح نسبة هذا الترجيح للإرادة القديمة، كما يدعى المتكلمون.
وقد كان هذا القول منهم مدعاة للفلاسفة للتبجح بمذهبهم الباطل في قدم
(1) والمقصود من التسلسل هنا أن يفتقر المحدث إلى محدث ويمر الأمر إلى غير نهاية.
(2)
الدور القبلى هنا: أن يتوقف وجود المحدث على محدث وبالعكس، يكون كل منهما باعتباره علة متقدمًا وباعتباره معلولًا متأخرًا.، فيلزم اجتماع النقيضين انظر: ابن تيمية السلفى: 7، د. محمد خليل هراس.
المفعولات؛ معللين ذلك بأن حدوثها يلزم منه حدوث فاعلها، لاحتياجها إلى مرجح حادث يقوم به، كما أدى ذلك إلى الطعن في أصل إثبات المتكلمين القدم للمحدث - كما بينت - والزامهم بلوازم أصلهم الفاسد.
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله بطلان مذهبهم، يقول: "وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم، يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث.
ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة، لم يتجدد فيه شيء أزلًا وأبدًا ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه كان ذلك ترجيحًا بلا مرجح". (1)
ثم بين رحمه الله أن الطريق الأسلم في هذا ما كان مستمدًا من الكتاب والسنة، وهو إثبات إرادة حادثة تقوم بالقديم يكون بها الترجيح، ولا يلزم منها حدوث ما قامت به. وبذلك تنتقى حجة الفلاسفة في إبطال مسلك المتكلمين في إثبات محدث قديم مفعولاته حادثة. (2)
- ويبقى الرد على أولئك المعارضين من الفلاسفة (3) بأنه إذا أمكن تعاقب حوادث لا أول لها بالأفلاك مع وصفها بالقدم؛ فلم لا يمكن قيام أفعال اختيارية بالقديم يكون بها حدوث الحوادث، ولا تمنع وصفه بالقدم؟ (4).
هذا إلى جانب ما يلزمهم في نفى قيام الحوادث بالقديم من إثبات حدوث كل الحوادث بلا سبب ولا ذات متصفة بصفات كمال. (5)
وبكل ما تقدم بان ضعف الدليل حيث بنى على مقدمات واهية، نتج عنها انحراف خطير التزمه المتكلمون في اعتقاد ما يجب في حق الله تعالى.
(1) الدرء: (8/ 107).
(2)
منهاج السنة النبوية: (1/ 425، 426).
(3)
كابن رشد وأمثاله.
(4)
انظر: شرح العقيدة الأصفهانية: 71.
(5)
انظر: الدرء: (1/ 371).