الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتدبيره لشؤون خلقه، وهذا ما دل عليه صراحة قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، ثم إن أفعال العباد متعلقة بقدرة الله تعالى النافذة في كل ما هو ممكن، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
الثاني: الإيمان التام بحقيقة الشرع الذي أثبته المولى تعالى لنفسه في محكم التنزيل، والإيمان بما يقتضيه الإقرار به من التكليف، وما يستلزمه من صحة نسبة القدرة على الفعل للعبد، بل وتأثيرها فيه على جهة الحقيقة، وذلك ضمن دائرة السببية، قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2].
أدلة القدرية والجبرية:
وتجدر الإشارة إلى أن الشبهة التي اعتمدها كلا الفريقين: القدرية والجبرية واحدة، وهى عدم إمكان وجود فعل بقدرتين، فالتزمته المعتزلة، وأرجعت الفعل إلى قدرة العبد على جهة الاستقلال؛ استنادًا إلى الضرورة العقلية، التي تشهد بأن الفعل صادر عن إرادة الإنسان، يقول القاضي عبد الجبار:"إن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققًا وإما مقدرًا، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجب ذلك فيها؛ لأن هذه الطريقة تثبت احتياج الشيء إلى غيره، كما يعلم احتياج المتحرك إلى الحركة والساكن إلى السكون، وهذه هي الدلالة المعتمدة"(1).
وهذا كما هو صريح من جانب الرد التقعيدى الإيجابى، أما من جهة السلب أو الإلزام؛ كما يعبر عنه، فيعتقد أن في نسبة الفعل إلى الرب تعالى ما ينسب إليه القبيح من الظلم المنافى لإرادة الحكمة والعدل (2).
ويعتقد إلى جانب هذا أن في القول بخلق الأفعال طعنًا في جانب التكليف، المتمثل بإرسال الرسل، وإنزال الكتب بما فيها من أوامر ونواهٍ؛ حتى يؤدى ذلك إلى نسبة العبث المنافى لتمام الحكمة والعدل للرب تعالى (3).
(1) شرح الأصول الخمسة: 337. وانظر: المحيط بالتكليف: 340.
(2)
انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار: 345. وقد شق مناقشة قضية الظلم فلتراجع: 578.
(3)
مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوى:334. وانظر: المحيط بالتكليف: 348.
وكذلك الأشعرية التزمت نفس الشبهة في منع صدور الفعل بقدرتين وقادرين، ولكن مع اختلاف في النتيجة؛ حيث أثبتت وجود القدرة الحادثة في العبد، ولكن دون أن يكون لها أدنى أثر في إحداث الفعل، فالفعل فعل الله تعالى، وقدرة العبد ما هي إلا سبب اقترانى يوجد الفعل عنده لا به، وكان هذا هو مذهب الأشعري وعليه بنى النظرية المعروفة بالكسب
هذا والمذهب الأشعري الممثل بكبار منظريه؛ قد حصل فيه اضطراب في حقيقة الكسب، وذلك أن القاعدة التي أسسها الأشعري لتصور علاقة الإنسان بأفعاله لم تكن مستساغة لدى جميع من سار على نهجه (1).
وعلى الرغم من هذه المحاولات العديدة من الأشاعرة في رفض الجبر عقيدة ومذهبًا، وإضفاء نوع من الواقعية لفكرة الكسب؛ حتى تبعده عن مذهب الجبر، إلا أن الرازي وهو العالم بخفايا المذهب، الواقف على أغوار مراميه، يتفطن إلى أن المراد بالكسب تقرير مذهب الجبر، ويدعم موقفه هذا بالأدلة التي يرى فيها تأييدًا لما ذهب إليه؛ فيستدل على أمرين ليصل بنتيجتيهما إلى ما يريد من تقرير الجبر: خلق أفعال العباد بدليل الإمكان؛ إذ لا تخرج عن كونها إما ممكنة، أو واجبة. ولما استحال وجوبها؛ إذ لا يرجح وجودها على عدمه إلا بمرجح، لم يبق إلا كونها ممكنة؛ بمعنى مخلوقة" (2).
وقد يعارض موقف الرازي من حقيقة الكسب بموقف آخر لواحد من كبار منظرى المذهب الأشعري، ذلكم هو الإمام الجويني؛ حيث رد على من نفى التأثير مطلقًا من جهة الجد، وأرجع حقيقة الكسب إلى السببية؛ فأثبت بهذا لقدرة العبد أثرًا في الفعل على جهة السببية، ودون الاستقلال (3).
* * *
(1) الإنصاف للباقلاني: 46.
(2)
المباحث المشرقية للرازي: (2/ 544).
(3)
شفاء العليل: 212.