الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الأول): مفهوم التصوف
- يعرف الصاوي التصوف، كما هو في اصطلاح الصوفية بأنه "علم بأصول، يعرف به إصلاح القلب وسائر الحواس، فبذلك تصلح الأعضاء لما في الحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب) (1) ".
وفي بيان أصله اللغوى، يقول:"والتصوف مأخوذ من الصفا، أي خلص باطنه من الشهوات، وصفاه، فعومل بالصفا، فمن أجل ذلك سمى الصوفى"(2).
هذا ويعضد الصاوي ما تقرر لديه من كون التصوف علم: بذكر المبادئ التي يقوم عليها، كأى علم آخر معتد به، يقول:
"وغاية هذا العلم: صلاح القلب.
وموضوعه: الأخلاق المحمدية، وهى أوامر القرآن ونواهيه، لما ورد عن عائشة أنها حين سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، قالت:(كان خلقه القرآن).
واضعه: هم العارفون الآخذون عن النبي بالسند المتصل.
نسبته: أنه فرع علم التوحيد.
استمداده: من الكتاب والسنة.
اسمه: علم التصوف.
حكمه: الوجوب.
مسائله: قضاياه التي يبحث فيها عن عوارضه الذاتية: كالفناء والبقاء والمراقبة والمشاهدة والجلال والجمال" (3).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان - باب فضل من استبرأ لدينه، رقم الحديث:52.
(2)
حاشية الجوهرة: 69.
(3)
حاشية الخريدة: 76.
- وبناءً على ما سبق فإنه يعرف الصوفية: بأنهم "هم أهل الباطن الذين اشتغلوا بعلم السر والتصوف".
ويضرب لذلك مثالًا، فيقول:"كاشتغال الجنيد (1) وأضرابه بعلم السر والتصوف، ومعرفة شروطه وآدابه".
ويسند مشروعيته إلى التأسي بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما هو واضح في بيانه لمبادئ هذا العلم -، فيقول:"لأنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم علم الظاهر والباطن". (2)
* * *
المناقشة:
أولًا: حقيقة التعريف:
من الملاحظ في تعريف الصاوي للتصوف أنه يحكم عليه بكونه علم من العلوم المستمدة من الكتاب والسنة، ويؤكد ذلك بتأصيله من مصادر الإسلام الأساسية، حيث يستند في تقرير مشروعية الالتزام بآداب التصوف وعلومه إلى كونها طريق يتحقق بسلوكه صلاح القلب، ومعلوم أن إرادة صلاحه من الأسس المعتبرة التي جاء الإسلام لتحقيقها، إذ فيها صلاح الفرد وهو لبنة صلاح المجتمع بأسره، فيورد لذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله).
ومع التسليم له بأن هذا من مرادات الشارع الحكيم الكبرى، والتي أناط بها النجاة يوم القيامة، حيث قال عز من قال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ
(1) هو الشيخ الحافظ إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، السامراني البغدادي، ولد عام: 195، أخذ العلم عن يحيى بن معين، قال الحافظ الذهبي: له سؤالات نافعة عنه، ثقة زاهد ورع اشتهر بالرقائق وتهذيب النفس، وجد عليه بعض المآخذات إلا أن شيخ الإسلام رحمه الله كان كثيرًا ما ينفي نسبتها له ويعتذر له ويترضى عنه، وذلك مثل ما نقله عنه الكلاباذي حيث روى عنه أنه قال للشبلي: نحن حبرنا هذا العلم تحبيرًا ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رءوس الملأ: الترف، 145، وانظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء: (12/ 631)، وطبقات الحنابلة لأبي يعلى:75.
(2)
حاشية الجوهرة: 9.
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، إلا أنه لا يمكن أن نسلم له بأن التصوف هو السبيل إلى تحقيق هذه الأهداف السامية، ولعل في الحديث عن أصل التصوف والمراحل التي مر بها ما يكشف ولو يسيرًا عن هذه الحقائق التي يحاول التملص منها كل من نسب التصوف إلى نفسه. فقد تناول الصاوي عند بدء حديثه عن التصوف بيان اشتقاقه وأصله اللغوى، ولا شك أن معرفة هذه المسألة أصل يستدل به على حقيقة التصوف من حيث النشأة، وهذا ما يتأكد عند سبر الأقوال المختلفة في أصل هذه الكلمة، فقد اختلف الباحثون في ذلك تبعًا لبيان حقيقة التصوف ومنشئه الأصلى على عدة مذاهب:
المذهب الأول:
نرى الكلاباذى (1) صاحب كتاب التعرف يجمع الأقوال التي ترجع في نهاية الأمر إلى التأكيد على أن الصوفية إنما نشأت في تعاليم الإسلام، ويستمد للاستدلال لذلك بحياة الصحابة، بل وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا ما يؤكد به ما ذهب إليه، حيث يرجع الأقوال في حقيقة نسبة التصوف إلى ثلاثة أقوال لا يرى ثمة تعارض بينها البتة، يقول مفصلًا القول في ذلك:
قال قوم: إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدى الله جل وعز بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه.
وقالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها، قال بشر بن الحارث الصوفى: من صفا قلبه لله، وقال بعضهم: الصوفي من صفت لله معاملته، فصفت له من الله عز وجل كرامته.
(1) هو محمد بن إبراهيم الكلاباذى البخاري أبو بكر، من المحدثين، له عدد من المصنفات منها: التعرف لمذهب أهل التصوف، بحر الفوائد المشهور بمعانى الأخيار، توفى سنة: 380 هـ: معجم المؤلفين: (8/ 212).
وقال قوم: إنما سموا صوفية للبسهم الصوف.
وللجمع بين هذه الأقوال يرى الكلاباذى أن جميعها مستنبط من حال أهل الصفة، يقول: "ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا غرباء فقراء مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد، فقالا يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين، وكان لباسهم الصوف حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر.
وقال الحسن البصري: كان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ويأكل من الشجرة ويبيت حيث أمسى.
وقال أبو موسى: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف، ويركب الحمار ويأتى مدعاة الضعيف.
وقال الحسن البصري: لقد أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف ثم الصوف لباس الأنبياء وزى الأولياء". (1)
- المذهب الثاني:
ويتلخص هذا الاتجاه في بيان أصل التصوف بأن مبدأه إنما يرجع في الحقيقة إلى تاريخ العرب الجاهليين؛ حيث تنتسب كلمة صوفى إلى رجل يقال له صوفة، واسمه الغوث بن مر، فانتسب إليه الصوفية لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا ما رجحه ابن الجوزى رحمه الله، ولم يكتف بذلك بل رد الأقوال الأخرى حيث نقض القول بنسبتهم إلى الصفة لمخالفة الاشتقاق اللغوى، يقول "ونسبة الصوفى إلى أهل الصفة غلط، لأنه لو كان كذلك، لقيل: صفى". (2)
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف: 21 - 23، بتصرف.
(2)
تلبيس إبليس: 208.
ويتبين من هذا الموقف لابن الجوزى أن أصل التصوف يرجع إلى الجاهلية وأنه ليس له ما يستند إليه في عصر الرسول والصحابة من حيث النسبة والنشأة، مما يؤكد به غرابته وابتداعه وبالتالى خروجه عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، يقول:
"كانت النسبة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مسلم، ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقًا تخلقوا بها، ورأوا أن أول من أفرد بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام رجل، يقال له: صوفة". (1)
المذهب الثالث:
أما هذا المذهب فيبعد كل البعد عن هذه الأقوال المتقدمة، حيث جعل أصل التصوف مشتقًا من سوفيا وتعنى الحكمة، وهذا ما رجحه البيرونى مؤكدًا ذلك بتوثيق الصلة بين الصوفية وحكماء الهند؛ حيث التشابه الكبير بين الفكر الصوفى والفكر الهندوسى الفلسفى، وبهذا فهو يبعد تمامًا فكرة التأصيل الإسلامى له (2).
المذهب الرابع:
تبقى الإشارة إلى أن هناك من مال إلى القول بعدم الاشتقاق وأن هذا الاسم كاللقب اشتهرت به طائفة معينة ليس له أصل اشتق منه، وكان القشيرى هو من اشتهر عنه هذا الرأى، وتأكيدًا على ذلك فإنه يبين بطلان جميع الاشتقاقات التي قال بها غيره، يقول: "وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، وإلا ظهر فيه أنه كاللقب، فأما قول من قال: إنه من الصوف، وتصوف إذا لبس الصوف، فذلك وجه، ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
ومن قال: إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنسبة إلى الصفة لا تجئ على نحو الصوفى.
(1) المرجع السابق.
(2)
انظر: نشأة الفكر الفلسفى في الإسلام، للدكتور: على النشار: (3/ 42).
ومن قال: إنه من الصفاء - كقول الصاوي - فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد عن مقتضى اللغة.
وكذلك النسبة إلى الصف فإن اللغة لا تقتضى هذه النسبة" (1).
وعليه فإن هذا القول ليس فيه تمييز واضح لبيان نشأة التصوف.
المذهب الراجح:
من كل هذه الأقوال يمكن معرفة نسبة التصوف ببيان أنها مشتقة من لباس الصوف، ولكن ليس على جهة تجعل في لبسه اقتداء بالنبى وأصحابه الكرام مما يضفى على نشأته صورة مستمدة من خالص التعاليم الشرعية، بل على جهة تبين الاشتقاق الصحيح لهذه الكلمة وتدع لتأصيلها الدينى مجالًا تكثر فيه الأقوال بل وتتضارب، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام رحمه الله، حيث يقول بعد بيانه مناقضة الأقوال السابقة لأصل الكلمة من حيث اللغة: "وقيل وهو المعروف إنه نسبة إلى لبس الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن.
وقد كان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال: فقه كوفى، وعبادة بصرية، وقد روى عن محمد بن سيرين: أنه بلغه أن قومًا يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قومًا يتخيرون الصوف، يقولون: إنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدى نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره". (2)
والذي يظهر من كلام الشيخ أن في لباس الصوف اقتداء بالنصارى دون النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على النقيض من كلام الكاشاني السابق، وهذا ابن الجوزى يحكم على جميع الأحاديث التي ورد فيها نسبة لبس الصوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة
(1) الرسالة القشيرية: 279.
(2)
مجموع الفتاوى: (11/ 5). بتصرف.
التفضيل والتحسين بالوضع، فيقول: "ومن الصوفية من يلبس الصوف ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الصوف.
فأما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف، فقد كان يلبسه في بعض الأوقات، لم يكن لبسه شهرة عند العرب.
وأما ما يروى في فضل لبسه، فمن الموضوعات التي لا يثبت منها شيء" (1).
وقد أورد رحمه الله من الروايات ما يثبت بها مخالفة هذا المعتقد، وأن جذور هذا اللباس مستمدة من أصول ديانة سابقة، وهى المسيحية كما ذكر ذلك شيخ الإسلام، فيروى بسنده أثرًا مفاده أن رجلًا يدعى عبد الكريم جاء إلى أبي العالية وعليه ثياب صوف، فقال له أبو العالية:(إنما هذه ثياب الرهبان إن كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا)(2).
وقد روى أن: "عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف، ويأكل من الشجرة، ويبيت حيث أمسى"(3).
- وشيخ الإسلام إذ يقرر هذا، فإنه لا يرى صحة نسبة الصوفية أيضًا إلى ذلك الرجل الجاهلى المسمى بصوفة، مع صحة الاشتقاق من حيث اللغة، ويرجع ذلك لعدم اشتهار تلك القيلة من جهة، ومن جهة أخرى لأن الصوفية الأوائل كانوا من التدين والتمسك بمكان لا يقبلون فيه النسبة لأمر لا صلة له بالإسلام البتة.
ولعل في هذا ما يكفى لإبطال القول بنسبة الصوفية إلى سوفيا من حيث الأصل، لأن هذا بعيد من جهة اللغة والواقع الذي عرفت فيه الصوفية.
* * *
(1) تلبيس إبليس: 254.
(2)
تلبيس إبليس: 257، أخرجه البخاري في الأدب المفرد؛ كتاب من زار قومًا فطعم عندهم، رقم الحديث: 348 (1/ 441). وصححه الألباني في صحيح الأدب: 140.
(3)
عوارف المعارف: 59.
مراحل التصوف:
من ذلك البيان المسبق يمكن القول بأن التصوف ظهر في بيئة محافظة، عرفت بالعبادة والزهد، ولكن هذا لا يعني صحة ما ذهب إليه الصاوي من الحكم على التصوف بأنه فرع علم التوحيد، وأن استمداده من الكتاب والسنة، وأن واضعه هو النبي وأصحابه الكرام، بل يعد هذا في الحقيقة من قبيل التقارير الذاتية، التي لا تستند إلى الموضوعية البتة، وذلك لأن الحديث عن نشأة التصوف يعد حديثًا عن المرحلة الأولى من مراحل التصوف، الذي كان يميل في تلك الآونة إلى معالجة السلوك وتهذيبه بأنواع التبتل والانقطاع عن الدنيا، وذلك نتيجة لإقبال الناس على الدنيا والتفاخر بها، فكان هذا منهم كردة فعل اتجاه ذلك الانحراف الخلقي الذي ساد المجتمع في القرن آنذاك.
ومع وجود بعض المخالفات من أولئك الصوفية والتي حملت بعض الصحابة الكرام على إنكار تلك الأحوال إذ خرجت في مجملها على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام - رضوان الله عليهم -، إلا أنه لا يمكن أن يقال: إن التصوف بقى على تلك الحالة التي كان عليها أولئك الزهاد والعباد، بل يعد هذا القول من الصاوي محاولة متعذرة النجاح في الجمع بين فترات متباينة مختلفة أشد الاختلاف، ومن ثم الحكم عليها بحكم واحد دون تمييز، أو تنبيه.
والصواب في هذا أن التصوف قد مر بمرحلة بعد هذه المرحلة خرج فيها التصوف عن شعار الزهد والانقطاع عن الدنيا، فقد تحول التصوف من الجانب العملي إلى جانب التنظير والتقعيد، حيث ألفت التآليف وخرج القوم بأفعال خالفوا فيها السنة بوضوح، فبدلًا من المحبة استحدثت كلمة العشق كتعبير عنها، وصار الحب الإلهي هو عنوان السائرين إلى الله، فليس للخوف أو الرجاء مكانًا عليًا عندهم، وظهرت المصطلحات الغامضة كالفناء والبقاء والجمع، لتضيف نوعًا من التميز والخصوصية لأهل التصوف، ومع أنها في بادئ الأمر لم تصل إلى القدح في المعتقد، إلا أنه قد ردها الكثير من العلماء، وتكلموا في بيان ما تحمله من الاشتباه المخل بصفاء الإيمان وبرد اليقين (1).
(1) وسيأتي الحديث عنها فيما بعد بإذن الله: 700.
ولكل ما تقدم فقد توسعت في هذه المرحلة دائرة الابتداع، فلم يعد التكلف مقصورًا على السلوك فقط، بل تعداه إلى الاعتقاد، وهذا ما كان سببًا لظهور ألوان أخرى من البدع فتحت بابًا كبيرًا من الشر، حتى داخل الاعتقاد من أنواع الكفر والإلحاد ما الله به عليم، وكل ذلك كان خلف ستار مصطلح التصوف.
وكان مالك بن دينار (1)، ورابعة العدوية (2)، من كبار رواد التصوف في هذه المرحلة. (3)
وهذا ما نبه إليه الكثير ممن اعتنوا بدراسة التصوف والمراحل التي تطور بها، ففي كتاب الحياة الروحية في الإسلام، ذكر أن أول من نقل الزهد إلى التصوف بمعناه الخاص هي رابعة العدوية (4).
ولعل المتأمل لكلام ابن الجوزي السابق يلحظ هذا بوضوح، فالتدرج في الألفاظ على فترات متتالية يوحي إلى هذا التطور الذي حصل للتصوف.
وكما سبق وأن أشرت كانت هذه المرحلة المتوسطة بوابة للمراحل الخطيرة والتي دخلت فيها النظريات الفلسفية التي تناقض الإسلام تمامًا بل وتعارض أسس العقيدة
(1) هو أبو يحيى مالك بن دينار البصري، كان من الزهاد وعباد الصوفية الذين ظهر منهم بعض البدع، فقد ذكر في ترجمته أنه كان يأخذ الوعظ من التوراة وهذا مما لا ينبغي مع وجود الهدى المعصوم. توفي سنة: 131 هـ. انظر: وفيات الأعيان: (4/ 139).
(2)
هي رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية ولدت عام: 95، وعاشت ثمانين سنة، كانت زاهدة عابدة، إلا أنها أول من خرجت ببدعة العشق الإلهي في الإسلام، فقد نقل عنها أنه كانت تقول:
أحبك حبين: حب الهوى
…
وحبًا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
…
فذكر شغلت به عن سواك
أما الذي هو أنت أهل له
…
فكشفك لي الحجب حتى أراك
ولا يخفى ما في هذه الأبيات من سوء استعمال الألفاظ في مناجاة المولى تبارك وتعالى وكانت دائمًا تقول أنها لا تعبد الله خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته بل فقط من أجل حبه، وهذا كله ما ترده الآيات والسنن وأحوال الرسل قبل عامة الناس، قال تعالى في حال صفوة رسله وأنبيائه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . انظر في ترجمتها في وفيات الأعيان: (2/ 285)، سير أعلام النبلاء:(8/ 241).
(3)
انظر: الصوفية نشأتها وتطورها، للشيخ: محمد العبدة وآخرون: 19.
(4)
رابعة العدوية: 105.
فيه من الأصل، وكان من أقطاب هذه المرحلة: الفيلسوف ابن عربى الطائى، وابن الفارض.
فقد تأثر الاتجاه الفكرى في المجتمع المسلم بالمترجمات الفلسفية على مختلف أنواعها، فإذا كان علم الكلام مع ما فيه من المصطلحات الفلسفية كالجوهر والعرض وغيرها نتاجًا لاحتدام الصراع بين الفلسفة والمتأثرين بها من المسلمين، كان في المقابل علم التصوف وجهًا آخر ظهر فيه أثر ذلك الانحراف الفكرى الناتج عن التأثر بالفلسفة، ولكن خطورته فاقت جميع صور التأثر الفلسفى بأجمعها، حيث خرج التصوف في هذه المرحلة بأفكار كفرية ترتدى ثوب الإسلام لتقتلع جذور العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة من قلوب بعض المسلمين، ولعل تفسير ابن عربى لكلمة التصوف يعد أكبر دليل على ذلك حيث عرفه بأنه: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا وباطنًا وهى الخلق الإلهية، فهذا التعريف في الحقيقة مستمد من معنى الفلسفة التي عرفت بأنها: التشبه بالإله على قدر الطاقة.
ومن هنا نشأت العقيدة الضالة وهى القول بوحدة الوجود، والتى ترمى إلى عدم التفريق بين الخالق والمخلوق، وتدعى أن عين الوجود واحدة، وتأتى كتب ابن عربى الضال في الدرجة الأولى لتأصيل هذا الفكر المنحرف البعيد، المستمد من بطون كتب الفلسفة الإشراقية على الخصوص.
ولم تكن الفلسفة هي المؤثر الوحيد في الفكر الصوفى، فقد تأثر بروافد غريبة أخرى لا تقل خطرًا عن الفلسفة من حيث ما نتج عنها من انحراف خطير لا يمت إلى الإسلام بصلة: "منها نزعة الزهد عند فقراء الهندوس (1)، وغنوصية (2) مصر
(1) الهندوسية ديانة الهنود الوثنية، يعتنقها معظم أهل الهند، وقد تشكلت عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد إلى وقتنا الحاضر، وتقوم هذه الديانة على معتقد التثليت الذي يعد من أبرز سمات المعتقدات الوثنية، فبراهما وفشنو وسيفا آلهة ثلاثة في إله واحد، ومع ذلك فليس يمنع حصر الألوهية عندهم في تلك الآلهة الثلاثة من امتداد ذلك المفهوم ليعم جميع رجال الدين الهندوس الذين يعتقد فيهم القداسة لكونهم خلقوا من رأس براهما الإله الأب، ومع إخلاص الهندوس في التأله والعبادة والتأمل، فإن الأمل يبقى في إمكان تخلصه من رسوم البشرية ليحيى في عالم الإلهية بعد الموت، وبهذا تجد عقيدة وحدة الوجود عند الهندوس منزلة ثابتة تحمل الهندوس على تحريم قتل الحيوانات ذات الأرواح مهما كانت أنواعها. انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة: 531، وانظر: المعجم الموسوعي للديانات والعقائد: (3/ 912).
(2)
الغنوصية مذهب قائم على أن المعرفة هي الطريق إلى الخلاص، حيث أن الأرواح لا بد لها حتى تعود إلى عالمها الخير النوراني أن تتخلص من عالم الظلمة والحس بتلقي المعارف الإشراقية من مخلص يكون له القدرة على تلقيها من عالم الخير. انظر: المعجم الموسوعى: (2/ 620).
والشام، وبحوث الأفلاطونية الجديدة (1) عند اليونان المتأخرين، وتأثير الرهبان المسيحيين المنتشرين في جميع بلاد المسلمين. . .
وقد ازدهرت حركة التصوف في بلاد الفرس بنوع خاص، ولعل سبب ازدهارها فيها قربها من بلاد الهند، كما ازدهرت في جنديسابور بتأثير الديانة المسيحية، وتقاليد الافلاطونية الجديدة التي وضعها فلاسفة اليونان بعد أن فروا من أثينة إلى فارس عام 529 م". (2)
وقد ساق الباحثون في هذه المجال عددًا من الشواهد والأدلة، التي تؤكد حقيقة هذا التأثر، فبالنسبة للتأثر بالمسيحية، يعد استعمال الصوف الذي كان سببًا في نسبة الصوفية إليه أحد تلك الدلائل، ولعل في استعمال الخرقة كدلالة على التمسك بالطريقة، والتسبيح بالمسابح وما تخلق به الصوفية من العزوف عن الزواج والانقطاع في الخلوات ما يوثق القول بذلك التأثر.
أما عن التأثر بأديان الهند: الهندوسية والبوذية (3)، فأظهر ما يمكن أن يكون
(1) نسخة من الفلسفة الأفلاطونية التي تقوم على أساس اعتقاد أن كل هذه الموجودات ما هي إلا ظل خادع لحقائقها الثابتة في عالم المثل، وأنه حتى تتمكن الروح من الصعود إلى النموذج الأصلي لا بد لها من الحب المطهر الذي يكون بالتخلي عن جميع الشهوات الصارفة، انظر: المعجم الموسوعي، الدكتور سهيل زكار:(1/ 101).
(2)
قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة: محمد بدران: (13/ 214).
(3)
ديانة ظهرت في الهند بعد الديانة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد، تقوم على اعتقاد أن بوذا هو ابن الله وأنه هو المخلص للبشرية من كل مآسيها وأتعابها، فقد نظر بوذا إلى الحياة نظرة متشائمة وازدرى كل ما فيها من الملذات لأنها فانية ومشوبة بالكدر واعتقد أن الخلاص الحقيقي يكون بتطير الذات من إرادة الملذات الدنيوية، وإذا تم له ذلك فإنه يستحق الخلاص، وحتي يتم له ذلك فإنه يدعو إلى الخير والبذل والتسامح والقناعة والتأمل. انظر الموسوعة الميسرة:107.
دليلًا صادقًا على ذلك: المقامات في الفكر الصوفي خصوصًا ما يتعلق منها بمعرفة الله إن صح التعبير كالفناء والبقاء حيث يجتهد الهندوسي من أجل الخلاص من كل ما يمكن أن يعيق تحرره للوصول إلى النرفانا.
وتعني النرفانا تصفية النفس من كل متعلقاتها الشهوانية حتى تصل إلى مرتبة الاتحاد، فلا تعود مرة أخرى بعد الموت ملبسة بعقاب التناسخ الذي يحكم عليها بالحياة مرة أخرى في قيود الأجسام والشهوات (1)، وقد لا تتفق تمامًا حقيقة المعتقد، إلا أن التشابه واضح جدًا في جعل إشباع الحاجات البشرية من الطعام والشهوات ولو بصورة مباحة عائقًا من الخلاص، كما أن الغاية التي يرنو إليها الصوفي - الغالي - وهي الوصول إلى الفناء الوجودي، كبيرة الشبه بأمنية الهندوسي في الاتحاد.
وكان التأثر بالفكر اليوناني الأفلاطوني أحد العوامل التي لعبت دورًا خطيرًا في التنظير لفكرة الفيض والإشراق، والتي تبلورت عند السهروردى المقتول وابن عربي الطائي. (2)
ومهما قيل عن التأثير الفارسي في مذهب الإشراق، إلا أن رواسب الفكر الأفلاطوني في ذلك المذهب لتؤكد وبطريقة حاسمة أن هذا المذهب هو استمرار للفلسفة اليونانية بالصورة الأفلاطونية المتأثرة بتيارات الفكر الفلسفي التلفيقي، الذي راجت تعاليمه عند السريان، وانتقلت على هذه الصورة إلى المسلمين في عصر الترجمة.
يؤكد هذا أن "نظرية المتصوفين في الكشف والشهود إنما هي أفلاطونية حديثة في صميمها، وكذلك نظريتهم في المعرفة التي هي ترجمة لكلمة غنوص اليونانية، وفي النفس وهبوطها إلى هذا العالم، وفي العقل الأول والنفس الكلية، بل إن الفيوضات كلها مستمدة من مصادر أفلاطونية حديثة مع قليل أو كثير من التحوير"
(1) انظر: أديان الهند، محمد ضياء الرحمن الأعظمي:124.
(2)
انظر: تاريخ التصوف الإسلامي، عبد الرحمن بدوي:42.
"ولتوثيق هذه الحقائق تجدر الإشارة إلى أهم المؤلفات الأفلاطونية التي تم لها الترجمة فعرفها المسلمون في أواخر القرن الثالث الهجري، وكانت ملأى بهذه الأوهام الفلسفية، وهي: كتاب أثولوجيا أرسطاطاليس بمعنى: قول في الربوبية. وكتاب الإيضاح في الخير المحض، وكتب أحد القساوسة الذين تنصروا على يد بولس بعنوان: الله المقدس. (1)
ولما انحرف مصدر التلقي عند الصوفية، وصار سبيل المعرفة عندهم هو ما يتوصل إليه بالوجد والذوق والكشوف، اضطربت لديهم المفاهيم حول أصول العقيدة وقد "تجلى ذلك واضحًا في تفسير الولاية والنبوة والوحي ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء" حتى لا يكاد "يختلف في ذلك الصوفية المسمون بصوفية أهل السنة عن الصوفية الإشراقيين، أو ممن سموا بالصوفية المتفلسفين"(2)
ولعلي أفصل الحديث في هذه المهمات فيما بعد، ويكفيني هنا أن أشرت إلى بطلان القول بأن ما انتهى إليه التصوف مستمد من الكتاب والسنة، كما قرر ذلك الصاوي.
فإذا اتضح هذا فإنه من العجب أن يدعى الصاوي نقل علم الباطن والذي يقصد به التصوف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأي باطن هذا الذي نقل عنه، وإذا كان حقًا ما يقول فلماذا لم يظهر أثره على الصحابة الكرام؟ مع ما عرف عنهم من شدة المحبة له عليه الصلاة والسلام والتمسك بسنته واقتفاء أثره، حتى روى عن بعضهم أنه كان يقلده في مشيه وأكله وجلسته، كل ذلك رجاء الثواب الموعود به في مثل قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
وهذا ما يقال أيضًا في الوجه الآخر من محاولته تأصيل علم التصوف من جانب الشرع، حيث ادعى أن واضعوه هم الآخذون عن النبي بالسند المتصل، فأي سند
(1) انظر: أضواء على التصوف، لطلعت غنام:104.
(2)
التصوف الإسلامي، إبراهيم هلال:33.
هذا الذي نقل لنا ما اعتمده المتصوفة من بدعهم المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا في الحقيقة يرجع إلى اعتقاده استمداده من الكتاب والسنة الصحيحة. ولمخالفة كلام الصاوي في هذا صريح المأثور عن النبي فإنه يحاول أن يستخرج من معاني القرآن والحديث، ما يؤيد به موقفه التأصيلي للتصوف، فنراه يستخدم الإشارة والتأويل المنافي للتفسير بالمأثور من أجل تقرير تلك المعتقدات الصوفية، وسيأتي بيانها تبعًا للمباحث المتعلقة بآرائه السلوكية، فالطريقة وميثاق الشيخ مع المريد، كلها مما حاول تأصيله بهذا السبيل المبتدع.
* * *