الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: نقض وحدة الوجود:
إن نظرية وحدة الوجود التي تسربت إلى أوساط المسلمين من حطام العقائد الهندية واليونانية مما لا يخفى معارضته لأصول الدين الإسلامي، فكفر القائلين بها مما يعلم بالضرورة من الدين الإسلامي، إذ فيها مناقضة لحقيقة الإيمان بوجود الله تعالى ربًا متصفًا بصفات العظمة والكمال، يقول شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن بين بطلان ما يقوم عليه معتقد الفلاسفة في إثبات وجود الرب تعالى:"وهكذا أقوال من نسج على منوالهم وأخذ معانيهم فأخرجها في قالب المكاشفة والمشاهدة والتحقيق والعرفان كابن عربي وأمثاله. . فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء، فلو عدمت السموات والأرض لم يكن شيء موجود، ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني (1)، وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقًا له، ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور، وكان لا يحرم الفواحش ولا المنكرات"(2).
وبيان ذلك أن الإيمان بالله تعالى يقوم على ثلاثة أسس وهي توحيده بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وذلك الاعتقاد الضال وهو القول بوحدة الوجود ينقض هذا الأصل العظيم من أصول العقيدة الحقة، فالتوحيد بأقسامه الثلاث والذي يعني اعتقاد تفرد الرب تعالى بكل صفات الربوبية والعظمة والكمال ومن ثم صرف العبادة لمن قامت به هذه الصفات وحده لا شريك له ليس له مكانة عند القائلين بهذه الوحدة، إذ مؤدى هذه العقيدة الباطلة مساواة الرب تعالى بجميع خلقه في الاتصاف بهذه الصفات بمعنى تعطيله تعالى عن أي صفة لا يشاركه فيها الموجودات فلو عدمت السموات والأرض لم يكن ثمة موجود وراءها (3)، وهذا المراد بأحادية الوجود، فيبطل بالتالي حقيقة الإيمان بربوبية المولى القائم على اعتقاد الإثنينية في
(1) هو سليمان بن علي العفيف التلمساني، (610 - 690 هـ) كان أحد كبار غلاة الصوفية فقد امتلأت مؤلفاته النثرية والشعرية بالتنظير لهذا المعتقد المارق، انظر في ترجمته: البداية والنهاية: (13/ 326)، والأعلام:(3/ 130).
(2)
الرسالة الصفدية: 246.
(3)
انظر: الرسالة الصفدية: لشيخ الإسلام: 246.
الوجود: وجود الأول الآخر الظاهر الباطن، ووجود المخلوقات الفانية الحادثة من العدم والآيلة إلى عدم، وجميع رسالات الأنبياء إنما أتت لتدل على هذه الحقيقة إذ عبادة الله وحده لا شريك له تتضمن إفراده تعالى بما هو أهل له، وما من دليل يستدل به على وجوب توحيده تعالى بالعبادة إلا وهو يدل بالتضمن على هذا الأصل العظيم، ولكونه من الأمور المقررة في الفطرة السليمة فقد استدل به ولم يستدل له، قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} ، فإنه لبداهة امتناع القضيتين سكت عن بيان جوابهما.
وآيات الكتاب الحكيم في الدلالة على هذا كثيرة، وسورة الفاتحة التي تضمنت أصول الاعتقاد الذي تعبد الله تعالى به الخلق لتدل صراحة على نقض هذا المعتقد وإبطاله، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان رد هذه الآية على القائلين بهذا المعتقد الباطل: "العالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب مخلوق بالضرورة، وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فإذًا ربوبيته تعالى لكل ما سواه: تستلزم تقدمه عليه، وحدوث المربوب، ولا يتصور أن يكون العالم قديمًا وهو مربوب أبدًا، فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له، وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغني ولا قديم"(1).
* * *
ولما كانت هذه العقيدة مناقضة للأصل الذي قام عليه توحيد الألوهية: وهو إفراد الله تعالى بأفعال الربوبية، فقد أدت إلى معارضة حقائق العبودية وهدم مسلماتها، فقد اقتضى هذا الاعتقاد المارق كثيرًا من أسس الإلحاد في ألوهية المولى تعالى، والتي كان له قدم السبق في إرسائها عند من عمى عليهم فلم يعرفوا الحق من
(1) مدارج السالكين: (1/ 92).
الباطل، فوحدة الأديان التي لا تفرق بين كافر ومسلم كانت إحدى المسلمات التي تمخضت عنها هذه العقيدة المارقة، يقول ابن عربي:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
…
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
…
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
…
ركائبه فالحب ديني وإيماني" (1)
وكذلك إسقاط التكاليف، فليس ثمة فرق بين الرب والعبد حتى يجهد العبد نفسه بالتزام الأوامر والنواهي مع ذلك الاتحاد الموهوم، يقول ابن عربي:
الرب حق والعبد حق
…
يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت
…
أو قلت رب أنى يكلف" (2).
وإذا تبين ما في هذا المعتقد من نقض لأصول الإيمان وحقائق التوحيد فإن فيه أيضًا مناقضة لصريح المعقول ولا غرابة إذ لا معارضة بين النص الصحيح والعقل الصريح. وذلك لأن الوجود من الكليات التي ليس لها واقع إلا في جزئياتها المتحققة في الخارج، فمن غير الممكن إثبات المتعين في الواقع الخارجي بالكلي، لأن الكلي لا وجود له في الأعيان، وإنما وجوده في الأذهان، ولا يكون الشيء موجودًا في الخارج إلا مع تحققه بالصفات التي يتحقق بها وجوده وتميزه عن غيره من الموجودات، أما ما يذهب إليه هؤلاء من إثبات إله لا صفات له تباينه عن غيره من الموجودات فهذا من الأوهام الذاتية الباطلة التي مؤداها نفي الخالق، تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا.
ومن هنا فإنه لا يصح إثباتهم لوجود الله تعالى بهذه العقيدة الضالة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في محاجاة القائلين بهذه الأوهام أذناب الفلاسفة المجحفين: "فإذا ثبت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج
(1) ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأسواق، لابن عربي. نقلًا عن كتاب وحدة الوجود الخفية:419.
(2)
الفتوحات المكية: (1/ 15).
وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق، وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان، لا في الخارج، وكان عارفًا بهذه العلوم، وبينت له ما تستلزم أقوالهم الكثيرة من الجمع بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببداهة العقول، وما كان كذلك، فإذا ادعى أنه عرفه كشفًا وشهودًا أو ذوقًا علم أنه خيالات فاسدة، وأذواق فاسدة، وذلك أنه لا بد من أحد الأمرين:
إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان، فاعتقد وجوده في الأعيان، كما يقع لكثير من الناس، ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج، وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج، وكثيرًا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج.
وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج، فظن أنه الخالق، وإنما هو مخلوق ليس هو الخالق، فكل شهود وذوق وكشف يدعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله تعالى فذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل، ويخالف الكتاب والسنة والإجماع، فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال هو وجوده ولا ذاته". (1)
ولهذا فقد كان كفر هؤلاء الاتحادية أشد من اليهود والنصارى وعباد الأصنام، "فإن هؤلاء يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم، ولهذا يقولون إن النصارى إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقًا على وجه الإطلاق والعموم"(2).
ويقول الإمام الشوكاني بعد أن ذكر أقوال العلماء في تكفير هؤلاء أمثال ابن تيمية وابن القيم وعبد السلام وابن حجر وابن خلدون ما نصه: "فأنا لا أرضى لهم بمطلق الكفر، بل أقول: لا أعلم أحدًا من مردة الكفرة: النمرود وفرعون وإبليس والباطنية والفلاسفة بل نفاة الصانع، فإن هؤلاء نفوا الصنع فانتفى الصانع، فما
(1) بيان تلبيس الجهمية: (1/ 334).
(2)
مجموع الفتاوى: (3/ 396).