الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(المبحث الثالث): الأسماء والأحكام
من أهم القضايا التي تستند في مبدئها إلى إدراك حقيقة الإيمان والإسلام مسائل الأسماء والأحكام، والتى تعنى ثبوت وصف الإيمان والإسلام أو الكفر للمعين وما يترتب على ذلك من أحكام الوعد أو الوعيد.
فإن موقف الخوارج من مرتكب الكبيرة ونعته بالكفر، ومن ثم الحكم عليه بالخلود في النار؛ كان في الحقيقة ناتجًا عن فهمهم لحقيقة الإيمان الشرعية، فمع موافقتهم للسلف الصالح - رضوان الله عليهم - في كونه مركبًا من قول وعمل، إلا أنهم بمنعهم للزيادة والنقصان فيه؛ حكموا على كل من قصر بالعمل الواجب بالكفر، والخلود في النار.
هذا وقد تبعتهم المعتزلة في تعريف الإيمان الشرعي، وما يتبع ذلك من الحكم بالخلود في النار لمرتكب الكبائر (1)، إلا أنها امتنعت عن نعته بالكفر أو الإيمان لعدم توفر ما يقتضى التسمية بأحدهما من جهة الشرع، فعدلت عنهما إلى وصفه بالفسق في الدنيا (2)، وحكمت عليه بالخلود في النار لتحقق موجبه عندهم من الذم واللعن، الذي إذا اجتمع مقتضيه من العصيان مع الطاعة لغلب عليه؛ إذ النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. (3)
ولغلوهم في مكانة العمل من الإيمان، واعتقادهم أن الواجب منه بجميع أنواعه بمرتبة الأصل منه، لم يدركوا حقيقة الفرق بين الإسلام والإيمان؛ فظنوا أنهما بمنزلة واحدة من الدين، بحيث لا يمكن الانتقال من مسمى الإيمان إلا إلى الكفر
(1) انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: 707.
(2)
انظر: المرجع السابق: 697 - 701 - 702 - والفرق بين الفرق، للبغدادي: 115، والنبوات لابن تيمية:134.
(3)
انظر: الحق الدامغ، للخليلى:207. وشرح الأصول الخمسة: 606 - 707.
الصراح. (1)، وخالفوا بهذا صريح ما ثبت من النصوص الدالة على انتفاء الوصف بالإيمان لمرتكب الكبائر مع ثبوت الإسلام له، وأنه لا يخرج من كليهما إلا الكفر بالله تعالى. (2)
ولما استقر هذا الأمر في اعتقادهم وتمكنت هذه الشبهة العقلية حتى غدت أصلًا من أصولهم؛ بنوا على أساسها فهمهم لنصوص الشارع الحكيم، فأخذوا بعمومات الوعيد وأغرقوا في إعمالها على ظاهرها، وقصروا في الجهة المقابلة بما يتعلق بنصوص الوعد وأعملوا فيها بالتأويل والرد، ولهم في ذلك شبه، كلها ترجع إلى ما سبق بيانه من تغليب جانب الوعيد على الوعد.
هذا وقد أشرت سابقًا إلى الفرقة التي تبنت التيار المواجه لفكر الخوارج من أجل دحض ما خالفوا به إجماع الأمة، والثابت من النصوص الشرعية من عدم تكفير مرتكب الكبيرة، فقد حملهم هذا التوجه المندفع إلى عدم الفهم الصحيح لحقيقة النزاع أو ما يسمى بتحرير محل النزاع، فقاموا بشن هجوم عنيف على الحقيقة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة من كون الإيمان قول وعمل، ولم يدركوا أن السبب في الضلال أولئك هو القول بعدم الزيادة والنقصان، فأرادوا أن يدرؤوا باطلًا بآخر؛ فقصروا الإيمان على التصديق، ومنعوا إدخال العمل في مسماه حتى لا يؤدى التقصير فيه إلى ذهابه بالكلية. (3)
* * *
وقد التزمت الأشاعرة نفس الأصل المعتمد لدى الخوارج في منعهم من اعتقاد تشعب الإيمان لإمكان حصول التناقض باجتماع النقيضين عند زوال بعض الشعب
(1) انظر: شرح الأصول الخمسة: 705.
(2)
الشرح والإبانة على أصول الديانة، للإمام: ابن بطة العكبرى: 201.
(3)
انظر: الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان، لشيخ الإسلام:242. وقد سبق مناقشتهم في مبحث حقيقة الإيمان الشرعية.
دون بعضها، فإنه بزوال بعضه يجتمع مع نقيضه الكفر وهذا محال (1) ومن أجل التخلص من هذا الذي ظنته لازمًا لاعتقاد تشعب الإيمان، جعلته أصل واحدًا وهو التصديق، ومنعت زواله إلا بما يعرضه مباشرة من أنواع الكفر (2): كالتكذيب، والشك والنفاق، فأخرجت بذلك العمل بشتى أنواعه من حقيقة الإيمان، ولم يعد للتقصير في جانبه أثر في نقض الإيمان وهذا بحد ذاته تفريط مخالف في مقابل إفراط الخوارج وغلوهم. (3)
وقصروا في المقابل بقضايا الأسماء والأحكام. فنعتوا من استقر في قلبه التصديق بالإيمان، ولو فرط بالتقصير في الأركان، وحكموا له برضا الرحمن؛ فخالفوا بذلك المنزل من القرآن على من وصف بالبيان صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فمن أهم ما نتج عن هذا الفهم السقيم لحقيقة الإيمان بإبعاد العمل عن مسماه، ما ذهب إليه المرجئة في تفسير الإسلام، حيث فسروه بما يوافق معتقدهم في إبعاد العمل حتى لا يكفر تاركه عندهم، فقالوا حقيقة الإسلام هي: الإذعان، سواء أتبع ذلك بالعمل أو لا، وخالفوا بهذا ما هو معلوم من الدين بالضرورة. (4)
وبناء على ما تأصل اعتقاده عند الأشاعرة من الجزم بإنفاذ الوعد لكل من أتى منه التصديق، فقد اعتمدوا منهج الأخذ بعموم نصوص الوعد التي وجدوا في ظاهرها ما يؤيد مذهبهم وتقديمها على نصوص الوعيد في ذلك؛ وكثيرًا ما يكون إعمال هذا الأساس لتدعيم الشبه العقلية بالدليل الشرعي.
ولا يخفى ما في هذا الفهم من تفريط قابل إفراط الخوارج باقبح منه، فلم يعد لديهم ضابط للتكفير سوى الإقرار بما يخالف التصديق من الشك أو التكذيب، وصارت حقيقة التوحيد مقصورة على من أتى بالتصديق، ولو أتى بما علم مناقضته للدين بالضرورة. (5)
(1) انظر: الإرشاد للجوينى: 399. انظر: الإيمان لشيخ الإسلام: 387.
(2)
انظر: الإنصاف للباقلاني: 57.
(3)
انظر: فتاوى شيخ الإسلام: (7/ 510).
(4)
انظر: شرح العقائد النسفية: 159. والمبحث السابق في علاقة الإسلام بالإيمان.
(5)
المواقف: 388. وانظر: العقائد النسفية: 142. وانظر: مبحث التوحيد ونواقضه: 184.