الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقشة:
إن تفريق الصاوي بين الإيمان والإسلام مطلقًا من حيث المفهوم لا يسلم له في جميع الأحوال، وإنما فقط في حالة اجتماعهما معًا، وأنه في حالة الانفراد فإن العلاقة بينهما هي الترادف، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، منها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لوفد عبد قيس، حيث فسر الإيمان بأعمال الظاهر، فقال في معناه:(شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وتعطوا الخمس من المغنم). (1)
وهذا التفصيل في بيان علاقة الإسلام بالإيمان يستند إلى الأمور التالية:
- أولًا: التسليم بوجود مطلق التغاير بين الإيمان والإسلام؛ لعموم الأدلة التالية:
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35].
وقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وقوله عز من قائل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36].
وكذلك ما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص - رضى الله عنه - أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلًا لم يعطه - وهو أعجبهم إلى - فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، قال:(أو مسلمًا).
(1) أخرجه البخاري في: كتاب العلم - باب تحريض النبي وفد عبد قيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم، رقمه:87.
قال: فسكت قليلًا، ثم غلبنى ما أعلم فيه فقلت: يا رسول الله مالك عن فلان؟ والله إنى لأراه مؤمنًا. قال: (أو مسلمًا. . .). إلى آخر الرواية. (1)
وقد روى عن عبد الله بن الإمام أحمد أنه قال: [سئل أبى عن الإسلام والإيمان، فقال: الإسلام غير الإيمان](2)
كما دل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). (3)
قال: [يخرج من الإيمان إلى الإسلام، فالإيمان مقصور في الإسلام، فإذا زنا خرج من الإيمان إلى الإسلام](4).
- ثانيًا: إن التغاير لا يكون ألا في حالة ما إذا ذكر الإسلام والإيمان في موضع واحد.
- إن هذا التغاير مع التسليم بوجوده في حالات معينة؛ إلا أنه لا يمنع وجود تلازم بينهما، بحيث:
- ثالثًا: إنه في حالة انفراد أحدهما عن الآخر يكون مرادفًا له للأدلة التي استدل بها أصحاب القول الأول؛ من دلالة كل منهما على الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده. وذلك لعدة اعتبارات:
- دلالة كل منهما على مسمى الدين، وذلك من حديث جبريل عليه السلام حيث نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - بعد ذهاب جبريل إلى
(1) صحيح البخاري: كتاب الزكاة - باب قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} حديث رقم: 1478.
(2)
رواه أبو بكر بن الخلال في السنة: 604.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الأشربة - باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} ، حديث رقم:5578.
(4)
رواه أبو بكر الخلال في السنة: 603. والإمام ابن منده في الإيمان لابن منده: (1/ 311). وانظر: المسائل والرسائل للإمام أحمد: (1/ 110).
أن اختلاف تفسير الإيمان عن الإسلام لا يقضى بالتغاير، بل كل هذا من الدين الذي أتى جبريل عليه السلام من أجل بيانه وتعليمه إياه لكم. وكان هذا هو استنباط الإمام البخاري رحمه الله، حيث قال:[فجعل ذلك كله دينًا](1).
مما تقرر عند السلف أنه لا إيمان إلا بالعمل وكذلك لا إسلام إلا بالتصديق؛ فقد دلت نصوص الشرع على أن المؤمن، أو المسلم هو من استكمل فعل ما افترضه الله تعالى عليه. (2)
- اجتماع كل منهما في الدلالة على الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده وامتدح من اتصف به، ورتب السعادة في الدارين على الالتزام به. (3)
مما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].
وفي بيان وجه الاستدلال يقول شيخ الإسلام: "فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية". (4)
وفيما يلى كلام للإمام ابن رجب يوضح فيه بجلاء تام معنى قولهم: إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، يقول:"من الأسماء ما يكون شاملًا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالًا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالًا على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوى الحاجات والآخر على باقيها". (5)
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح: كتاب الإيمان - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة وبيان النبي، رقم الحديث: 37، وانظر: تعليق الإمام ابن حجر على كلام البخاري في نفس المعنى: (1/ 115).
(2)
انظر: فتاوى شيخ إلاسلام: (7/ 359).
(3)
انظر: تعظيم قدر الصلاة للإمام المروزي: (1/ 345). والمرجع السابق: (7/ 364).
(4)
مجموع الفتاوى: (7/ 364).
(5)
جامع العلوم والحكم: 109.
أما عن تطابق (الماصدق) عليهما، أي: أن المسلم هو المؤمن والمؤمن هو المسلم، فهذا أيضًا مما يلزم فيه التفصيل، فقد اتفق العلماء على إن كل مؤمن مسلم، أما الثانية وهى: أن كل مسلم مؤمن، فمحل اختلاف، فإن كل مسلم مؤمن من حيث وجود مطلق الإيمان معه، لا الإيمان المطلق، الذي يستوجب المدح؛ كما دل على ذلك قوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، فإن الإيمان قد يطلق ويراد به المدح، وقد يطلق ويراد به فعل لازمه، فهؤلاء الذين منعوا من إطلاق الإيمان عليهم؛ كان ذلك لوجود المانع من إطلاق مسمى المدح، والذي لا يتأتى إلا عند فعل الواجبات وترك المحرمات.
أما مطلق الإيمان فإنه لا يزول عنهم لارتكابهم بعض المخالفات التي تعد من المعاصى؛ فإن "نفى الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين"، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
فكل من قصر في شيء مما ذكر؛ بحيث لا يخرجه فعله عن أصل الإيمان، لا يعد "منافقًا من أهل الدرك الأسفل من النار، بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب". (1)
أما مطلق الإيمان فثابت له، ولكنه غير مستحق للاسم لوقوعه في مخالفة ما يقتضيه الإيمان الكامل الموجب للمدح.
ويستدل شيخ الإسلام رحمه الله لثبوت مطلق الإيمان لكل مسلم؛ بدخول كل من [المطيع والعاصي] من آحاد المسلمين في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6].
كما يستدل على نفى المسمى الإيمان الموجب للمدح بقوله صلى الله عليه وسلم: (أو مسلمًا. . .)، كما ذكرت ذلك سابقًا. (2)
(1) الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان: 254 - 257.
(2)
صحيح البخاري: كتاب الزكاة - باب قول الله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} حديث رقم: 1478.
وقد أشرت من خلال عرضي لرأى الشيخ الصاوي أنه في علاقة المسلم بالمؤمن قد وقع في نوع من التناقض؛ حيث أثبت وجود التلازم بين الإيمان والإسلام الشرعيان - وهذا التلازم في الأصل مسلم له - ولكنه مع ذلك أقر بإيمان من حصل منه التصديق ولم يتبعه بإقرار مع قدرته على الإتيان به، وخالف بذلك ما أوجبه في ثبوت الإسلام، وبإقراره لمثل هذا الإيمان جوز أمرًا قد أجمع السلف على بطلانه، وهو إثبات الإيمان للمعين مع انتفاء الإسلام عنه، فيكون بذلك مؤمنًا غير مسلم. فإنه مع تفسيره للإسلام بالإذعان القلبى، إلا أنه حكم بفرضية الإقرار لثبوت الإسلام للمذعن فلا يكون مسلمًا - عنده - إلا من ثبت عنه الإقرار، بخلاف باقي الأركان الخمس.
هذا مع أن القاعدة المجمع عليها، تقول: كل مؤمن مسلم، وإنما وقع الخلاف في العكس.
يقول شيخ الإسلام في بيان هذه الحقيقة: "وهذا الذي ذكروه مع بطلانه ومخالفته للكتاب والسنة هو تناقض. . . أما الجهمية فيجعلونه تصديق القلب، فلا تكون الشهادتان ولا الصلاة ولا الزكاة ولا غيرهن من الإيمان، وقد تقدم ما بينه الله ورسوله من أن الإسلام داخل في الإيمان، فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يكون مسلمًا، كما أن الإيمان داخل في الإحسان، فلا يكون محسنًا حتى يكون مؤمنًا". (1)
وقال رحمه الله أيضًا في معرض تفنيده لمثل هذه الأقوال التي تعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة: "ثم قولكم كل مؤمن مسلم، إن كنتم تريدون بالإيمان تصديق القلب فقط؛ فيلزم أن يكون الرجل مسلمًا ولو لم يتكلم بالشهادتين وما أتى بشيء من الأعمال المأمور بها، وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام".
(1) الإيمان: 148.
ثم بين - رحمه الله تعالى - بعد تمحيصه لحقيقة الفرق بين كلام السلف والمرجئة في العلاقة بين الإسلام والإيمان، مدى بعد ما أرادوا بقولهم كل مؤمن مسلم عن مراد السلف - رحمهم الله تعالى -، حتى قال:"فقولهم في غاية المباينة لقول السلف، ليس في الأقوال أبعد عن السلف منه". (1)
وحقيقة كلام المرجئة الجهمية مردود بكل حال؛ إذ التلازم بين الإيمان والإسلام يحتم أن يتبع التصديق العمل، وألَّا يحكم بإيمان من امتنع عن الإتيان به ما دام قادرًا على ذلك؛ لأن القاعدة تقول: الإرادة الجازمة مع القدرة التامة تنتج العمل (2) ، فما دام أنه قد صدق؛ فالواجب أن يظهر عليه لازم ذلك التصديق من العمل الواجب؛ وإلا امتنع الحكم عليه بالإيمان.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما ذهب إليه الصاوي في تفسير آية الأعراب بأن المراد من الإسلام فيها هو المعنى اللغوى وهو مطلق الانقياد، مؤكدًا بذلك على قضية التلازم بينهما هو أحد الأقوال فيها، والراجح أن المراد به - كما ذهب إلى ذلك جمع من أهل العلم - هو الإسلام الشرعي وأن ذلك لا يؤدى إلى منع التلازم بينهما بل يرجع إلى ما سبق بيانه من منع التسمية الموجبة للمدح، مع الإقرار بأصل الإيمان عندهم، وإلا لخرجوا من دائرة الإسلام بالكلية، وهذا ما يخالف معتقد أهل السنة والجماعة.
* * *
(1) الإيمان: 151.
(2)
انظر: الفتاوى: (7/ 525).