الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد بين رحمه الله أن وجه المغايرة بينهما هو اختلاف الأحكام الشرعية على جهة التفصيل، كما أشار إلى أن مكمن الاتفاق بينهما هو اتحادهما في الدلالة على أصول الدين.
وهذا الاعتقاد مبني في حقيقته على أن النسخ في الأخبار ممنوع تمامًا في حق المولى تعالى؛ لأنه خبر، والخبر: إما صدق وإما كذب، والله عز وجل منزه عن الكذب بأي صورة منه، بل وموصوف بأتم صفات الصدق وأكملها، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، قال المفسرون:"صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام".
أما نسخ الأحكام، فجائز لما يقتضيه كمال عدله سبحانه، قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
رأي الشيخ الصاوي:
يعرف الصاوي القرآن الكريم، فيقول:"القرآن لغة من القرء وهو الجمع" أما في الاصطلاح فإن: "المراد به: اللفظ المنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته المقرون بدعوى التحدى". (1)
ويقول واصفًا هذا الكتاب العظيم مفحصًا عن حقيقته عند قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]: "أي صيرناه مقروءًا، أي مجموعًا سورًا موصوفة بكونها عربية، رحمة منا وتنزلًا لعبادنا لعجزهم عن شهود الوصف القائم بنا.
فحدوثه من حيث قيامه بالمخلوقات، وقدمه من حيث وصف الله به، وقد تنزه وصفه عن الحروف، والأصوات، والجمع والتفرق، فتدبر".
فكان هذا التحرير منه دفعًا لما قد يورده المعتزلة من شبه للاستدلال على خلق القرآن
(1) حاشية الجلالين: (2/ 29 - 305)، وجوهرة التوحيد:47.
بهذه الآية الكريمة، يقول: "ودفع بذلك ما قيل: إن ظاهر الآية يدل على حدوث القرآن من وجوه ثلاثة:
الأول: أنها تدل على أن القرآن مجعول، والمجعول هو المصنوع والمخلوق.
والثاني: أنه وصفه بكونه قرآنًا، والمجموع بعضه لبعض مصنوع.
والثالث: وصفه بكونه عربيًا، والعربي ما كان بلغة العرب، وذلك يدل على أنه مجعول".
ومع إجابته المسبقة لهذه الشبه؛ فإنه يعتضد بما أجاب به أسلافه من الأشاعرة على هذا الاشتباه، يقول:"وأجاب الرازي أيضًا عن ذلك أن الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبات محدثة، وذلك معلوم بالضرورة وليس لكم منازع فيه"(1)
وفي بيان صفة نزوله يقول: "وأجيب بأن القرآن نزل جملة في بيت العزة في سماء الدنيا، وصار ينزل بعد ذلك مفرقًا فحين نزول هذه كأن الله تعالى يقول: "لا تنتظروا بعد ذلك حكمًا فقد أتممت لكم ما قدرته لكم وادخرته عندي" (2)
وقد تحدث عن عظمة القرآن الكريم واشتماله على أنواع الهداية والحق، وذلك عند قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، يقول:"فشبه القرآن بالروح من حيث إن كلَّ به الحياة، فالقرآن به حياة الأرواح، والروح بها حياة الأشباح"(3)
وفي بيان أوجه الإعجاز في هذا الكتاب العظيم، يقول:"ووجه إعجازه أن كلماته مائة ألف كلمة وأربعة وعشرون ألف كلمة، وكل كلمة لها مطلع وغاية وظهر وبطن، فتكون علومه أربعمائة ألف وستة وتسعين ألف علم وعلم يخلف الآخر، وأن ألفاظه في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة التي لا يصل إليه أحد"(4).
(1) حاشية الجلالين: (4/ 44). وانظر: (3/ 66).
(2)
حاشية الجلالين: (1/ 251).
(3)
المرجع السابق: (4/ 43).
(4)
حاشية الجوهرة: (47 - 48).
ويسترسل في الحديث عن أوجه عظمة هذا الكتاب المبين، يقول عند قوله تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] " أي ميزت لفظًا ومعنى:
فاللفظ في أعلى طبقات البلاغة، معجز لجميع الخلق.
والمعنى: كالوعد والوعيد، والقصص والأحكام، وغير ذلك من المعاني المختلفة.
فإذا تأملت القرآن تجد بعض آياته متعلقًا بذات الله وصفاته، وبعضها متعلقًا بعجائب خلقه من السموات والأرض وما فيهما، وبعضها متعلقًا بالمواعظ والنصائح وغير ذلك، قال البوصيرى:
فلا تعد ولا تحصى عجائبها
…
ولا تسام على الإكثار بالسأم (1) " (2)
وقد اشتمل حديثه عن عظمة هذا الكتاب على بيان مكانة القرآن الكريم بين الكتب المنزلة، وذلك عند قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، يقول:"أل في الكتاب للجنس فيشمل جميع الكتب السماوية، المهيمن: معناه الحاضر الرقيب، فالقرآن شاهد على سائر الكتب وعلى من آمن من أصحابها وكفر"(3)
ولتأثره الملموس في كثير من مسائل الاعتقاد بآراء الصوفية نجد أنه يفرق بين الظاهر والباطن في التفسير من حيث الجواز والمنع على مختلف طبقات أهل العلم، يقول:"فالمراد بالعوام علماء الظاهر، ليس لهم خوض في القرآن إلا بالمنطوق، وتكلمهم بالعلوم الإشارية التي هي للخواص فضول منهم فالتكلم في اللطائف لغير الأولياء فضول منهم، ويدخلون في الوعيد الوارد: (من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار)، ما لم يمن الله عليه بعلم لدني فحاله لا ينكر"(4)
(1) ديوان البوصيرى: 170.
(2)
حاشية الجلالين: (4/ 17).
(3)
المرجع السابق: (1/ 270).
(4)
الحديث أخرجه الترمذي بنحوه؛ في كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يُفسِّر القرآن برأيه (2950)، وقال: حديث حسن صحيح: (5/ 183)، وانظر: حاشية الصلوات: 63.