الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناقشة:
سبق وأن أشرت إلى أن أساس الضلال الحاصل في المسائل المتعلقة بالقدر؛ اعتقاد ثمة تناقض بين الشرع والقدر، وعليه فالواجب أولًا بيان انتفاء التناقض بينهما، وأنه لا يلزم لإثبات القدر القدح في الشرع؛ كما فعلت الجبرية، ولا يلزم لإثبات الشرع القدح في القدر؛ كما فعلت القدرية، وأن التسليم بكليهما يقتضى عدم الميل بأحدهما عما يجب فيه، لذا كان المنهج الصحيح هو التوسط وعدم ضرب نصوص الشرع بعضها ببعض، بل الإيمان بأن: كلا من عند ربنا، "فأدلة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب على شيء من الأعيان والأفعال، وعموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئًا بدون مشيئته وخلقه.
وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره، وقال: إنه ليس بفاعل شيئًا، والله يعاقبه على ما لم يفعله، ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه" (1).
والحقيقة أن الخروج عن نهج الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح أساس لكل ضلال وبلاء، فالتسليم بالقدر دون جدال ومراء من أعظم أسس الإيمان بهذا الركن العظيم من أركان الإيمان ذلكم أنه قد نهى عن الجدال في القدر والخوض فيه بلا علم فالله تعالى لم يأمر عباده ولم يتعبدهم بكيفية القدر؛ ولكن تعبدهم بالتسليم له، مع عدم ضرب نصوص الدين بعضها ببعض، يقول الإمام الطحاوي (2) "وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبى مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرًا وفكرًا ووسوسة، فإن الله طوى علم القدر عن
(1) شفاء العليل: 94.
(2)
هو الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن الملك بن سلمة بن سليم الأزدى الطحاوي الحنفى ولد سنة: 237 هـ، قال عنه الشيرازي: انتهت إلى أبى جعفر رياسة أصحاب أبى حنيفة بمصر، صنف في اختلاف العلماء وفي الشروط وفي أحكام القرآن العظيم ومعانى الآثار، توفى سنة:321. انظر: تذكرة الحفاظ: (3/ 808).
الأنام، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين" (1).
وعند سبر أقوال المخالفين لمنهج السلف؛ نجد أن الانحراف داخلهم من رد نصوص بعض الكتاب، أو استخدام بعض الألفاظ التي لم ترد في الشرع، فهؤلاء القدرية ردوا صريح الكتاب بأن الله تعالى خالق لكل شيء، وأنه لا أحد يملك الخروج عن مشيئته؛ كما قال:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، فدلالة هذه النصوص على إثبات خلق الله تعالى لأفعال العباد صريحة صحيحة، لا يجادل فيها إلا مكابر، قد قدم هواه على الشرع الحكيم، وليس في ذلك ما يبطل الشرع وحكمة المولى تعالى؛ كما فعل غلاة الجبرية، ومتوسطوهم، فالله حكيم يضع كل شيء في محله، وقد تقدم هذا كما أنه عز وجل لا يجبر أحدًا على فعله، فالجبر مما لم يرد لأفعال العباد؛ فلا يقال جبر وإنما خلق وجبل، فالله تعالى أعظم من أن يجبر أحدًا على شيء، وإنما يخلق ويجبل عبده على ما يريد؛ حتى يجعل العبد مريدًا لأفعاله عن اختيار ومشيئة (2).
لذا كان هذا من الألفاظ التي كرهها الإمام أحمد رحمه الله، فقد رد على من قال: إن الله جبر العباد، فقال: هكذا لا تقول وأنكر هذا وقال: يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وفي رواية أخرى أنه في رده قال: بئس ما قال، ولم يقل شيئًا غير هذا (3).
وجماع هذين الأمرين، أعنى: إثبات مشيئة العبد وإرجاعها أولًا وأخيرًا إلى مشيئة الرب تعالى، قوله عز من قائل:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، يقول شيخ الإسلام: "وهذه الآية رد على الطائفتين: المجبرة
(1) شرح العقيدة الطحاوية: 249.
(2)
انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام: (8/ 461).
(3)
المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد: (1/ 158).