الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى المقابل نجده يحرج كثيرًا على من اعتقد في الأولياء الضر أو النفع على جهة الاستقلال، يقول في تفسير قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]
"هذه الآية وإن كانت خطابًا لليهود والنصارى، إلا أنها تجر بذيلها على من يشرك بالله غيره من المسلمين، كضعفاء الإيمان الذين يعتقدون في الأولياء أنهم يضرون وينفعون بذواتهم ويحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ومع ذلك يحدثون بدعًا عظيمة ما أنزل الله بها من سلطان، ويجعلون تلك البدع طرقًا لهؤلاء الأولياء، ويزعمون أنها منجية وإن كانت مخالفة للشرع، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون". (1)
* * *
المناقشة:
لا شك أن في تفسير المتكلمين للشهادة على النحو الذي ذهبوا إليه مخالفة جلية لحقيقة التوحيد الذي دعا إليه الرسل بقولهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، إذ يلزم من كون الشهادة مفتاح الدين، وأساسه المتين أن تدل على المعتقد الذي تكون النجاة به بالمطابقة، وهو: إفراد الله تعالى بالعبادة، لذلك كان تفسير الشهادة الصحيح هو: لا معبود بحق إلا الله. ويستند هذا التفسير إلى دلالة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، فإن كلمة إله مأخوذة من التأله، والتأله في لغة العرب معناه: التنسك والتعبد. (2) يشهد له قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، قال:"وعبادتك". (3)
(1) المرجع السابق: (1/ 150).
(2)
انظر: لسان العرب: 13/ 469.
(3)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان: (1/ 54).
كما أن هذا المعنى يسنده فهم المشركين لهذه الكلمة الذين أنزل القرآن بلغتهم فإنهم حين أمروا بالإقرار بها لم يفعلوا، ولو كان معناها: لا خالق ورازق إلا الله -كما يعتقد المتكلمون - لما توانى المشركون عن التزامها، فإنهم حين ألزموا بها قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5](1) كل هذا يؤكد صحة ما ذهب إليه السلف في معنى شهادة التوحيد.
وكان هذا ما ذهب إليه الصاوى في حاشيته على الجوهرة وإن كان قد خالفه في الكثير من مؤلفاته خصوصًا حاشيته على الجلالين.
ولا شك أن في مخالفته التي تعددت منه متابعة للمتكلمين ما يلزم منه معارضة نصوص الكتاب والسنة والتى تدل صراحة على أهمية إفراد الله تعالى بالعبادة، وأنه المقصد الأسمى من التوحيد.
وإذا علم هذا بقى معرفة ما ينبنى على ذلك التصور من فساد يهدد المعتقد؛ إذ يؤدى إلى تضييق دائرة الشرك - ضد التوحيد - كما هو ظاهر من كلام الصاوى، حيث حكم على كافة الجن بأن كفرهم لم يكن بالشرك، وأن من وقع بالشرك من الإنس هم القليل، فخالف بذلك صريح النص من القرآن الكريم، قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
- ويستند هذا التصور لحقيقة الشرك واتساع دائرته - كما هو واضح في الأدلة الشرعية - إلى مكانة العبادة ومنزلتها من الدين، فإذا كانت العبادة مما يدخل في صميم التوحيد باعتبارها قسم من أقسامه؛ فلا بد أن يمثل صرفها لغير الله تعالى شركًا أكبر ينافى التوحيد.
هذا ومن أعظم دواعى الشرك، الغلو في الأنبياء والصالحين؛ فالغلو هو السبب في أول شرك ظهر على وجه الأرض، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد: 76.
أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. (1)
لهذا كان تحذير النبي عليه الصلاة والسلام شديدًا من مجاورة الحد في مدحه، حيث قال:(لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله). (2).
ومن ذلك ما ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدًا" (3).
وللغلو المنهى عنه مظهران عند الصاوى، الأول: الغلو في النبي، ويتمثل بما يصفه به من أوصاف تخرج به عن حدود البشر.
الثاني: غلو في الصالحين، ويتمثل بما يشرعه في حقهم من التبرك بذواتهم، وإباحة التعلق بأذيالهم والاستغاثة بهم.
أما ما يتعلق في حق النبي عليه الصلاة والسلام من حكاية قصة خلقه من نور الذات العلية بلا واسطة - تعالى الله عن ذلك - كما هو مشهور من أقوال المتصوفة (4) فبطلانها أظهر من أن يستدل له؛ إذ فيه مخالفة صريحة لما هو معلوم عن قصة خلق الإنسان الأول: آدم عليه السلام كما وردت في كثير من الآيات الكريمة، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 28].
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا} ، رقم الحديث:4920.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} ، رقم الحديث 3445.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر رضي الله عنهما، برقم:390.
(4)
انظر: مجموع الأوراد والأدعية والاستغاثات للبكرى.
هذا إلى جانب ما يلمس في حكاية القصة من تأثر بأقوال النصارى في المسيح عليه السلام، ولا عجب؛ فالدارس لأدوار التصوف الأخيرة يلحظ بتمام تأثرًا واضحًا بالأديان المحرفة والفلسفات القديمة، يقول أحد الباحثين في علم التصوف (1):"والواقع أن الحقيقة المحمدية أسطورة من الأساطير وهى في رأينا مأخوذة من النظرية النصرانية كما أن النظرية النصرانية مأخوذة من الفلسفة اليونانية. . . خصوصًا إذا علمنا أن ابن عربى وهو من القائلين بهذه النظرية، يقول: إنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية ومن أصول الديانة اليهودية والديانة النصرانية والديانة الإسلامية، ثم أحال ذلك كله إلى مزاج من الفكر الفلسفى الدقيق يعز على من رامه ويطول"(2)
كما أن اعتقاد الأصل النورى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه يعلم الغيب، وأنه واسطة بين الخلق والرب، وأنه لولاه لما وجدت الدنيا والآخرة، كل هذا مما يجزم بدخوله على المعتقد الصحيح؛ إذ فيه مناقضة صريحة لكل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، بل فيه إقرار لما ذهب إليه المشركون من استحالة إرسال البشر، وكم من الآيات تلك التي ترد على زعم أولئك الكفرة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] وحين كانت قريش تطلب منه المعجزات لإثبات نبوته أمر أن يقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].
كل هذا يؤكد بطلان تلك المزاعم وعلى رأسها ادعاء علم الغيب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ يعد علم الغيب من أخص ما يوصف به الرب سبحانه ولا ينبغى لأحد سواه، وقد ثبت هذا في كثير من آى الذكر الحكيم، قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].
وقال آمرًا سيد الأنام أن يقول: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
(1) زكى مبارك دكتور في الفلسفة.
(2)
التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق: (1/ 201).
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وبهذا يعلم أن في تقرير الصوفية لما يسمى بالحقيقة المحمدية خروجًا على مبادئ التصور السليم لحقيقة الأنبياء المرسلين، كما بينها القرآن والسنة المطهرة: من كونهم بشر قد خصهم الله تعالى بكلامه، قدراتهم محدودة، ليس لهم من الأمر من شيء، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا إلا بإذن الله. هذا والمتأمل لآيات الذكر الحكيم يجدها تبدى وتعيد في تقرير هذه الحقيقة؛ حتى لا يخرج الناس عن هذا التصور السليم إلى الشرك بالله، كما وقع ذلك من اليهود والنصارى لعنهم الله. وقد سبق بيان تحذير النبي عليه الصلاة والسلام من فعلهم.
أما عن التوسل بالصالحين، فلا بد من بيان الوجه المشروع، حيث دلت النصوص الشرعية أنه يحصل الانتفاع بالاقتداء بهم ومحبتهم، قال عليه الصلاة والسلام:(المرء مع من أحب)(1).
كما يحصل من دعائهم ومجالس علمهم، فقد روى الصحابى الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلًا، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونى؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتى؟ قالوا: لا يا رب، قال: فكيف لو رأوا جنتى؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروننى؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا نارى؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا نارى؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول:
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب - باب علامة حب الله عز وجل، رقم الحديث: 6168، =
قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) (1).
وهذا هو محل الشاهد من الحديث، قال الإمام الشوكانى رحمه الله:"جعل جليس أولئك القوم مثلهم مع أنه ليس منهم، وإنما عادت عليه بركتهم فصار كواحد منهم"(2).
وكل ما خرج عن هذا المعنى للتوسل المشروع، فإما أن يدخل بصاحبه في دائرة الشرك، أو في الابتداع المنهى عنه.
إذ التوسل بذوات الصالحين بريد لاعتقاد قدرتهم على التصرف بدفع الضر أو جلب النفع؛ لذلك حذر العلماء من ذلك ببيان ما يؤدى إليه من مفاسد جسيمة - كما أقر بذلك الصاوى في إنكاره لحال الكثير من المتصوفة - وليس بمخرج لهم اعتقاد أنهم عبيد ليس لهم استقلال في التصرف؛ فقد بينت النصوص الشرعية أن هذه هي حجة المشركين الذين أقروا بربوبية الله تعالى، وأرادوا التوسل إليه بعبادة الأصنام، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87].
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: "فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأن لا يرزق إلا هو، ولا يحيى ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت تصرفه .. وأن أوثانهم لا تدبر شيئًا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة"(3).
قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
= وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب - باب المرء مع من أحب.
(1)
أخرجه مسلم في كتاب الذكر - بابا فضل مجالس الذكر: (17/ 14).
(2)
تحفة الذاكرين: 44.
(3)
كشف الشبهات: 71.
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].
وقد أبطل سبحانه حجة المشركين في التوسل بهم، حيث قال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57].
وبهذا يعلم أن من توسل بالصالحين فصرف شيئًا من العبادة التي لا يستحقها أحد إلا الله لأحدهم؛ بحجة أن له جاه عنده سبحانه، فقد أتى بما هو من جنس فعل المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا التوسل بالدعاء الذي أقر الصاوى أنه جزء من أهم أجزاء العبادة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله يخطب ويقول:(إن الدعاء هو العبادة)(1) أو بأى نوع آخر منها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يمكن الإقرار بأن من يلتجئ لأحد عند الشدة لا يعتقد فيه القدرة على التصرف، بل لوضوح هذه الحقيقة استدل بها القرآن على استحقاق الله تعالى للعبادة؛ إذ هو الملاذ عند اشتداد الكرب بإقرار المشركين أنفسهم، قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
وللخروج من هذا الإلزام يتشبث الكثير منهم بوجوب إرجاع تلك القدرة الكونية إلى الله تعالى، ولكن هذا ليس بمخرج لهم؛ إذ يلزمهم إحضار البرهان، وأنى لهم ذلك، والبرهان يحكم ضدهم، فإذا كان سيد الخلق يؤمر بالجهر في تقرير بشريته، وأنه عبد وليس للعبد أن يتعدى حدود البشر: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ
(1) أخرجه الترمذي في سننه: كتاب التفسير - باب ومن سورة المؤمن، رقم الحديث: 3247 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح: (5/ 349)، وقال الحافظ ابن حجر إسناده جيد: الفتح: (1/ 49)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم: 2590: (3/ 101).
وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] فما حال أولئك الأولياء الذين يعتقد فيهم القدرة على التصريف الكونى الذي اختص الله تعالى به، كما في قوله:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فكيف يصح نسبة هذه المقدرة - التي اختص الله بها نفسه وأكد على ذلك بأداة الحصر إنما - لأحد سواه مع أنها من أخص ما يوصف به الرب سبحانه لتمام اتصافه تعالى بأوصاف الربوبية التي لا تنبغى لأحد سواه (1).
ومن العجب أن يشبه الصاوى حال الذاهبين إلى أولئك الأولياء أحياءً وأمواتًا للتبرك بهم والتعلق بأذيالهم لنيل الرحمة والبركة بحال الذاهب إلى البيت العتيق للطواف بالكعبة المشرفة؛ فهذا قياس باطل، وذلك من عدة وجوه:
الأول: أن الطواف حول الكعبة والذهاب إلى المساجد أمر قد تعبدنا الله تعالى به بنص الكتاب والسنة، فلا ينبغى الخروج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أمرنا باتباعه، حيث قال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وهذا الأصل يرجع إلى كمال الدين المنزل من عند الله تعالى، فأى ابتداع فيه دل على اتهام الشارع بالتقصير وعدم البيان، لذلك حذر النبي عليه الصلاة والسلام منه أيما تحذير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(2)"، ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقف، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الأسود، وقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك) (3) "(4).
(1) يشم من هذا الكلام رائحة الاعتقاد بوحدة الوجود والتى سيتم بحثها على جهة الاستفاضة في مبحث وحدة الوجود، بإذن الله:737.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم:2697. ومسلم، 30 - كتاب الأقضية، حديث: 17.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب الحج 60 - باب تقبيل الحجر، حديث: 1610 ولفظه: (لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك) ومسلم: 15 - الحج 41 - باب استحباب تقبيل الحجر: 248.
(4)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: 270.
الثاني: أن هذا قياس باطل؛ لأنه قد بنى على غير أصل، وهذا حال جميع البدع "فإن جميع البدع إنما هي رأى على غير أصل، ولذلك وصف بوصف الضلال"(1)، قال الإمام ابن عبد البر:"هذا هو القياس على غير أصل، والكلام في الدين بالتخرص والظن"(2).
الثالث: أنه ورد النص الصريح بالنهى عن تخصيص بعض الأماكن بالعبادة ومنها القبور، حيث قال عليه الصلاة والسلام:(اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(3) وعلة النهى وردت هنا صريحة؛ حيث ابتدأ النبي النهى بدعاء الله تعالى أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، فدل ذلك على علة تحريم اتخاذ القبور مساجد، يقول شيخ الإسلام:"فهذه المفسدة - التي هي مفسدة الشرك، كبيره وصغيره - هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا"(4). وقال: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها)(5) كل هذا مخافة الفتنة على الناس، وحماية لجناب التوحيد، قال الإمام الشافعي:"وأكره أن يعظم مخلوق؛ حتى يجعل قبره مسجدًا"(6).
الرابع: أن اعتقاد حلول البركة والرحمة في مكان أو زمان لا يكون إلا بدليل يدل عليه، فالله تعالى هو وحده المتصرف في الخلق يخص بعضه بما شاء من البركة واليمن، قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]؛ فليس لأحد أن يملك هذا الاختيار بل هو إلى الخالق جل شأنه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، يقول الإمام ابن القيم: "فذوات ما
(1) الاعتصام للشاطبى: (1/ 166).
(2)
جامع بيان العلم وأهله: (2/ 1039).
(3)
أخرجه الإمام مالك الحديث مرسلًا في الموطأ - كتاب قصر الصلاة في السفر - باب جامع الصلاة: 85: (172) وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رقمه: 7352، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح: (7/ 173).
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم: (2/ 80).
(5)
أخرجه مسلم في كتاب الجنائز - باب النهى عن الجلوس على القبر والصلاة عليه: (7/ 38).
(6)
كتاب الأم: (1/ 278).
اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها الله، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات وخصها بالاختيار، فهذا خلقه وهذا اختياره" (1).
وكما وردت الأدلة ببيان بركة المسجد الحرام؛ فقد وردت ببيان تعديها إلى غيره. وذلك بالثواب المضاعف والدعاء المستجاب والأمن من المكروه وغير ذلك مما ورد في بيان فضله، قال عليه الصلاة والسلام:(صلاة في مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)(2) يقول الإمام القرطبي: "جعله مباركًا لتضاعف العمل فيه، فالبركة كثرة الخير"(3).
وإذا علم هذا تبين أن الأمر تعبدى محض، لا مجال لقياس أمر خارج عنه بلا دليل.
أما الاستغاثة بالصالحين والتوجه إليهم عند الشدائد فهذا مما لا يحل؛ إذ الدعاء من أخص ما يجب صرفه لله تعالى، وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في الأمر بالإخلاص لله تعالى فيه، والتحذير من صرفه لغيره، فمرة يتجه الخطاب إلى النبي في التحذير من ذلك، قال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، ومرة يتجه الخطاب في ذلك إلى كافة الثقلين كما في قوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
إلى غيرها من الآيات التي تقرر مكانة الدعاء، ولزوم صرفه لله تعالى، ودحض جميع الشبه التي يستند إليها المشركون في صرفهم الدعاء لغيره سبحانه، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي
(1) زاد المعاد: (1/ 53).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدية، رقم الحديث: 1190، وأخرجه مسلم في كتاب الحج - باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.
(3)
الجامع لأحكام القرآن: (4/ 139).
الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23].
فهاتان الآيتان الكريمتان تدلان على النفى التام لكل ما يسوغ دعاء غير الله تعالى، حيث نفى عنهم: الملك والشركة والشفاعة والمعونة، فأى عقل بعد ذلك يسمح بالالتجاء إلى من هذه صفته، يقول الإمام ابن القيم (1) معلقًا على هذه الآية الكريمة:"فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها"(2).
وقد دلت السنة المطهرة على أهمية الدعاء وحذرت أيما تحذير من مغبة صرفه لغير الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام:(من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار)(3).
وقال في حديث ابن مسعود عندما سئل أي الذنب أكبر عند الله؟ : (أن تدعو لله ندًا وهو خلقك)(4) كما حذر من الاستغاثة بغيره سبحانه فقال: (إنه لا يستغاث بى، إنما يستغاث بالله تعالى)(5).
وكان - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - يربى أصحابه - وضوان الله تعالى عليهم - على التوجه إلى الله تعالى في كل شأن، ومن ذلك حديث ابن عمر -
(1) هو الإمام الهمام العالم الربانى أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن ايوب بن سعد الزرعى ثم الدمشقى الحنبلى الشهير بابن قيم الجوزية، ولد رحمه الله سنة: 691 هـ تفقه في المذهب الحنبلى وبرع فيه وأفتى كما برع في شتى العلوم الإسلامية من التفسير والحديث والفقه والعقيدة، كان من أشد تلامذة شيخ الإسلام ملازمة له وأخذًا عنه، كان عالمًا بمذاهب أهل التصوف وإشاراتهم ومواردهم، صنف في جميع ما برع فيه من العلوم، توفي رحمه الله سنة: 751 هـ. انظر: الدرر الكامنة، لابن حجر:(4/ 21)، شذرات الذهب:(6/ 168).
(2)
مدارج السالكين: (1/ 351).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} برقم: 4497. ومسلم برقم: 92.
(4)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الديات - باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} برقم: 6861، ومسلم برقم:86.
(5)
قال الهيثمي: [رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث] مجمع الزوائد: (10/ 159).
رضي الله عنهما - قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال:(يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم: أن الأمة إذا اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اتجمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام، وجفت الصحف)(1).
بل "كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام"(2) والحق أن كلام الصاوى نفسه قد دل على هذا، حيث أقر بأن الكثير ممن ينتمون إلى الطرق الصوفية قد استحوذ عليهم الشيطان، فصيرهم إلى اعتقاد حصول النفع والضر من أولئك الأولياء على جهة الاستقلال، فصار شركهم أعظم ممن اعتقد التوسل بها كحال مشركى قريش، يقول شيخ الإسلام:"وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم، لما كانوا من جنس عباد الأوثان؛ صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأصنام ويغويهم، فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان"(3).
* * *
(1) رواه الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق، برقم: 2516، وقال: حديث حسن صحيح: (4/ 575)، وأحمد:(1/ 293، 303، 307) وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي برقم: 2043: (2/ 309)، وظلال الجنة: 216 - 318.
(2)
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: 300.
(3)
المرجع السابق.