الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
يقوم المعتقد الصحيح في استحقاق قبول العمل كما تقتضيه حقيقة الإيمان الشرعية على أمرين أساسين، لا انفكاك لأحدهما عن الآخر وهما: صحة القصد وسلامة المنهج، فإخلاص العمل لله تعالى، مع موافقته لشرعه المطهر، أساس القبول من المولى تبارك وتعالى.
وعلى هذا الأساس قام بناء الدين متكاملًا، يدعو لتحقيق السعادة في الدارين، فإذا كانت دعوة الرسل الأولى هي الدعوة إلى التوحيد، والتجرد من كل ألوان الشرك المخلة بهذا الأصل العظيم، فقد بينت أيضًا وجوب الاستقامة على الشرع، وأناطت قبول ذلك الإخلاص المجرد لله تعالى بالتزام هدى الأنبياء والرسل، الذين هم ترجمان الوحى، والقدوة الحية، التي يستنير بها طلاب الهداية والخير.
قال تعالى موجهًا الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم بالاستقامة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15].
وقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] إن هذه الآية قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: (ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه)(1) لتكشف عن حقيقة الاتباع المأمور به، والذي يقتضيه صدق الإيمان بالله تعالى وبرسوله، وإخلاص التوبة له.
فالأمر بالاستقامة على دين الله هو حقيقة إقامة شرائع الدين المنزلة على المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كان تفسير سفيان له بقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} : استقم على القرآن (2).
(1) تفسير القرطبي: (9/ 107).
(2)
المصدر السابق.
ثم إن في هذه الكلمة وهى الأمر بالاستقامة في قوله: (فاستقم) دلالة على وجوب انتهاج الصراط المستقيم، الذي هو مطلب العبد، ومبتغاه الأسمى؛ للوصول إلى رضوان الله تعالى، وعليه فإن أي انحراف عن النهج السوى في امتثال شرع الله تعالى، يعد مسلكًا عوجًا ينأى بصاحبه عن سلوك الصراط المستقيم؛ ليوقعه في متاهات الهوى، فليس الأمر بالاستقامة على ما يشاؤه العبد، وإنما هو أمر اختص بما تصح به وجهته، أنه أمر بالاستقامة كما أمر المولى تعالى، لذلك أتى التحذير بعده من اتباع الهوى، حيث قال:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ، وهنا يأتى الأمر مرة أخرى بالاعتدال، وأخذ الحيطة في رسوخ القدم على الصراط المستقيم، فليس ثمة طريق للنجاة سواه، إنه التحذير من الطغيان؛ وهو مجاوزة الحد بعد النهى عن التفريط والإهمال، هكذا حتى يتم الثبات على الاستقامة المطلوبة، بلا إفراط أو تفريط.
وكلما تحققت مقومات الاستقامة من الإتيان بالعمل الصالح الناجم عن التصور السليم، المنبعث من صدق النية وصفاء الإرادة؛ كلما أتت ثمارها بإذن ربها، فتحقق بتحققها مقام الولاية الذي تعلقت به آمال الكثير، وأنيط به مقام الأمن والسعادة: ركنا النجاة ومقوماتها الأساسية، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
ومن هذا المنطلق أتى فهم السلف الصالح لحقيقة الولاية الشرعية، إن الولاية عند أهل السنة والجماعة؛ تعنى ثمرة الالتزام بطاعة الله تعالى وحسن التوجه له ظاهرًا وباطنًا، هكذا دون تشدق بالألفاظ المنمقة، التي ليس لها مستند من الشرع المطهر، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].
فالإيمان والتقوى قرينان يستلزم أحدهما الآخر، وهذا في الآية الكريمة من باب بيان الصفات التي تتأتى بها الولاية الموجبة للأمن في الدارين، أمن يورثه تحقق معية المولى في الدنيا بالنصرة والمحبة، وأمن يوم الفزع الأكبر، يوم تتلقاهم الملائكة بالتبشير.
فالولاية عند أهل السنة والجماعة لها جانبان: أحدهما من جهة العبد؛ قيامًا بأمر الله تعالى؛ طاعة وامتثالًا لما جاء به؛ واجتنابًا لما نهى عنه، ثم يكون التدرج في مراقى التقرب إلى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، كما جاء في الحديث:(ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)(1).
والجانب الآخر هو الذى يكون من جهة الرب تبارك وتعالى؛ جزاء لما كان من العبد، فيتولاه المولى بالقرب والرحمة.
ومع وضوح مفهوم الولاية عند سلف الأمة، فقد خالف في ذلك الكثير من الطوائف المبتدعة، وكان على رأسها طائفة الصوفية، التي نحن الآن بصدد الحديث عنها، فقد غلت في هذا المقام غلوًا أبعد بها عن مقتضى الأمر بالاستقامة، الذي هو أساس الدين، حتى أنه حين سئل النبي عن قول في الإسلام يكون جامعًا لأسسه، قال عليه الصلاة والسلام:(قل آمنت بالله ثم استقم)(2).
فصارت الولاية عند أكثرهم مرتبة لا ينالها إلا أهل الكرامات وخرق العادات، فليس صلاح الظاهر والاستقامة على الشريعة الغراء هو دليل تحققها للعبد، بل الترقى في مقامات الفناء والبقاء هو السبيل الأوحد إليها، والذي به تحصل الكرامات المنشودة، فتنكشف الأسرار وتتخطى النفس حجب المادة؛ لتسبح في عالم الملكوت، وتشارك في تصريف الكون، وكل هذا بإذن الله! .
* * *
(1) كتاب التوحيد - باب ويحذركم الله نفسه، رقم الحديث:6970.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب جامع أوصاف الإسلام، رقم الحديث:(2/ 9).