المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أمر المشايخ المريدين بتلاوة القرآن والتعبد به بعد كمالهم ونظافة - آراء الصاوي في العقيدة والسلوك

[أسماء بنت محمد توفيق بركات ملا حسين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: حياة الشيخ الصاوى

- ‌الفصل الأول: عصر الصاوي

- ‌(المبحث الأول): الحالة السياسية

- ‌الاضطرابات والقلاقل السياسية:

- ‌ مذبحة المماليك بالقلعة سنة 1811 م:

- ‌محاربة الدعوة السلفية:

- ‌ القضاء على الزعامة الشعبية والدينية بنفى عمر مكرم:

- ‌(المبحث الثاني): الحالة الاجتماعية

- ‌(المبحث الثالث): الحالة العلمية والدينية

- ‌الفصل الثاني: حياة الصاوى

- ‌(المبحث الأول): سيرته الذاتية

- ‌1 - اسمه ونشأته:

- ‌2 - صفاته وأخلاقه

- ‌3 -‌‌ شيوخهوتلاميذه

- ‌ شيوخه

- ‌تلاميذه:

- ‌(المبحث الثاني): مكانته العلمية ومؤلفاته

- ‌مكانتها العلمية:

- ‌الحواشى العقدية:

- ‌الفصل الثالث: منهجه في تحري مسائل الاعتقاد

- ‌(المبحث الأول): مصادره في العقيدة

- ‌أولًا: مكانة العقل في التلقى:

- ‌ثانيًا: حجية الإلهام:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مصادر التلقى:

- ‌ثانيًا: نقض دعاويهم في تقديم العقل:

- ‌ثالثًا: التناقض لازم لهذا المسلك:

- ‌رابعًا: حجية الإلهام:

- ‌(المبحث الثاني): منهجه في الاستدلال

- ‌أولًا: الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد:

- ‌مناقشة:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالسبر والتقسيم:

- ‌ثالثًا: الاستدلال بالقياس المنطقي:

- ‌المناقشة:

- ‌ثالثًا: منهجه في الاستدلال بالقرآن والسنة:

- ‌أولًا: الاستدلال بالنص:

- ‌ثانيًا: الاستدلال بالظاهر:

- ‌المناقشة:

- ‌مسلك التأويل والتفويض:

- ‌ أولًا المراد بالمتشابه:

- ‌ ثانيًا: المراد بالتأويل:

- ‌الباب الثاني: (آراؤه في العقيدة)

- ‌الفصل الأول: (آراؤه في معرفة الله والاستدلال على وجوده)

- ‌(المبحث الأول): معرفة الله تعالى

- ‌(تمهيد)

- ‌طرق المعرفة

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌التقليد وحكم المقلد

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الاستدلال على وجود الله تعالى

- ‌ دليل حدوث الأجسام

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌دليل الإمكان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثاني: (آراؤه في التوحيد)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): دليل التوحيد

- ‌رأي الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): شهادة التوحيد ونواقضها

- ‌رأى الشيخ الصاوى:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (آراؤه في الأسماء والصفات)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى

- ‌أسماء الله تعالى كلها حسنى:

- ‌أسماء الله تعالى توقيفية:

- ‌أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد:

- ‌ أسماء الله تعالى غير مخلوقة:

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): المسائل المتعلقة بصفات الله تعالى

- ‌أولًا: الصفات السلبية

- ‌ثانيًا: صفات المعاني

- ‌ثالثًا: الصفة النفسية

- ‌رابعًا: الصفات المعنوية

- ‌خامسًا: موقفه من الصفات الأخرى

- ‌ أولًا: صفة الرحمة والغضب والمحبة:

- ‌ ثانيًا الصفات الخبرية الذاتية:

- ‌الفصل الرابع: آراؤه في الإيمان

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الإيمان

- ‌رأى الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الأسماء والأحكام

- ‌أولًا: حقيقة الإيمان، وبيان ما يناقضه:

- ‌ثانيًا: تحقيق الوعد مع وجود مسببه من الإيمان:

- ‌ثالثًا: تحقق الوعيد مع وجود المقتضى من الكفر:

- ‌رابعًا: موانع إنفاذ الوعيد لأصحاب الكبائر من المسلمين:

- ‌خامسًا: الرد على شبه الوعيدية:

- ‌سادسًا: موقفه من مخالفيه (دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

- ‌الفصل الخامس: (آراؤه في الإيمان بالملائكة)

- ‌(المبحث الأول): الإيمان بالملائكة الأطهار

- ‌(المبحث الثاني) عالم الجن والشياطين

- ‌الفصل السادس: آراؤه في الإيمان بالكتب

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف الوحي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالكتب السابقة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌كلامه في التوراة:

- ‌كلامه في الإنجيل:

- ‌كلامه في الزبور:

- ‌مناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): الإيمان بالقرآن الكريم

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل السابع: آراؤه في الإيمان بالنبوات

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم النبوة والرسالة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بالرسل والأنبياء

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌التعليق:

- ‌أولًا: المفاضلة بين البشر والملائكة:

- ‌ثانيًا: عصمة الأنبياء:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالأحوال البشرية:

- ‌(المبحث الثالث): خاتم الأنبياء عموم رسالته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أسماؤه الشريفة:

- ‌مكانته بين الرسل:

- ‌خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌مظاهر الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: أسماؤه الشريفة:

- ‌ثانيًا: قضية التفضيل:

- ‌ثالثًا: الغلو فيه صلى الله عليه وسلم

- ‌(المبحث الرابع): دلائل النبوة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌الفصل الثامن: (آراؤه في الإيمان باليوم الآخر)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): تعريف اليوم الآخر، وأدلته

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثاني): الإيمان بأشراط الساعة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌تعليق:

- ‌(المبحث الثالث): الموت، وحياة البرزخ

- ‌الروح والموت

- ‌حياة البرزخ

- ‌(المبحث الرابع): حقائق يوم القيامة

- ‌ المحشر وعرضات يوم القيامة

- ‌الجنة والنار

- ‌الفصل التاسع: (آراؤه في الإيمان بالقضاء والقدر)

- ‌(المبحث الأول): القضاء والقدر (تعريفه ومراتبه)

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: تعريف القدر:

- ‌ثانيًا: تعريف القضاء:

- ‌ثالثًا: مراتب القدر:

- ‌مرتبة العلم:

- ‌مرتبة الكتابة:

- ‌مرتبة المشيئة:

- ‌مرتبة الخلق:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثاني): الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌موقفه من الظلم:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الظلم:

- ‌(المبحث الثالث): أفعال العباد

- ‌أدلة القدرية والجبرية:

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: أفعال العباد وحقيقتها القدرية:

- ‌ثانيًا: الأسباب، وموقف الناس منها:

- ‌ثالثًا: أدلة رجح بها مذهب الأشعري، ورد بها على مخالفيه:

- ‌الأدلة السمعية:

- ‌الأدلة العقلية:

- ‌رابعًا: حقيقة القدر في الفكر الصوفي:

- ‌المناقشة:

- ‌ نظرية الكسب في الفكر الأشعري

- ‌الفصل العاشر: آراؤه في الصحابة والإمامة

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): الصحابة الكرام

- ‌أولًا: تعريف الصحابة:

- ‌ثانيًا: فضائل الصحابة:

- ‌ثالثًا الدفاع عن الصحابة:

- ‌التعليق:

- ‌ تعريف الصحابة:

- ‌فضل الصحابة:

- ‌الدفاع عن الصحابة:

- ‌(المبحث الثاني): الإمامة

- ‌تعليق:

- ‌أولًا: حكم تنصيب الوالي:

- ‌ثانيًا: ما تنعقد به البيعة:

- ‌صفات الوالي:

- ‌تعدد الولاة:

- ‌حق الإمام:

- ‌الباب الثالث: (آراؤه في باب السلوك)

- ‌الفصل الأول: (التصوف وآدابه)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): مفهوم التصوف

- ‌(المبحث الثاني): آداب التصوف

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أهمية اختيار الشيخ:

- ‌صفات الشيخ:

- ‌آداب السلوك:

- ‌أولًا: ما يتعلق بآداب اختيار العلم:

- ‌ثانيًا: الآداب المتعلقة بحق الشيخ:

- ‌الآداب المتعلقة بجماعة الطلاب:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: مكانة علم التصوف بين العلوم:

- ‌ثانيًا: صفات الشيخ:

- ‌آداب التلقي:

- ‌احترازات في التلقي:

- ‌أولًا: طاعة الشيخ:

- ‌ثانيًا: التبرك بالشيخ:

- ‌ثالثًا: ملاحظة الشيخ:

- ‌رابعًا: الاستغناء بالشيخ:

- ‌الفصل الثاني: (المقامات والأحوال)

- ‌تمهيد

- ‌تعريف المقام:

- ‌تعريف الحال:

- ‌(المبحث الأول): أقسام المقامات (عند الصوفية)

- ‌الفناء والبقاء:

- ‌الجمع والفرق:

- ‌أحكام البقاء:

- ‌مقام الجمع:

- ‌مقام الفرق:

- ‌(المبحث الثاني): منهج الصوفية في التأصيل للمقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌(المبحث الثالث): وحدة الوجود ووحدة الشهود

- ‌أولًا: وحدة الوجود:

- ‌ثانيًا: وحدة الشهود:

- ‌المناقشة:

- ‌أولًا: نقض وحدة الوجود:

- ‌موقف الصاوي:

- ‌ثانيًا: حقيقة وحدة الشهود:

- ‌(المبحث الرابع): الترقي في المقامات

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌أولًا: عقبات الترقي:

- ‌ثانيًا: طريق الخلاص:

- ‌المناقشة:

- ‌الفصل الثالث: (الولاية والكرامة)

- ‌تمهيد

- ‌(المبحث الأول): حقيقة الولاية

- ‌ تعريف الولاية:

- ‌ حقيقة الولي

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌صفات الولي:

- ‌شرط الولاية:

- ‌الفرق بين الولي والدعي:

- ‌جزاء الأولياء:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌زمن الولاية:

- ‌المناقشة:

- ‌حقيقة الولاية:

- ‌ معرفة الولي:

- ‌طرق الولاية:

- ‌فضائل الأولياء:

- ‌مدة الولاية:

- ‌المبحث الثاني: حقيقة الكرامة

- ‌رأي الشيخ الصاوي:

- ‌المناقشة:

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: أمر المشايخ المريدين بتلاوة القرآن والتعبد به بعد كمالهم ونظافة

أمر المشايخ المريدين بتلاوة القرآن والتعبد به بعد كمالهم ونظافة قلوبهم، وما داموا لم يكملوا يأمرونهم بالمجاهدة بالذكر ونحوه لتخلص قلوبهم، والحكمة في ذلك أن الغفلة في الذكر أخف منها في القرآن لما في الأثر: رب قارئ والقرآن يلعنه، فجعل العارفون للتوصل للقرآن طرقًا يجاهدون أنفسهم بها ليزدادوا بقراءتهم القرآن علومًا ومعارف وأخلاقًا". (1)

‌المناقشة:

إن موقف الصاوي من أساليب التطهير والذي يتحدد في أن إرادة النجاة من النار والفوز من الجنة إحدى الحجب التي تحول دون إخلاص العمل لله تعالى يعد امتدادًا لما ادعاه أسلافه من الصوفية الذين تأثروا بالمذاهب الملحدة، فحقيقته مستوحاة من غير هدى الرسالات المنزلة التي تتفق مع القيم والمبادئ الفطرية على هيئة تتكامل فيها الفطرة بما جبلت عليه مع الهدى الذي أتى لتقويمها وسدادها في مسيرة متوازنة بعيدًا عن التناقض واختلاق العقبات.

إن نصوص الكتاب والسنة أتت صريحة بخلاف هذا الذي ذهب إليه بل بعده من الأباطيل التي ينقضها العقل والنقل، إذ الترغيب والترهيب من أهم المقومات التي ارتكزت عليها دعوة الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.

قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .

يقول الإمام ابن جرير: "أرسلهم الله مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين"(2)

وعليه فإن إغفال هذا الجانب الجزائى العظيم من عملية التربية الدينية يعد خطأ جسيمًا، وذلك لما يترتب عليه من أخطار عقدية وسلوكية يتحتم وجودها عند

(1) حاشية الجلالين: (3/ 62).

(2)

تيسير الكريم الرحمن: 207.

ص: 763

الإخفاق في هذه المهمة، إذ النفس مجبولة على محبة الثواب وإرادته، ولما كان الالتفات إليه في الدنيا مخل بحقيقة الإخلاص انعقد الخلاص بتوجيهه نحو الجزاء الأخروى الذي تعلقت آمال المخلصين بالحصول عليه.

ومن هنا أتى مدح المولى تعالى لخيرة عباده المؤمنين من المصطفين الأخيار، حيث قال في محكم التنزيل:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، يقول الإمام ابن جرير رحمه الله في بيان هذا الركن العظيم من أركان العبادة:"عنى بالدعاء في هذا الموضع: العبادة، كما قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48] ويعنى بقوله: (رغبًا)؛ : أنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله (ورهبًا): يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه، بتركهم عبادته، وركوبهم معصيته"(1)

بقى التنبيه على حقيقة المحبة التي أنيط الفوز ببلوغ العبد إياها، إن محبة الله تعالى أمر قد فطرت النفوس عليه إذ جبلها الله على محبة من أحسن إليها ولا أحد نعمه لا تحصى إلا إياه ومن هنا كانت محبته مخالطة لبشاشة قلوب الخلق، حتى كان هذا الأصل مما لم ينازع فيه أحد وإنما كان النزاع في حقيقة المحبة المرادة الشرعية، والتي أنيط تحقيق الأمل برضا الله عند تحقيقها في قلب العبد، يتجلى هذا المعنى وضوحًا في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هنا علق المولى حقيقة المحبة المرادة بشرط تحققها وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكما قيل لما كثر المدعون طولبوا بالبينة.

فالمحبة أصل التوحيد ولب العبادة ولكنها لا يمكن أن تتحقق بما يحفظ لها نقاءها مع امتناع الضابط والقائد، فالضابط هو الخوف من عذاب الله تعالى، فحتى

(1) جامع البيان: (17/ 83).

ص: 764

لا يخرج الهوى صاحبه عن طريق العبادة المتمثل بالمحبة إلى الهوى فيضل عن سبيل الله كان الخوف رادعًا وزاجرًا يهيب بالعبد من مغبة الإعراض عن أمره ونهيه.

وكان القائد هو الرجاء، فإذا استعدى الخوف بصاحبه أتى الرجاء قائدًا له حاديًا إلى مرضاة الله بعيدًا عن القنوط من رحمته وجنته.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله في بيان هذه القاعدة الجليلة: "إن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء.

وأقواها: المحبة وهى مقصودة تراد لذاتها، لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف، فإنه يزول في الآخرة، قال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

والخوف المقصود منه الزجر والمنع عن الطريق، فالمحبة تلقى العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه.

فالخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه" (1).

ومما يظهر به ضلال معتقدهم في تهميش جانب الرجاء، وجعله من عوائق الخلاص والترقى في مقامات العبادة والسلوك، أن غاية ما يرجوه العبد هو دخول الجنة، والتنعم بما فيها، وقد علم أن أعظم نعيم الجنة هو رؤية الله، قال عليه الصلاة والسلام:(إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل (2).

وبهذا يكون موقفهم من ترك عبادة الله بالرجاء مناقضًا لأصل ادعائهم المحبة،

(1) مجموع الفتاوى: (1/ 95).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان - باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، رقم الحديث:448.

ص: 765

فإن المحب مشتاق لرؤية محبوبه لا يزال يمنى نفسه بها ويعمل لأجلها، لذا كان من عذاب الكافرين أن الله لا ينظر إليهم يوم القيامة وأنهم يحجبون عن رؤيته، فلا يكلمهم ولا يزكيهم، وكان من أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه الكريم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} .

وإذا تم بيان مكانة المحبة في تحقيق العبودية، وجب أن يبين ما يجب أن يعبر عنها من الألفاظ حتى تبقى هذه الحقيقة الإيمانية في صفاء بعيدًا عن درن الضلال والزيغ الذي يمليه الهوى، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها في حق الله تعالى: ما يختص به ويليق به كالعبادة والإنابة والإخبات ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام والصبابة والشغف والهوى، وقد يذكر المحبة كقوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].

وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165](1).

ومن هنا ظهر ضلال من سمى محبة الله هوى وعشقًا كابن الفارض وغيره ممن تاهوا بإرادة هذه المعانى ولم يصلوا، وقد سبقت الإشارة إلى أنواع الإلحاد التي ارتادها ابن الفارض بهذا الحب المزعوم الذي سولت له نفسه أن يجعله مسوغًا له فيما ادعاه من أوهام الاتحاد، ومع موقف الصاوي التأويلى لهذا الإلحاد الذي عجت به أشعاره إلا أن الحق أحق أن يتبع، وعليه فما ذكره في البيت من أمر للناسكين بالتعلق بأذيال الهوى وخلع الحياء في ذلك محض ضلال وتيه وبعد عن مقتضيات المحبة الشرعية، التي لا سبيل إليها إلا بالتزام آداب الشرع ظاهرًا وباطنًا، ولو علم هذا المحجوب: ابن الفارض، وأمثاله، أن قرة عين المحب في رضا محبوبه عنه لما

(1) إغاثة اللهفان: (2/ 133).

ص: 766

تاه به المراد عن السبيل مع التلازم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} .

هذا وقد أصاب الصاوي في منعه إرادة المناصب أو الكرامات أو النعم المؤجلة أيًا كانت لذاتها، وجعلها من معوقات الوصول إلى الإخلاص. أما مع وقوعها دون تشوق قلب فذلك فضل الله وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(عاجل بشرى المؤمن)(1).

وكان حديث الصاوي عن النفس مع أثر تجليات الأسماء عليها في الترقى للوصول إلى أعلى المقامات محل نقاش في بعض ما ذكر، ويمكن إجمال ما يلحظ إليه في النقاط التالية:

أولًا: أنه جعل صاحب النفس الملهمة التي وردت في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} في مقام الفناء الذي هو محل سكر واصطلام، فكان هذا من باب تحميل النص ما لا يدل عليه، فإن الفناء الذي يحمل صاحبه على السكر مقام نقص، فمن غير الممكن أن تجبل النفس على إرادته، وليس فيه مراعاة للتقوى والوجل - كما ذكر - بل كثيرًا ما يدعى أصحابه سقوط التكاليف واستواء المأمور بالمحظور لمشاهدة المشيئة الكونية، يصدق هذا من كلام الصاوي ما نقله عن أحدهم في مقام الفناء: فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر.

وعليه فإن استدلاله بهذه الآية الكريمة على بلوغ النفس هذا المقام مما يرد عليه، ثم إن في نفس الآية ما يدل على مناقضة ما ذهب إليه لأن المراد بهذه الآية الكريمة بيان حقيقة النفس التي جبلها الله تعالى على معرفة الخير من الشر، حتى تقوم الحجة عليها ويصح تكليفها فلا حجة لها حينئذ في معصية الأوامر الشرعية وقد جبلت على تمييز الخير من الشر.

ثانيًا: أما تسمية النفس التي في مقام البقاء بالمطمئنة ففيه تفصيل، ويرجع إلى ما

(1) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الأدب البر والصلة والآداب - باب إذا أثنى على الصالح فهى بشري ولا تضره، رقم الحديث:6663.

ص: 767

سبق بيانه في الحديث عن مقام البقاء، فبن البقاء الذي لا ينافى الفناء هو ما يكون العبد فيه بحيث لا تحجب مشاهدة أفعاله تعالى عن إدراك الفرق بين ما يحبه تعالى وما يسخطه يصل بصاحبه حقيقة إلى مقام الطمأنينة والرضا، أما إذا أراد به المعنى الذي عليه عامة الصوفية والذي يظهر أنه المقصود من كلامه وهو مشاهدة الأفعال في الآثار حتى لا يرى معصية ولا يشهد كفرًا أو ضلالًا، فمعنى باطل ترده نصوص الكتاب والسنة وحقيقته غياب عن مقتضى العبودية الذي يلزم العبد باتباع المحاب واجتناب المساخط، وقد سبق تفصيل ذلك.

- وبناء على هذا الذي تقرر عنده في معنى المطمئنة فقد أوَّل دخول الجنة بتحقق وحدة الشهود، متبعًا بذلك مسلك الاستبطان في الاستدلال للأحكام الصوفية، وبطلان هذا الذي ذهب إليه أبين من أن يستدل له، ويكفى في رده أن القرآن أنزل بلغة العرب وليس هذا مما يراد بلفظ الجنة.

ومع أن الصاوي أشعرى المعتقد ولا يقول بالمعاد الروحى قطعًا، إلا أنه في تحريره لهذه الترقيات بوجهة نظر صوفية، كشف عن تأثر التصوف في مراحله الأخيرة بعقائد الفلاسفة في إثبات المعاد الروحانى دون الجسمانى، إذ غاية النعيم - عندهم - هو معرفة الروحانيات والتلذذ بها.

* * *

ثالثًا: لقد تابع الصاوي أسلافه المتصوفة في مفهوم تجلى الأسماء الحسنى على ذاكرها والمتعبد باستشعار معانيها، ولا يخفى ما في هذا من غلو مقيت يخلط الحقائق ويطوى المرادات الشرعية على خلاف ما يقتضيه إثبات آثار الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى.

فإذا كان الهدف الأسمى من العبادة السنية تحقيق الذل والافتقار إلى الله تعالى بالقيام بكل مأمور وترك كل محظور والازدياد من النوافل والقربات، فإن هدف العبادة الصوفية الترقى إلى مراقى الربوبية، وأنى لهم؟ بل هي مهاوى الإلحاد والمروق من الدين بالكلية، وبيان ذلك ما يلى:

ص: 768

إن توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته يقوم على نفى التمثيل والتشبيه والتحريف والتعطيل، وكلامهم في هذا التجلى المزعوم ادعاء لمشاركة العبد ربه في مقتضى الصفة، وهذا باطل شرعًا وعقلًا، فإنه متى قامت الصفة بالموصوف لزمها أمور أربعة: أمران لفظيان، وأمران معنويان:

فاللفظيان: ثبوتى، وسلبى، فالثبوتى: أن يشتق للموصوف منها اسم.

والسلبى: أن يمتنع الاشتقاق لغيره.

والمعنويان: ثبوتى، وسلبى، فالثبوتى: أن يعود حكمها إلى الموصوف، ويخبر بها عنه.

والسلبى: أن لا يعود حكمها إلى غيره، ولا يكون خبرًا عنه" (1).

وهذه قاعدة تتوجه إلى جميع من اتصف بصفة فعلم قيامه بها، وحقيقة هذا الحكم امتناع اتحاد الأفراد في الخارج لاشتراكها في أمر كلى، مثال ذلك صفة السمع فإن السمع إذا أفرد صار معنى كلى يشترك فيه كل من اتصف بهذه الصفة وليس يعني ذلك اتحاد المحل القابل للسمع فإن كل من له سمع في الخارج يختلف عن الآخر فسمع الإنسان ليس كسمع الحيوان وهكذا.

وهذه هي القاعدة التي قال عنها الإمام ابن القيم رحمه الله: أنها أصل أهل السنة الذي ردوا به على المعتزلة والجهمية وهو من أصح الأصول طردًا وعكسًا (2).

فإذا كانت هذه القاعدة يصح طردها في كل من اتصف بصفة أن يمتنع اتصاف غيره بنفس الصفة التي اتصف بها، فإنه يتعين مزيد بيان بالنسبة لصفات الخالق في مقابل صفات المخلوق، فكما أنه تعالى له ذات ليست؛ كالذوات فكذلك له صفات ليست كالصفات، "فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات".

(1) بدائع الفوائد، لابن القيم:(1/ 174).

(2)

المرجع السابق.

ص: 769

وهذا الأصل مستفاد من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

ومثال ذلك اتصافه تعالى بالسمع والعلم، كما في قوله تعالى:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، معنى ذلك أنه "هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرًا مما يعملون"(1).

- وبهذا يتحقق إيمان العبد بصفاته تعالى؛ فكلما ازداد العبد استشعارًا وعلمًا للفرق الذي بينه وبين خالقه؛ كلما تحققت عبوديته له وتأكدت، إذ العبودية التامة هي غاية الحب مع غاية الذل والافتقار، لذلك قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، إذًا فمقتضى العلم بمعرفة أسمائه وصفاته تعالى هو الالتجاء بها إليه تعالى بالدعاء الذي هو حقيقة العبادة.

وبيان ذلك أن الدعاء - كما سبق ذكره - ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ودعاء العبادة هو العمل بمقتضى تعظيم أسمائه فكل عمل ظاهر أو باطن صدر من العبد نتيجة لإيمانه بأسمائه وصفاته كالعلم والسمع والبصر والرحمة فهو من الدعاء بالأسماء، وكل سؤال توجه به العبد لربه سائلًا إياه بأسمائه فهو من الدعاء بها، وهكذا.

وبناء على ما تقدم فإن ما تقرر عند الصاوي متبعًا بذلك طريقة الصوفية من آثار بعض ما ذكر من الأسماء مردود عليه، فقد ذكر أن ترديد الضمير (هو) يكون للنفس الملهمة، وهذا مما لا أساس له، أولًا؛ لبدعية هذا الذكر، فذكر المولى تعالى المعتبر شرعًا لا بد أن يكون مقرونًا بتعظيم المولى وتبجيله، كقول: لا إله إلا الله، الحمد لله، سبحان الله، وقد ورد في أفضل ما يذكر به المولى تعالى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول:(أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله).

وحقيقة هذا؛ أن الكلام لا يضاف إليه مدحًا أو ذمًا حتى يظهر به المراد، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الذكر بالاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا بدعة في

(1) إغاثة اللهفان، لابن القيم:(1/ 97).

ص: 770

الشرع وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا" (1).

فكيف يكون مثل هذا الكلام عمدة لأهل التحقيق والعبادة؟

ومن هنا فقد حكم العلماء ببدعية هذا الذكر ووجوب رده على محدثه، استنادًا لقوله صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(2).

هذا وقد شرع ذكر الحق لمن صحا من سكره لأنه يفيد معنى الثبات والبقاء، وكأنه يريد بذلك أن هذه الصفة مع كثرة ترديدها تنعكس معانيها على قائله فتكسبه الثبات بعد سكره وغيابه، ونقض هذا يرجع إلى ما سبق وأن بينته من أسماء الله تعالى حقيقة فيه ليس لأحد أن يشاركه فيها كما أنها لا تستفاد أحكامها ومعانيها اللازمة لأحد مهما كثر ترديده لها فالله سبحانه فرد أحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فكل ما يناله العبد منها من آثار الإيمان بها، والتعبد بمقتضاها، إنما يتوقف على الأحكام المتعدية منها والتى ينالها أهل الإيمان بإيمانهم بها والعمل بما يلزم من ذلك الإيمان.

فإن الإيمان بأن الله هو الحق كما دلت على ذلك النصوص الشرعية يثمر الاعتقاد الجازم بأن الله هو الموجود الباقى إذا الحق من صفات الله تعالى التي تفيد الثبات وتفيد البقاء والوجود الذي لم يزل ولا يزال متصفًا بالجلال والجمال والكمال، فقوله حق وفعله حق ولقاؤه حق، وهو الحق الذي لا يعبد غيره، فكل ما عبد من دونه باطل زائل:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32](3).

فآثاره في قلب العبد يقينًا بوجود الله الذي لا يعتريه زوال فهو الأول والآخر،

(1) مجموع الفتاوى: (10/ 397).

(2)

أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الدعوات عن رسول الله - باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، رقم الحديث: 3383: (5/ 431).

(3)

انظر: النهج الأسمى: (2/ 12 - 13).

ص: 771

وإيمانًا باستحقاقه لصفات الربوبية والألوهية، وكل ما خلا ذلك من أوهام الصوفية، فلا حجة فيه ولا معتمد.

أما ما ذكره من أن اسمه الحى إذا ردده العبد بعد الصحو من الفناء فإنه يخلع عليه صفة الحياة السرمدية، فهذا باطل ليس له أساس من الصحة، فصفة الحياة لله تعالى من الصفات الذاتية اللازمة، التي تعنى اتصافه بالحياة على جهة لا يماثله فيها أحد، كما في آية الكرسى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] فقد نفى تعالى عنه السنة وهى النعاس ليثبت في مقابلها كمال حياته وقيوميته، فأين هذا مما يدعيه أولئك؟ وقد دلت النصوص على جهة لا تحتمل الشك أن كل مخلوق فهو إلى فناء وأن البقاء لله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].

وهذا أيضًا ما يقال في صفة القيومية، فإنه تعالى لما وصف نفسه بالحياة الذاتية التامة، بين أن كل موجود سواه إنما كان بإيجاده له وقيوميته عليه فهو القائم على كل نفس خلقًا ومشيئة إحياء وإماتة، وعلى كل موجود حفظًا ورعاية وإبقاء وإفناء، فهو الحى القيوم الذي قامت به السموات والأرض.

وبهذا يعلم أن الأثر التعبدى للإيمان بهاتين الصفتين إنما يكون باستشعار الذل والافتقار لكمال الواحد القهار الذي بيده ملكوت كل شيء ومن ثم إفراده تعالى بالعبادة دعاء واستغاثة وتوسلًا ومحبة، لا كما يدعى هؤلاء من مزاعم التجلى التي هي صورة من صور الفيض الكفرى الإشراقى الذي جاء به فلاسفة اليونان.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في وصف حال من ظهر عليه آثار التعبد بهذين الاسمين العظيمين: أن من شهد وصفه تعالى بالحى القيوم فإنه يلمس "في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًا إليه، من جهة كونه ربًا ومن وجهة كونه إلهًا معبودًا لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره، فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى، وإنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم

ص: 772

له معرفة هذا الفقر. فإن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية، اتصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناه حينئذ من فقير، وما أعزه من ذليل، وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد، فهو الغنى بلا مال، القوى بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفى بلا عتاد، قد قرت عينه بالله، فافتقر إليه الأغنياء" (1).

وكذلك صفة القهار لله عز وجل فإن العبد إذا علم ما اتصف به تعالى من القوة والغلبة والقهر كان ذلك دافعًا له للخوف والعمل، كما أن من أثر الإيمان بهذه الصفة أن يزداد توكلًا عليه وتوجهًا فلا يخاف في الله أحدًا، وبهذا تظهر عزة المؤمن وكبريائه أمام أعداء الله؛ فالحكم لله العلى الكبير.

* * *

(1) طريق الهجرتين: 51.

ص: 773