الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويشرع في بيان معجزاته عليه الصلاة والسلام: "مما يجب علينا اعتقاده أن الله أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم معجزات أي خوارق للعادات كثيرة لا نهاية لها، قيل: أعطاه الله مائة ألف وسبعين ألف معجزة منها مائة ألف في القرآن، والسبعون في غيره"(1)
ويرى أن حادثة الإسراء والمعراج من جملة معجزاته، يقول:"ومن جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى على ظهر البراق، وجبريل على يمينه، وميكائيل عن يساره".
ومن تلك المعجزات "انشقاق القمر فلقتين في السماء متباعدتين، بحيث كانت كل واحدة فوق جبل.
ومنها تسبيح الجماد في كفه صلى الله عليه وسلم؛ لما ورد أنه قبض على حصيات في كفه فسبحن حتى سمع لهن حنينًا كحنين النحل، ثم ناولهن أبا بكر فسبحن ثم ناولهن عثمان فسبحن، ثم وضعهن على الأرض فخرسن، ففى ذلك كرامة للصحابة أيضًا. (2)
ومنها نطق الحيوانات كالضب والظبية والبعير" (3).
ويؤكد على أهمية الإيمان بآحاد المعجزات الواردة، حيث يقول:"فمن أنكر الإسراء كفر لتكذيبه القرآن". (4)
* * *
تعليق:
لا ريب في أن كلام الصاوي المتعلق بالاستدلال على النبوة قد وافق الصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة، ولى أن أضيف بعض ما يحسن إضافته إلى ما ذكر مع شيء من التفصيل وذلك ضمن النقاط التالية:
(1) حاشية الجوهرة: 47.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط - باب تسبيح الحصى: مجمع البحرين في زوائد المعجمين للهيثمى، برقم 3520 - 3521:(6/ 152)، وذكره في المجمع وقال: رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفى بعضهم ضعف، وسكت عن رواية الطبراني:(8/ 299).
(3)
حاشية الصلوات: 55.
(4)
المرجع السابق: 48.
أولًا: طريق الاستدلال بالمعجزات والبراهين:
لا شك أن هذا الطريق فيه تمام الكفاية على إثبات صدق الرسول في دعوته، فإن في سنة الله تعالى الجارية بتأييده لأنبيائه ورسله بالمعجزات؛ لأكبر شاهد على أهمية المعجزة وكونها من أوضح البراهين الهادية للإيمان بالرسل.
وتحقيق هذا أن المعجزة خرق للعادات الجارية بالسنن الكونية بما يحصل التحدى به بحيث يخرج موجبها المقتضى لتحققها عن مقدور البشر فتصبح بذلك آية واضحة تستند في وضوحها إلى المسلمات الفطرية من وسائل الإدراك الحسية التي لا يمكن بحال التردد في مصداقية ما تتوصل إليه من نتائج دالة على كونها مرادة لتأييد من أجريت على يديه.
يقول ابن الوزير (1) في هذه الحقيقة: "فالنظر في المعجزات الواضحات والخوارق الباهرات كان به إيمان عامة أهل الإسلام في زمن الرسول عليه السلام، وبه كان إيمان السحرة في زمن موسى عليه السلام"(2).
وهذا الأصل في إثبات الرسالة لا يمكن التشكيك في أهميته، ومع هذا فالغلو في حصر الدلالة به غير مسلم، فأمر الرسالة من العظم بمكان؛ بحيث لا يمكن أن يكون طريق العلم بها محصورًا في دليل بعينه، وهذا ما نبه إليه شيخ الإسلام في كثير من مؤلفاته القيمة.
ثانيًا: الاستدلال بحال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما اتصف به من صدق ورجاحة عقل وعدالة مشهود لها في قومه، وتقوم هذه الدلالة على استقراء مجموع أحواله قبل البعثة وبعدها مما يصل بالمستبين إلى درجة اليقين من استحالة
(1) هو الإمام العلامة محمد بن إبراهيم بن على المرتضى الحسنى القاسمى، من أعيان اليمن قال عنه الحافظ ابن حجر: كان مقبلًا على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة، له مصنفات نفيسة منها: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبى القاسم، وتنقيح الأنظار في علوم الآثار، والروض الباسم في الذب عن سنة أبى القاسم، توفى سنة: 840 هـ: الأعلام للزركلى: (5/ 300). ومقدمة كتاب العواصم: (1/ 5).
(2)
العواصم والقواصم: (1/ 206).
كذب من استقامت أحواله بالصدق التام والعقل الراجح والخلق العظيم، فالصدق وهو أعظم ما يبحث عنه من أحوال مدعى النبوة تتأتى طرق معرفته من جهات متعددة بحيث يسهل التمييز في شأن من ادعاه كذبًا وزورًا ممن قامت أحواله به حتى استحق الاتصاف به على جهة العلمية كما كان شأن المصطفى عليه الصلاة والسلام.
هذا والقرآن الكريم في كثير من المواضع يلفت أنظار الممترين إلى كثير من الحقائق المعهودة في أحوال الرسل والتى امتزجت بها شخصيته عليه الصلاة والسلام، مما لا يدع لهم مجالًا للشك والتمادى في طرق الغواية بعيدًا عن الاعتراف بهذه الحقيقة الإيمانية، وفى ذلك كان قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لو لم تكن فيه آيات مبينة
…
كانت بديهته تأتيك بالخبر (1)
ثم إن في صفات الرسول الأخرى، كالخلق الرفيع والأمانة والنزاهة وإرادة الخير والبعد عن مواقع الريبة ما يجزم بصدقه فيما ادعاه، وبهذا استدلت السيدة خديجة رضي الله عنها على نبوته عليه الصلاة والسلام وردت عنه ما خالجه من ريبة في أمره، حيث قالت:"فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق"(2)
يقول شيخ الإسلام في تعليقه على هذه المقولة العظيمة: "وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة، ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه، وأيضًا فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام فإنه كان نبيًا وكان بنوه يعلمون نبوته وأحواله بالاضطرار، وقد علم جنس ما يدعو إليه الرسل وجنس أحوالهم، فالمدعى للرسالة في زمن الإمكان إذا أتى بما ظهر به مخالفته
(1) ديوان حسان بن ثابت: 1/ 482.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدأ الوحي - باب كيف كان بدأ الوحي، رقم الحديث:3.
للرسل علم أنه ليس منهم، وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم أنه منهم لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر، وعلم أن لذلك الرسول صفات متعددة تميزه عمن سواه، فهذا قد يبلغ بصاحبه إلى العلم الضرورى بأن هذا هو الرسول المنتظر، لهذا قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] " (1)
وهذا هو مصداق قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فإنه عز وجل قد هيأ لأمر الرسالة من علت أحوالهم البشرية حتى وصلوا إلى ذروة الكمال الممكن لها؛ وذلك بما اتصفوا به من عظيم الخلق وجمال الخلق، وقد قال تعالى في معرض امتنانه على أشرف خلقه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
ومعلوم أن في انفضاض الناس عن المرسل ما يقضى بانتفاء الغاية التي من أجلها كانت الرسالة؛ إذًا فانتفاء هذا الحال عنه فيه إشارة إلى أن أحوال الرسل محض عناية من الله تعالى، إذ يتوقف عليها القيام بأمر الرسالة من حيث التحمل والأداء، وعليه فإن انتظام هذه المقامات العالية في شخص ما مع ادعائه للنبوة في وقت إمكانها ليقضى بصدقه فيما ادعاه كما تقرر ذلك من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام. (2)
ولا شك أن في انضمام هذا المسلك إلى المسلك الذي قبله ما يصل بالمتأمل فيهما إلى درجة اليقين، يقول الإمام ابن الوزير:"إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة أوصافه، وقرائن أحواله لتفيد العلم الضرورى العادى وحدها، فإذا انضمت إلى المعجز محت الوسواس وأطفأته، كما يطفئ الماء النار"(3).
ثالثًا: الاستدلال بحال الدعوة نفسها وهو في الحقيقة استدلال بالركائز التي يقوم عليها أمر الدعوة وما يترتب عليها من نتائج فعالة على الفرد والمجتمع، فإنه مما علم
(1) الأصفهانية: 162.
(2)
انظر: منهاج السنة: (2/ 419 - 420).
(3)
العواصم والقواصم، لابن الوزير:(1/ 207).
ضرورة من حال الأنبياء في دعوتهم الأمم العناية بأمر التوحيد ونبذ الشرك وأهله، وأيضًا الاهتمام بمصالح الأفراد وذلك بالحث على التمسك بفضائل الأعمال والأقوال، وكان هذا المسلك في تقرير النبوة هو حقيقة ما استند إليه النجاشي في التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال:[إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة]. (1)
وفى هذا المعنى يقول شيخ الإسلام "وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل"(2)
وإن مما يتعلق بشأن الدعوة ما يترتب عليها من نتائج تظهر محكمة في حال المدعين فإنه من أصدق ما يستدل به على صدق مدعى الرسالة استمرار شأنها بعلو أتباعها ونصرتهم وخذلان أعدائها وضعتهم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109].
يقول شيخ الإسلام رحمه الله؛ استدلالًا بهذه الآية الكريمة على هذا المسلك: "ومثل هذا في القرآن متعدد، ففى غير موضع يذكر الله تعالى قصص رسله ومن آمن بهم وما حصل لهم من النصر والسعادة وحسن العاقبة، وقصص من كفر بهم وكذبهم وما حصل لهم من البلاء والعذاب وسوء العاقبة، وهذا من أعظم الأدلة والبراهين على صدق الرسل وبرهم، وكذب من خالفهم وفجوره. كمن شاهد أصحاب الفيل وما أحاط بهم ومن شاهد آثارهم بأرض الشام واليمن والحجاز وغير ذلك"(3)
(1) رواه أحمد في المسند من حديث جعفر بن أبي طالب، رقمه: 1740، قال عنه الشيخ أحمد شاكر:"إسناده صحيح": (2/ 354).
(2)
الأصفهانية: 159.
(3)
الأصفهانية: 176. وانظر: النبوات: 37.
وقد جمع الاستدلال بهذين المسلكين: حال المرسل والمرسل به هرقل ملك الروم، وذلك حين أرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعوه إلى الإسلام وأبو سفيان في بعض أسفاره في الشام مع بعض أصحابه فاستدعاه هرقل وسأله عن بعض ما يمكنه من معرفة مدى صدق الرسول فيما دعاه إليه، فجعل يسأله وأمر من معه أن يصدقوه أو يكذبوه فيما يجيب به سؤاله، قال أبو سفيان حاكيًا قصة الحوار الذي دار بينهما: "ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ - قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ - قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ - قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ - فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ - قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ - قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ - قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ - قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكنى كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذا الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ - قلت: نعم.
قال فكيف كان قتالكم إياه؟ - قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم؟ - قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله، لقلت رجل يأتسى بقول قيل قبله.
وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف عنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه" (1).
هذا وقد أفرد الصاوي القرآن الكريم بالذكر، كدليل صادق في إثبات نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، والحق أن مسلك الاستدلال بالقرآن يرجع إلى الجمع بين الاستدلال بالمعجز وبين الاستدلال بحال الدعوة، أي بما تضمنه من أخبار وعلوم حوت مبادئ الدين الذي أنزل ليكون دستورًا له حافظًا لمقومات بقائه من الأصول والمبانى التي لا قوام له إلا بها، مع كونه قد حصل به الإعجاز التام وذلك
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي - كيف كان بدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث:7.
من عدة جهات، أولها النظم فقد تحدى المولى به على أقصر سورة منه، قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
كما أن القرآن العظيم يحوى من الأخبار والعلوم الشاهدة والغائبة ما يحيل إمكان نسبته لبشر مهما بلغ من العلم والعقل، وقد شهد بهذا أعتى من استنكف عن الاستسلام لمقتضى الإقرار بإعجازه ودلالته على صدق من أتى على يده، ويحكى لنا القرآن في ذلك موقف الوليد وكيف أنه تبين له الحق ولكن كفره وبغيه حال دون الإيمان برسالة المصطفى عليه السلام.
ومن هذا المنطلق في الفهم لحقيقة الاستدلال بالقرآن العظيم على نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أن الإعجاز الحاصل بطريقه حاله ليس كحال باقي المعجزات الحاصلة على أيدى الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، إذ أن اتحاد عدد من الأدلة في دليل واحد يقضى بقوته واستعلائه على غيره.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن استقلال المدعو له بالدلالة على صدقه ليقضى باستحقاقه الكافى في الاستغناء عما سواه؛ مما يشهد بصدقه كدليل خارج عنه، فدلالته عندئذ تكون مرتبطة به بحيث لا يمكن بحال الفصل بين حقيقة الدليل والمستدل له، مما يحمل على الجزم بتصديقه دون أدنى ارتياب في أمره، فـ "القرآن هو بنفسه الوحى المدعى، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحى، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه". (1)
وهذا ما وصفه به الرب تعالى إذ قال في محكم التنزيل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
(1) مقدمة ابن خلدون: 95، ولمزيد من التوسع يوصى بالرجوع إلى: مبحث الأدلة العقلية للنبوة، من رسالة: المعرفة في الإسلام، لفضيلة الشيخ د/ عبد الله القرني:120.
والحديث في أوجه إعجار القرآن الكريم حديث متصل العظمة، مستجمع أقطاب الكمال، إذ تقصى مكامن علوه وهيمنته ليعد في حقيقة الأمر ضربًا من المحال، ويكفى في الإشارة إلى ذلك بيان حقيقة القرآن من حيث إنه كلام الله تعالى خرج منه وإليه يعود، ففضل كلامه تعالى على كلام خلقه كفضله هو سبحانه على سائر خلقه، ومن هنا أتى معجز الألفاظ، تقاصرت عن محاكاته همم البلغاء من أهل الفصاحة والبيان، فالتحدى به باقٍ إلى قيام الساعة.
حقيقة المعجزة:
أما ما ذهب إليه الصاوي في بيان حقيقة المعجزة بأنها الخارق للعادة وجعل هذا القيد في التعريف قدر مشترك بينها وبين غيرها، كالسحر والكرامة فلا يحصل - عنده - به التمييز إلا بإضافة قيود أخرى تمنع من دخول غير أفراد المعرف فيه، فهذا غير صحيح؛ لأنه يقضى باتحاد الماهية وأعنى بها الجنس الذي يشمل المعرف وغيره لاتفاقه معه من جهة الذاتيات المشتركة، ولو مع إثبات تغايرهما من جهة الذاتيات المميزة، كما ذكر الصاوي في القيود الأخرى للتعريف.
وذلك لأنه لا يمكن بحال الجمع بين هذه الحقائق المختلفة تحت جنس واحد؛ لوجود المغايرة التامة في جميع أجزاء الماهية.
يقرب هذا أن حقيقة الخرق للعادة في كل ما ذكر مما سوى المعجز عند التحقق لا يعد خارقًا في الأصل من كل الجهات، فالسحر والكهانة وهما أشد ما يكون غرابة ومخالفة للمعهود عند عامة الناس "أمور معتادة معروفة لأصحابها ليست خارقة لعاداتهم، وآيات الأنبياء لا تكون إلا لهم ولمن تبعهم" كما أن "الكهانة والسحر يناله الإنسان بتعلمه وسعيه واكتسابه، وهذا مجرب عند الناس، بخلاف النبوة؛ فإنه لا ينالها أحد باكتسابه"(1)
"أما كرامات الصالحين فهى من آيات الأنبياء، ولكن ليست من آياتهم الكبرى ولا يتوقف إثبات النبوة عليها، وليست خارقة لعادة الصالحين، بل هي معتادة في الصالحين من أهل الملل في أهل الكتاب والمسلمين"(2)
(1) النبوات، لشيخ الإسلام:215.
(2)
المرجع السابق: 443.
كما أنها مما يتأتى بطرق الاكتساب الشرعية فليست في معنى المعجزة من حيث إنها محض فضل من الله يؤيد به من أرسلهم هداية للعالمين.
ومن كل ما سبق يتبين أن خرق العادة حقيقة لا تكون إلا للمعجزة، أما غيرها وإن شوهد مخالفته للمعهود إلا أن هذه المخالفة لا تخرج عن كونها نسبية إضافية لا تستحق إطلاق لفظ الخارق عليها، والذي يوحى بمجانسته لجنس المعجزات من هذا الوجه وهذا المعنى هو مصداق قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وكان ما ذكره الصاوي من قيود أخرى في التعريف تفرق بين المعجز وغيره صحيحة لا جدال فيها. وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في معرض بيان ما يفرق به بين السحر والمعجزة إلى كثير من الفروق الأخرى المهمة والتى تمثل في الحقيقة أسس الاختلاف بينهما، فكان الاستدلال بحال الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وما يدعون إليه أكبر ما يفرق به بين ما يدعيه أولئك الدجاجلة وبين ما يؤيد الله تعالى به رسله من المعجزات، وكان ما ذكرته في حقيقة المعجزة من عدم إمكان اكتسابها ومن كونها خارجة عن مقدور جميع الجن والإنس هو الفارق الجوهري الذي يخرج المعجزة عما يمكن أن يلتبس بها على بعض ضعاف العقول. (1)
وما ذكره عن كثرة معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام فصحيح ومع هذا فلم يرد دليل يعتمد عليه في حدها بعدد معين (2) وكان ما أشار إليه من أعظم معجزاته: كحادثة انشقاق القمر، ففى صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: (قد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انشق القمر فلقتين، فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول الله: (اللهم اشهد) " (3)
(1) انظر: النبوات: 439.
(2)
انظر: في هذا الباب كتاب: دلائل النبوة للإمام إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني، تحقيق: مساعد الراشد الحمديد.
(3)
أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار - باب انشقاق القمر: (17/ 144).
كذلك حادثة الإسراء والمعراج فقد نطق الكتاب العزيز بهذا كما تواترت به الأحاديث بما لا يشك فيه وعليه فلا ينكر هذا إلا زنديق لا يعول على كلامه.
وكانت حادثة نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام من معجزاته، فقد ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتى بقدح رحراح، فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه، قال أنس: فحزرت من توضأ، ما بين السبعين إلى الثمانين) (1)
ومعجزاته كما وردت في الصحاح كثيرة لا مجال لحصرها هنا ويكفى العلم بأن الله تعالى قد خص نبينا بالكثير من المعجزات الدالة على تأييد الله تعالى له وكان أعظمها المعجزة الخالدة معجزة القرآن العظيم التي تحدى الله تعالى بها الأمم إلى قيام الساعة.
* * *
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الوضوء من التور، رقم الحديث:200.